الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهدهد في مكانه فقال: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} [النمل: 20] كذا في سورة النمل والله لأرميّن أي: لأطرحن بها أي: بالخشبة بين أكتافكم بالفوقية جمع كتف، وروي بالنون، وهي جمع كنف بفتحها، وهو الجانب يعني إن لم ترضوا وضع خشبة الجار في جدارهم لأطرحن بين أجنابكم، وهو للمبالغة في إجراء الحكم بهذه السنة، وقد كان أبو هريرة أمير بالمدينة وقاضيًا بها، والمعنى إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به راضين لأجعلن الخشبة بين رقابكم كارهين.
قال محمد: وهذا عندنا على وجه التوسّع من الناس أي: المساهلة والمسامحة بعضِهم على بعض، أي: في مقام الرفق وحُسن الخُلق، أي: مع عموم الخلق فأما في الحكم أي: القضاء الشرعي الحتم فلا يُجْبرون بصيغة المجهول، أي: فلا يقهر الجيران على ذلك أي: الرضا بذلك.
بلغنا أن شُريحًا اختُصِم إليه في ذلك، بصيغة المجهول أي: تخاصم بعضهم بعض وترافعوا إلى شريح فقال أي: شريح للذي وضع خشبة: على جدار غيره دون إذنه ارفع رجلك عن مطيّة أخيك، بفتح الميم وكسر الطاء المهملة وفتح التحتية المشددة أي: دابة صالحة للركوب وما أحسن هذه العبارة في مقام الاستعارة فهذا أي: القول منه هو الحكم أي: الشرعي في ذلك أي: الأمر والتوسع أفضل أي: لمن يقبل، والله أعلم.
لما فرغ من بيان ما يتعلق بالقضاء، شرع في بيان ما يتعلق بالهبة والصدقة، فقال: هذا
* * *
باب الهبة والصدقة
في بيان ما يتعلق بحكم الهبة والصدقة، وهو من قبيل عطف الخاص على العام كعطف الروح على الملائكة في تنزل الملائكة والروح، فالهبة مصدر محذوف الأول معوض عنه هاء التأنيث، وأصله وهب بتسكين الهاء وتحريكها ومعناها لغة: تبرع وتفضل بما ينفِع الموهوب له مطلقًا، أي: سواء كان مالًا أو غيره، قال الله تعالى في سورة مريم:{فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] وقال تعالى في سورة حم عسق: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] وشرعًا: تمليك عين بلا عوض. كذا قاله في (شرح النقاية) والغرر.
805 -
أخبرنا مالك، أخبرنا داود بن الحُصين، عن أبي غطَفَان بن طريف المرّي، عن مروان بن الحكم، أنه قال: قال عمر بن الخطاب: مَنْ وَهَبَ هبةً لصلةِ رحم، أو على وجه صدقةٍ، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة يرى أنه إنما أراد بها الثواب فهو على هبته، يرجع فيها إن لم يرض منها.
قال محمد: وبهذا نأخذ، من وهب هبة لذي رحم محرم أو على وجه صدقة وقبضها الموهوب له، فليس للواهب أن يرجع فيها، ومن وهب هبة لغير ذي رحم محرَم وقبضها فله أن يرجع فيها إن لم يُثب منها، أو يُزَدْ خيرًا في يده، أو تخرج من ملكه إلى ملك غيره، وهو قولُ أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا.
