الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(22) بَابٌ: في إِفْرَادِ الْحَجّ
1777 -
حَدَّثَنَا (1) الْقَعْنَبِيُّ، نَا مَالِكٌ، عن عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عن أَبِيهِ، عن عَائِشَةَ:"أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَفْرَدَ الْحَجَّ". [م 1211، ت 820، ن 2715، جه 2964، حم 6/ 36]
===
ومن يرى الإحصار بالمرض - وهو مذهب أبي حنيفة - يستدل بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري الآتي، وبما صح عن ابن عمر أنه كان ينكر الاشتراط، ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم؟ فعندنا اشتراط ذلك (2) كعدمه، ولا يفيد شيئًا، هذا هو المذكور في كتب المذهب.
وقال الطيبي: دلَّ على أنه لا يجوز التحلل بإحصار المرض بدون الشرط ومع الشرط. قيل أيضًا: لا يجوز التحلل، وجعل هذا الحكم مخصوصًا بضباعة، كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في رفض الحج وليس يضرهم ذلك، انتهى.
قلت: ما حكى الطيبي من أن حكم الاشتراط مخصوص بضباعة؛ موجَّه؛ فإنها واقعة خاصة لا عموم لها، ويدل عليه الروايات الأخر التي فيها حكم التحلل من غير الاشتراط، أو يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة بالاشتراط تطييبًا لقلبها وتسكينها، والله أعلم.
(22)
(بابٌ: في إفْرَادِ الْحَجِّ)
وهو أن يحرم بالحج في أشهره، ثم يأتي بأفعاله، ويفرغ منه
1777 -
(حدثنا القعنبي، نا مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج)، قال النووي (3): وأما حجة النبي صلى الله عليه وسلم فاختلفوا فيها، هل كان مفردًا، أو متمتِّعًا، أو قارنًا؟ وهي ثلاثة
(1) زاد في نسخة: "عبد الله بن مسلمة".
(2)
فيه شيء من الخلاف عندنا، كما في "شرح اللباب"(ص 422). (ش).
(3)
"شرح صحيح مسلم"(4/ 408).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة، وكل طائفة رجحت (1) نوعًا، وادعت أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم كانت كذلك، والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان أولًا مفردًا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج فصار قارنًا.
واختلف العلماء في هذه الأنواع الثلاثة أيها أفضل؟ فقال الشافعي (2) ومالك (3) وكثيرون: أفضلها الإفراد، ثم التمتع، ثم القرآن، وقال أحمد وآخرون: أفضلها التمتع (4)، وقال أبو حنيفة وآخرون: أفضلها القرآن، وهذان
(1) وهكذا في هامش "الهداية" عن "الفتح" أن أصل اختلافهم في الأفضلية يرجع إلى الاختلاف في إحرامه صلى الله عليه وسلم، وهكذا قال غيره، لكن لا يصح، ففي "الروض المربع" (1/ 153): قال أحمد: لا أشك أنه عليه السلام كان قارنًا، لكن الأفضل التمتع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام تأسَّف على سوقه الهديَ، فقال:"لولا معي الهدي"
…
إلخ، وكذا النووي صحَّح في مذهبهم الإفرادَ، ثم قال: الصحيح أنه عليه السلام كان أولًا مفردًا، ثم أدخل العمرة فصار قارنًا، وكذا الخطابي اختار عكسه أنه اعتمر أولًا، ثم أدخل الحج قبل العمرة. وقال عياض والحافظ وغيرهما: إنه عليه السلام أفرد أولًا، ثم أدخل العمرة فصار قارنًا، والبسط في "جزء حجة الوداع" للعبد الضعيف (ص 15 - 31). (ش).
(2)
هكذا قال النووي، واختلفت نقلة المذاهب في بيان مذاهبهم جدًا، وفي "الهداية" (1/ 150): القرآن أفضل عندنا، وقال الشافعي: الإفراد، وقال مالك: التمتع، وحكى النووي ثلاث روايات للشافعي في الأفضلية، كما سيأتي. (ش).
