الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدينة قالوا فكلمة "قالوا": جواب لأما حقيقة، وأما جوابه حكمًا محذوف، وتقديره: فأما أهل المدينة فإنهم قالوا: يبرأ البائع من كل عيب لم يعلمه، أي: البائع بكل عيب فأما ما أي: عيب علم وكتم فإنه أي: البائع لا يبرأ منه، أي: شرعًا ولم تبرأ منه وقالوا: أي: والحال أن فقهاؤها قالوا: إذا باعه بيع الميراث برئ من كل عيب؛ علمه أو لم يعلمه؛ إذا قال: أي: المشتري ابتعتك أي: اشتريت، وفي نسخة: ابتعت منك هذا بيعَ الميراث، فالذي أي: البائع يقول: أتبرأ إليك من كل عيب وبيّن أي: صرح ذلك أي: الإِبراء العام فهو أحرى بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة فراء مهملة، أي: أليق وأولى من بيع الميراث أن يَبْرأ لما اشترط من هذا، أي: وأطلق في ذلك وهو قول أبي حنيفة، وقولنا، والعامة أي: من فقهاء الأمة، وهو الأصح من مذهب الشافعي، ويروي عن مالك أنه لا يبرأ في غير الحيوان ويبرأ (ق 809) في الحيوان مما لا يعلمه دون ما علمه؛ لما روى أن ابن عمر رضي الله عنهما باع عبدًا من زيد بن ثابت بشرط البراءة فوجد به عيبًا فأراد رده فلم يقبله ابن عمر فترافعا، أي: اختصما إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر: أتحلف أنك لم تعلم هذا العيب فقال: لا فرده عليه. كذا نقله الشمني، ولا يخفى أنه مخالف لما نقله الإِمام محمد.
وقال أحمد في رواية وهو قول الشافعي: لا يبرأ البائع عن العيب، فإن خيار العيب ثابت في الشرع، فلا ينتفي بالشرط كسائر المقتضيات العقد ولنا أن الإِبراء إسقاط والجهالة في الإِسقاط لا يقضي إلى المنازعة فلا تكون مفسدة ثم يدخل في البراءة من كل عيب العيب الموجود عند العقد، والحادث بعد العقد قبل القبض في ظاهر الرواية عن أبي يوسف، وهو قول أبي حنيفة أيضًا.
وقال محمد: لا يدخل الحادث وبه قال أبو يوسف أيضًا وزفر ومالك والشافعي رحمهم الله تعالى. كذا قال علي القاري.
لما فرغ من بيان حكم بيع البراءة، شرع في بيان حكم بيع الغرر، فقال: هذا
* * *
باب بيع الغرَر
في بيان حكم بيع الغرر بفتحتين، بوزن ضرر اسم جامع لبياعات كثيرة كجهل ثمن ومثمن وسمك في الماء وطير في الهواء، وعرفه المازني بأنه: ما تردد بين السلامة والعطب
وتعقبه ابن عرفة: بأنه غير جامع لخروج الغرر الذي في فاسد البيع الجزاف وبيعتين في بيعة، وقال ابن الملك: بيع الغرر هو البيع الذي فيه خطر انفساخه بهلاك المبيع انتهى.
استنبط المصنف هذه الترجمة من قوله تعالى في سورة الملائكة: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
775 -
أخبرنا مالك، أخبرنا أبو حازم بن دينار عن سعيد بن المسيَّب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الغَرر.
قال محمد: وبهذا كله نأخذ، بيع الغرر كلّه فاسد، وهو قولُ أبى حنيفة، والعامة.
• أخبرنا مالك، وفي نسخة: محمد قال: ثنا مالك أخبرنا أبو حازم اسمه سلمة بن دينار، ويكنى أبا حازم الأعرج الأثور النمار المدني القاضي مولى الأسود بن سفيان، ثقة عابد، كان في الطبقة الخامسة من طبقات التابعين المحدثين من أهل المدينة، مات في خلافة منصور عن سعيد بن المسيَّب، بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عامر بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء الأثبات، كان في الطبقة الأولى من طبقات كبار الفقهاء المحدثين، من أهل المدينة، مات بعد التسعين بيسير، وهو ابن أربع وثمانين سنة. كذا قاله ابن الجوزي وابن حجر، وقد رواه مرسلًا.
وقال ابن عبد البر: وقد رواه مسلم عن طريق عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الغَرر؛ لأنه أكل أموال الناس بالباطل على تقدير أن لا يحصل المبيع، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذه العلة في بيع الثمار قبل بدو الصلاح بقوله:"أرأيت إن منع الله الثمر فبم يأكل أحدكم مال أخيه".
قال المازري: وقيل: علته ما يؤدي إليه من التنازع كبيع الآبق والثمر قبل بدو الصلاح وقيل: علة الغرر، لاشتماله على حكمة هي عجز البائع عن التسليم، وهو ما أشار إليه المازري من ذهاب المال باطلًا على تقدير عدم الحصول، وهذا كتعليل (ق 810)
(775) صحيح، أخرجه مسلم (1513)، وأبو داود (3376)، والترمذي (1230)، والنسائي (7/ 262)، وابن ماجه (2194)، وأحمد في المسند (2/ 436 - 496).