• أخبرنا مالك، وفي نسخة: محمد قال: بنا مالك، وفي أخرى: محمد قال: ثنا مالك أخبرنا داود بن الحُصين، الأموي مولاهم، يكنى أبا سليمان المدني، ثقة إلا في عكرمة ورأى برأي الخوارج لكن لمن يكن داعية، وثقه ابن معين والنسائي والعجلي وكفى برواية مالك عنه توثيقًا. كذا قاله ابن حجر (1) والزرقاني عن أبي غطَفَان بالفتحات فألف ونون ابن طريف بالتصغير المرّي، المدني، وقيل: اسمه سعد، ثقة كان في الطبقة الثالثة من طبقات كبار التابعين من أهل المدينة، مات بعد المائة كذا في (تقريب التهذيب) عن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية، يكنى أبا عبد الملك الأموي المدني، ولي الخلافة من جهة معاوية في آخر سنة أربعة وستين، ومات سنة خمس في رمضان وله ثلاث أو إحدى وستون سنة، لم يثبت له صحبة، كان في الطبقة الثانية من طبقات التابعين من أهل المدينة والمحدثين أنه قال: قال عمر بن الخطاب: رضي الله عنه: "أن" كذا في نسخة مَن وَهَبَ هبةً لصلةِ رحم، أي: لقرابة قريبة أو على وجه صدقةٍ، أي: بإعطاء فقير على طريق شفقة فإنه لا يرجع فيها، أي: لا يصح له الرجوع في تلك الهبة ومن وهب هبة يرى بصيغة
(805) أخرجه الشافعي في الأم (4/ 61)، وعبد الرزاق في المصنف (7/ 177)، (9/ 105، 106، 107)، وهو في الموطأ برواية أبي مصعب (2947).
(1)
في التقريب (1/ 198).
المجهول أي: يظن أنها أي: الواهب إما أراد بها الثواب المكافأة والعوض في الدنيا فهو على هبته، أي: حكم يرجع فيها أي: يجوز له أن يعود في هبته إن لم يرض بصيغة المجهول منها أي: من أهل هبتها.
قال محمد: وبهذا نأخذ، أي: لا نعمل إلا بما رواه داود بن الحصين عن أبي غطفان من وهب هبة لذى رحم محرم أو على وجه صدقة وقبضها الموهوب له، فليس للواهب أن يرجع فيها، أي وقبل القبض له أن يرجع فيها بلا خلاف ومن وهب هبة لغير ذي رحم محرم وقبضها أي: ولو قبضها فله أن يرجع فيها إن لم يُثب بضم التحتية وفتح المثلثة وسكون الموحدة أي: ما لم يعوض منها، يقال: ثاب يثوب إذا رجع وعاد، ومنه الثواب والجزاء؛ لأنه نفع يعود إلى المجزي أو يُزَدْ بصيغة المجهول أي: ولم يزد خيرًا أي: زيادة منفعة متصلة في نفس الموهوب كبناء وغرس وسمن في يده، أي: في تصرف الموهوب له، ووجه كون الزيادة قانعة إلى الرجوع وهو يصح في الموهوب والزيادة، ليست بموهبة، فلم يصح الرجوع فيها والفصل غير ممكن ليرجع في الأصل لا الزيادة فامتنع الرجوع أو تخرج من ملكه إلى ملك غيره، وهو قولُ أبي حنيفة، والعامة من فقهائنا، واعلم أن الرجوع يصح لمن وهب هبة لأجنبي عنها بتراض أو حكم قاض.
وقال مالك والشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه: لا يصح الرجوع في الهبة إلا للوالدين فيما وهبا لولدهما لهم ما روى أصحاب السنن الأربعة وقال الترمذي: حديث حسن عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل أن يعطي عطيته فيرجع فيها الوالد فيما يعطي لولده، ومثل الذي يعطي عطيته فيرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء، ثم عاد في قيئه" وما رواه الجماعة إلا الترمذي من حديث أبي هريرة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العائد في هبته كالعائد في (ق 839) قيئه"(1) ولنا ما روى ابن ماجه (2) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها" وأجيب عمَّا روى بأن المراد نفي الاستيلاء بالرجوع إلا الوالد، وبيان
(1) صحيح، أخرجه البخاري (3/ 215)، ومسلم في الهبات (ب 2) رقم (8)، وأبو داود (3538)، والنسائي (6/ 266، 267)، وابن ماجه (2385)، والبيهقي في الكبرى (180)، والطبراني (10/ 352)، (11، 46).
(2)
ابن ماجه (2/ 798).