(3)
اختلفت نقلة المذاهب في بيان مسلكه، وفي "الأنوار الساطعة" (ص 643): الإفراد، ثم القرآن؛ لأن الصحيح أنه عليه السلام حج مفردًا. وفي "الشرح الكبير" (2/ 239): نُدِبَ إفراد على قرآن وتمتع بأن يحرم بالحج مفردًا، ثم إذا فرغ منه أحرم بالعمرة، ثم يلي الإفراد في الفضل قرانٌ، قال الدسوقي: ظاهره أن الإفراد لا يكون أفضل إلا إذا أحرم بالعمرة بعده، وهو قول ضعيف، والمعتمد أنه أفضل ولو لم يعتمر، وحكى الدسوقي روايات أخر عن أشهب، واللخمي وغيرهما، وحكى صاحب "الهداية" عن مالك أفضلية التمتع، وسكت عليه ابن الهمام (2/ 534) وغيره من الشراح. (ش).
(4)
ثم الإفراد، ثم القرآن، كذا في "الأنوار الساطعة"(ص 736)، وكذا قال صاحب "نيل المآرب"(1/ 291، 292)، و"الروض المربع"(1/ 153)، وذكر في "المغني"(5/ 82، 83) رواية أخرى: إن ساق الهدي فالقران أفضل، وإلَّا فالتمتع. (ش).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
المذهبان قولان آخران للشافعي، والصحيح تفضيل (1) الإفراد، ثم التمتع، ثم القرآن، انتهى.
قلت: وأفضلها عند الحنفية القران، ثم التمتع، ثم الإفراد (2)، ثم قوله: أفرد الحج. المحققون قالوا في نسكه صلى الله عليه وسلم: إنه القران، فقد صح ذلك من رواية اثني عشر من الصحابة بحيث لا يحتمل التأويل، وقد جمع ابن حزم الظاهري في "حجة الوداع"(3) له، وذكرها حديثًا حديثًا، قالوا: وبه يحصل الجمع بين أحاديث الباب.
أما أحاديث الإفراد فمبنية على أن الراوي سمعه يلبي بالحج فزعم أنه مفرد بالحج، فأخبر على حسب ذلك، ويحتمل أن المراد بإفراد الحج (4) أنه لم يحج بعد الافتراض إلَّا حجة واحدة.
وأما أحاديث التمتع فمبنية على أنه سمعه يلبي بالعمرة فزعم أنه متمتع، وهذا لا مانع منه من إفراد نسك بالذكر للقارن، على أنه قد يختفي الصوت بالثاني.
ويحتمل أن المراد بالتمتع القرانُ؛ لأنه من الإطلاقات القديمة، وهم كانوا يسمون (5) القران تمتعًا، انتهى.
(1) وهكذا حكاه صاحب "الأنوار لأعمال الأبرار"، وكذا في "شرح الإقناع"(1/ 222)، لكنه شرط أن يعتمر في هذه السنة، وهكذا في "شرح المنهاج"، وقال: إن لم يعتمر في هذه السنة فهما أفضل منه. (ش).
(2)
فالصحيح في مختار الأئمة عند أحمد: التمتع، ثم الإفراد، ثم القران، وعند الشافعي: الإفراد مع العمرة، ثم التمتع، ثم القرآن، وعند مالك: الإفراد ولو بلا عمرة، ثم القران، ثم التمتع، وعندنا: القران، ثم التمتع، ثم الإفراد. (ش).
(3)
انظر: "حجة الوداع"(ص 404 إلى 422).
(4)
وقيل: المعنى إفراد أعمال الحج عن أفعال العمرة، وهذا جواب لقولهم: معنى دخلت العمرة في الحج، أي أفعالها في أفعاله. (ش).
(5)
في الأصل: "يسمعون"، وهو تحريف.
