الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هل كان الصحابة كلهم مجتهدين:
إلى هذا نحى البوصيري1 في همزيته إذا يقول: كلهم في أحكامه ذو اجتهاد، وأبقاه الهيتمي2 وغيره على ظاهره، والذي يقتضيه كلام ابن خلدون في المقدمة، أن منهم من بلغ رتبة الاجتهاد ومنهم من لم يبلغها، فكان يقلد من بلغها؛ إذ كان منهم من لم يسمع منه عليه السلام إلّا الحديث الواحد، ومنهم من لم يسمع، ومنهم أهل البدو الذين كانوا بعيدين عن مركز العلم، وهو الذي صرّح به السيوطي في كتابه الرد على من أخلد إلى الأرض3، ونحوه قال السخاوي في شرح ألفية العراقي، نقلًا عن ابن المديني أن المذاهب المقلدة أربابها من الصحابة ثلاثة: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، قال: وكان لكلٍّ منهم أتباع في الفقه يدوّن علمهم وفتواهم وقولهم.
قلت: والصحابة من جملة من دخل في خطاب: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 4، فيقضي أن بعضهم يسأل غيره من أهل الذكر، والمجتهد لا يقلد غيره، وذلك دليل أن فيهم من ليس مجتهدًا، وقال والد العسيف الذي زنى بامرأة مستأخره: وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام. الحديث5، وقال عمر لأبي بكر: رأينا لرأيك تبع، وقال مسروق: كان ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون قولهم لقول ثلاثة، كان عبد الله يدع قوله لقول عمر، وأبو موسى يدع قوله لقول علي، وزيد يدع قوله
1 هو محمد بن سعيد شرف الدين الصنهاجي المصري أبو عبد الله، ت سنة 696هـ، له ترجمة في فوات الوفيات "2/ 412".
2 أحمد بن أحمد بن محمد بن حجر شهاب الدين المصري الشافعي، له ترجمة في الكواكب السائرة "3/ 111".
3.
... وجهل ان الاجتهاد في كل عصر فرض، هدية العارفين "5/ 539".
4 النحل: 43، والأنبياء 7.
5 سبق تخريجه.
لقول أُبَيّ بن كعب، وقال جندب: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد.
وقال عليه السلام: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" 1، وتقدَّم أن بعض الصحابة كانوا يفتون على عهد رسول الله2، وتقدَّمت أسماؤهم3، وذلك تقليد لهم من غيرهم.
ويظهر لي في وجه الجمع بين القولين أن مراد البوصيري بكونهم مجتهدين، أن من شأنهم ذلك في قوتهم واستطاعتهم لا أن الجميع مجتهد بالفعل، فالصحابة كانوا في عصرٍ لم تختلط فيه اللغة، فكانت قواعد الاجتهاد مرتكزة في نفوسهم، فلا يعوزهم إلّا حفظ نصوص الشريعة، أو كمال فقاهة النفس، إذ لا شك أن بعضهم لم يبلغها بدليل قوله عليه السلام لعدي بن حاتم لما جعل تحت وسادته خيطًا أبيض وآخر أسود:"إنك لعريض القفا، إنما هو الفجر والليل" 4، وقوله لآخر:"إنك لضخم"5.
فمن كانت له فقاهة النفس ومزيد حفظ بلغ رتبة الاجتهاد بالفعل كالخلفاء، وزيد بن ثابت، وأمثالهم، ومن لم يكن معه اطلاع كان مجتهدًا بالقوة، بدليل أنه عليه السلام ولى عتاب بن أسيد إمرة مكة بمجرد إسلامه، وهو ابن عشرين سنة، وعمر بن العاص غزاة ذات السلاسل، وأسامة جيشًا فيه الشيخان وأبو عبيدة بمجرد إسلامه أيضًا، وأمثالًا لوجود صفة الاجتهاد فيهما، وان احتاجا للنصوص كان معهما القراء والحفاظ الحاملون لذلك، ومما لا نزاع فيه تفاوتهم
1 الترمذي وابن ماجه.
2 سبق.
3 متفق عليه: البخاري في تفسير سورة البقرة "6/ 31"، ومسلم في الصوم "3/ 31".
4 الحديث في مسلم في صلاة المسافرين "2/ 174"، لكنه من كلام ابن عمر وليس مرفوعًا كما تفيد عبارة المؤلف.
5 إن كان يقصد بقوله -بمجرد إسلامه- عمرو بن العاص، فصحيح لأنه أسلم في صفر سنة ثمان ووجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الآخرة من نفس السنة إلى السلاسل، على رأس ثلاثمائة، كما في الاستيعاب "3/ 1186"، وأما إن كان المقصود أسامة بن زيد، فقد ولد أسامة في الإسلام، وأمه أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد زوجها من زيد بن حارثة مولاه وحبه صلى الله عليه وسلم.