القصر بوصف السفر لاشتماله على حكمة درء المشقة، وكان بعضهم ينكر على فقهاء وقته يقول: تعلوه بالغرر ولا تعرفون وجه العلة فيه.
قال المازري: أجمعوا على فساد بيع الغرر كجنين والطير في الهواء والسمك في الماء، وعلى صحة بعضها كبيع الجبة المحشوة وإن كان حشوها لا يرى، وكراء الدار شهرًا مع احتمال نقصانه وتمامه، ودخول الحمام مع اختلاف لبثهم فيه، والشرب من فم السقاء مع اختلاف الشرب، واختلفوا في بعضها فوجب أن يفهم أنهم إنما منعوا ما أجمعوا على منعه لقوة الغرر وكونه مقصورًا، وإنما جازوا ما أجمعوا على جوازه ليسارته، مع أنه لم يقصد تدعو الضرورة إلى العفو عنه، وإذا ثبت استنباطه من هذين الأصلين وجب رد المسائل المختلف فيها بين فقهاء الأمصار إليها، فالمجيز أي: الغرر فالمنع أقرب لظاهر الحديث.
قال محمد: وبهذا كله أي: بجميع أنواعه نأخذ أي: نعمل ونفتي بيع الغرر كلّه أي: بجميع أفراده كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء فاسد، وهو قولُ أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا أي من فقهاء الأمة، فلا يجوز بيع ما فيه غرر كحمل في بطن، ولؤلؤ في صدف ولين في ضرع، لما روى ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع (1)، وروى الشافعي بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه نهى عن بيع اللبن في ضرع الغنم، والصوف على ظهرها، وروى مرفوعًا، والصحيح أنه موقوف.
* * *
776 -
أخبرنا مالك، أخبرنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيَّب، أنه كان يقول: لا ربا في الحيوان، وإنما نهى من الحيوان عن ثلاث: عن المضامين، والملاقيح، وحَبَل الحَبَلة.
والمضامين: ما في بطون الإِناث من الإِبل، والملاقيح: ما في ظهور الجمال
(1) أخرجه ابن ماجه في السنن (2196).
(776)
إسناده صحيح، في الموطأ برواية أبي مصعب الزهري (2610).
• أخبرنا مالك، وفي نسخة: محمد قال: ثنا، وفي أخرى: محمد قال: بنا مالك أخبرنا ابن شهاب، أي: محمد بن مسلم بن شهاب بن زهرة بن كلاب، كان ثقة فقيهًا، وكان في الطبقة الرابعة من طبقات التابعين المحدثين من أهل المدينة مات بعد المائة، كذا قاله أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي الحنبلي عن سعيد بن المسيَّب، قد سبق طبقته آنفًا أنه كان يقول: لا ربا في الحيوان، بفتح المهملة وسكون التحتية، وهو أعم من الإِنسان مما بيع اللحم بالحيوان من غيره ومن جنسه إلا إذا كان اللحم أكثر مما في الحيوان، ليكون اللحم مقابل اللحم والزائد مقابلًا للسقط؛ لأنه لو لم يكن كذلك لتحقق الربا من حيث زيادة السقط ومن حيث زيادة اللحم.
وقال مالك وأحمد والشافعي: لا يجوز بجنسه أصلًا، ومذهب مالك وأحمد: يجوز بغير جنسه، والأصح في مذهب الشافعي أنه يجوز بغير جنسه، لعموم النهي فيما روى مالك في (الموطأ) وأبو داود والحاكم في (المراسيل) عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الحيوان (1)، وهو مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر:"إذا اختلفت الأنواع فبيعوا كيف شئتم" دليل مالك وأحمد، ولأبي حنيفة أنه بيع موزون بغير موزون، فيصح كيف ما كان، كما لو باع الثوب بالقطن، وهذا لأن الحيوان ليس بموزون، بل هو عددي متفاوت؛ لأن الموزون ما يعرف بالوزن والحيوان لا يعرف به، والمراد بالنهي في حديث سعيد بن المسيب ما إذا كان أحدهما نسيئة، وإنما لم يجز إذا كان أحدهما نسيئة؛ لأن (ق 811) المتأخر منهما لا يمكن ضبطه، ويؤيده ما رواه أحمد والنسائي عن سمرة بن جندب أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان نسيئة (2)، فحينئذ لا تناقض بين روايتي ابن المسيب، ويؤيده قوله: وإنما نهى من الحيوان عن ثلاث: أي: صور عن المضامين، جمع مضمون يقال: ضمن الشيء بمعنى يضمنه، ومنه قولهم: مضمون الكتاب كذا وكذا والملاقيح، على وزن المفاتيح جمع ملقوح وحَبَل الحَبَلة بفتح الحاء المهملة فيها وروى سكون الموحدة في الأولى.
(1) أخرجه من طريق مالك الشافعي في المسند (2/ 145)، والبيهقي في السنن (5/ 297)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 11139)، وهو في الموطأ برواية أبي مصعب (2613)، وبرواية محمد بن الحسن (783).