1778 -
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ. (ح): وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - يَعْنِى ابْنَ سَلَمَةَ -. (ح): وَحَدَّثَنَا مُوسَى، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُوَافِينَ هِلَالَ ذِى الْحِجَّةِ،
===
قلت: قال الطحاوي (1): قيل له: قد يجوز أن يكون الإفراد الذي ذكره هذا على معنى لا يخالف معنى ما روى الزهري، عن عروة، عن عائشة، وذلك أنه قد يجوز أن يكون الإفراد الذي ذكره القاسم، عن عائشة إنما أرادت به إفرادَ الحج في وقت ما أحرم به، وإن كان قد أحرم بعد خروجه منه بعمرة؛ فأرادت أنه لم يخلطه في وقت إحرامه به بإحرام بعمرة كما فعل غيره ممن كان معه.
وأما حديث محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة؛ فإنها أخبرت أن منهم من أهلَّ بعمرة لا حجة معها، ومنهم من أهلَّ بحجة وعمرة يعني مقرونتين، ومنهم من أهلَّ بالحج، ولم يذكر في ذلك التمتع، فقد يجوز أن يكون الذين قد كانوا أحرموا بالعمرة أحرموا بعدها بحجة، ليس حديث هذا ينفي من ذلك شيئًا، وإنها قالت:"وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا"، فقد يجوز أن يكون ذلك الحج المفرد بعد عمرة قد كانت تقدمت منه مفردة، فيكون قد أحرم بعمرة مفردة على ما في حديث القاسم ومحمد بن عبد الرحمن عن عروة، ثم أحرم بعد ذلك بحجة على ما في حديث الزهري عن عروة، حتى تتفق هذه الآثار ولا تتضاد.
1778 -
(حدثنا سليمان بن حرب، نا حماد بن زيد، ح: ونا موسى بن إسماعيل، نا حماد - يعني ابن سلمة-، ح: ونا موسى، نا وهيب) كلهم (عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم موافين) بالِغين ومقاربين طلوعَ (هلال ذي الحجة)، فإنه صلى الله عليه وسلم خرج لخمس بقين
(1)"شرح معاني الآثار"(2/ 143).
فَلَمَّا كَانَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ قَالَ: «مَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ بِعُمْرَةٍ» . قَالَ مُوسَى فِى حَدِيثِ وُهَيْبٍ: فَإِنِّى لَوْلَا أَنِّى أَهْدَيْتُ لأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ. وَقَالَ فِى حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: وَأَمَّا أَنَا فَأُهِلُّ بِالْحَجِّ فَإِنَّ مَعِىَ الْهَدْىَ، ثُمَّ اتَّفَقُوا (1) ، فَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ الطَّرِيقِ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِى، فَقَالَ:«مَا يُبْكِيكِ؟ » . قُلْتُ: وَدِدْتُ أَنِّى لَمْ أَكُنْ خَرَجْتُ الْعَامَ.
===
من ذي القعدة، (فلما كان بذي الحليفة قال: من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل بعمرة) أي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل واحد منهم أن يحرم بما شاء من الحج أو العمرة.
(قال موسى في حديث وهيب: فإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة) أي بعمرة خالصة، ثم حللت بعد الفراغ من أفعالها، لكن الهدي (2) يمنع الإحلال قبل الحج كالقران والإفراد، ولعل هذا القول صدر منه صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة لا عند ذي الحليفة.
(وقال) موسى (في حديث حماد بن سلمة: وأما أنا فأهل بالحج) مع العمرة (فإن معي الهدي، ثم اتفقوا، فكنت (3) فيمن أهل بعمرة، فلما كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم (في بعض الطريق) أي بسرف (حِضْتُ، فدخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: ما يبكيكِ؟ قلت: وددتُ أني لم كن خرجت العامَ)، فلا يصيبني تلك المصيبة.
(1) زاد في نسخة: "قالت".
(2)
مستدل للحنفية في أن سوق الهدي يمنع التحلل، خلافًا للشافعية والمالكية إذ قالوا: يجوز للمتمتع السائِق الهديَ أن يتحلل، كذا في "إكمال مسلم"(4/ 236، 237)، و"الزرقاني"(2/ 374)، وذكر الحنابلة مع الحنفية. (ش).