(2)
أخرجه أحمد في المسند (3/ 310)، والنسائي (7/ 292).
قال عياض وتبعه النووي: وهو غلط قال أهل اللغة: الحبلة جمع حابل كطالب وطلبة، وتفسيره في آخر الحديث من قول ابن عمر، ذكره السيوطي، فسر الإِمام مالك لفظ المضامين والملاقيح بقوله:
والمضامين: بيع ما في بطون الإِناث من الإِبل، أي: من الولد والملاقيح: هو بيع ما في ظهور الجمال بكسر الجيم كان مفرده جملًا وجمعه أجمالًا بفتح الهمزة، كذا قاله في (القاموس) يعني: نهى عن بيع الوبر وهو متصل بظهر الإِبل لأنه غرر.
* * *
777 -
أخبرنا مالك، أخبرنا نافع، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حَبَل الحَبَلة، وكان بيعًا يبتاعه الجاهلية، يبيع أحدهم الجزور إلى أن تُنْتَجُ الناقةُ، ثم تنتجُ الذي في بطنها.
قال محمد: هذه البيوع كلها مكروهة، ولا ينبغي لأنها غرر عندنا، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر.
• أخبرنا مالك، وفي نسخة: محمد قال: بنا مالك أخبرنا نافع، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أي: نهي تحريم عن بيع حَبَل الحَبَلة، بفتح الحاء المهملة فيها، وكذا الباء الموحدة إلا أن الأول مصدر حبلت المرأة، والثاني اسم جمع حابل كظالم وظلمة وكاتب وكتبة.
وقال الأخفش: هو جمع الحابلة. قال ابن الأنباري في الحبلة للمبالغة كقولهم: شجرة.
قال أبو عبيد: والحبل مختص بالأميات، ولا يقال في غيرهن من الحيوان الأحمل إلا ما في الحديث، ورواه بعضهم بسكون الباء في الأول، وهو غلط قاله عياض وكان
(777) صحيح، الموطأ برواية محمد بن الحسن (777)، والموطأ برواية أبي مصعب (2609)، ومن طريق مالك أخرجه البخاري (2143)، وأبو داود (3380)، والنسائي (7/ 293)، والبيهقي في السنن (5/ 340)، وفي معرفة السنن والآثار (8/ 11459)، وأخرجه مسلم (1514)، من حديث الليث عن نافع.
أي: بيع الحبلة بيعًا نبايعه وفي نسخة: يبتاعه أهل الجاهلية، أي: يشتر بها أهلها كان الرجل منهم يبيع أحدهم أي: من الجاهلية الجزور بفتح الجيم وضم الزاي أي: الناقة.
وقال الزرقاني (1): وهو البعير سواء كان ذكرًا أو أنثى إلى أن تُنْتَجُ بضم أوله وسكون النون وفتح الفوقية الثانية، أي: تلد وهو من الأفعال التي لم تسمع إلا مبنية للمفعول نحن جن وزهي علينا، أي بكر الناقةُ، مرفوع بإسناد تنتج إليها، أي: تضع ولدها فولد نتاج بكسر النون من تسمية المفعول بالمصدر ثم تنتجُ الذي في بطنها أي: ثم تعيش المولودة حتى تكبر ثم تلد، وعلة النهي ما في الأجل من الغرر، وهذا التفسير من قول ابن عمر، كما جزم به عبد البر وغيره لما في مسلم من طريق عبيد الله بن نافع عن ابن عمر قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه فسره مالك والشافعي وغيرهما، وقيل: هو بيع ولد ولد الناقة الحامل في الحال، بأن يقول: إذا نتجت الذي في بطنها فقد بعتك ولدها، فنهى عنه؛ لأنه بيع ما ليس بمملوك ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه فهو غرر، وبه فسره أحمد وإسحاق وجماعة من اللغويين، وهو أقرب الألفاظ إلى اللفظ، لكن الأولى أقوى؛ لأنه تفسير ابن عمر وليس مخالفًا (ق 812) للظاهر، فإن ذلك هو الذي كان في الجاهلية، والنهي وارد عليه ومذهب المحققين من أهل الأصول تقديم تفسير الراوي إذا لم يخالف الظاهر.
قالى الطيبي: فإن قيل تفسير مخالف لظاهر الحديث، فكيف يقال: إذا لم يخالف الظاهر، وأجاب باحتمال أن المراد بالظاهر الواقع، فإن هذا البيع كان في الجاهلية بهذا الأجل حلا للفظ بل بيان المواقع، ومحصل هذا الخلاف كما قال ابن التنيسي: هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين، وعلى الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها، وعلى الثاني، هل المراد بيع الجنين الأولى بيع جنين الجنين، فصار أربعة أقوال انتهى.
وقال المبرد: هو عندي بيع حبل الكرامة؛ لأنها تحبل بالعنب كما جاء في حديث آخر: نهي عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه (2) ويكون هذا أصلًا في منع البيع بثمن إلى أجل مجهول.
(1) في شرحه (3/ 384).
(2)
تقدم.