(3)
تكلم المحدَّثون على حديث عروة هذا، وعدوه غلطًا، كما بسطه العيني تحت "باب كيف تهل الحائض"(7/ 87)، وفي "باب التمتع والإقران"(7/ 105). (ش).
قَالَ: "ارْفُضِى عُمْرَتَكِ وَانْقُضِى رَأْسَكِ وَامْتَشِطِى». قَالَ مُوسَى: «وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ» ، وَقَالَ سُلَيْمَانُ:«وَاصْنَعِى مَا يَصْنَعُ الْمُسْلِمُونَ فِى حَجِّهِمْ» ، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الصَّدَرِ (1) أَمَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَذَهَبَ بِهَا إِلَى التَّنْعِيمِ. [خ 1556، م 1211، ن 2716، جه 3000]
===
(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرفُضِي عمرتكِ، وانقضي) شعر (رأسكِ، وامتَشِطِي) أي أصلِحِي شعر رأسك بالمشط، وهذا الكلام يدل (2) صريحًا على الأمر بترك إحرام العمرة؛ فإن الامتشاط يستلزم نتف الشعر وهو ممنوع في الإحرام، فلما أمرها بالامتشاط عُلِمَ أنه صلى الله عليه وسلم أمرها برفض إحرام العمرة لا بترك أفعالها.
(قال موسى: وأَهِلِّي) أي أَحرِمي (بالحج، وقال سليمان: واصنعي ما يصنع المسلمون في حجهم) من إحرام الحج، والوقوفِ بعرفات والمزدلفة ومنى، ورميِ الجمار.
(فلما كان ليلة الصدر) أي ليلة الرجوع (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمن) أخا عائشة، (فذهب) عبد الرحمن (3)(بها) أي بعائشة (إلى التنعيم) بالفتح، ثم السكونِ، وكسرِ العين المهملة، وياءٍ ساكنةٍ، وميمٍ: موضع بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة، وقيل على أربعة، وسمي بذلك لأن جبلًا عن يمينه يقال له: نعيم، وآخر عن شماله يقال له: ناعم، والوادي نعمان، وبالتنعيم مساجد حول مسجد عائشة رضي الله عنها وسقايا على طريق المدينة، منه يحرم المكيون بالعمرة، كذا في "المعجم"(4).
(1) زاد في نسخة: "يعني".
(2)
وبه قلنا، خلافًا للثلاثة، كما سيأتي في "باب المهلَّة بالعمرة". (ش).
(3)
وهل اعتمر عبد الرحمن أيضًا أم لا؟ وعلى الثاني كيف جاز له دخول مكة بغير إحرام؟ والجواب أن المكي إذا خرج إلى الحل لحاجة، له أن يدخل مكة بغير إحرام بشرط أن لا يكون جاوز ميقات الآفاقي، فإن جاوزه فليس له أن يدخل مكة بغير إحرام، كذا في "غنية الناسك"(ص 64، 65). (ش).
(4)
"معجم البلدان"(2/ 49).
زَادَ مُوسَى: فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِهَا وَطَافَتْ (1) بِالْبَيْتِ، فَقَضَى اللَّهُ عُمْرَتَهَا وَحَجَّهَا (2).
قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِى شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْىٌ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: زَادَ مُوسَى فِى حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: "فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْبَطْحَاءِ طَهُرَتْ عَائِشَةُ".
===
(زاد موسى: فأهلت بعمرة (3) مكان عمرتها) التي رفضتها (وطافتْ بالبيت) المراد بالطواف إما طواف الإفاضة للحج، أو المراد طواف العمرة، والظاهر أن المراد بها طواف العمرة. وترك في الحديث طواف الزيارة. (فقضى الله عمرتها وحجَّها).
(قال هشام: ولم يكن في شيء من ذلك هدي)؛ لأنها لما رفضت العمرة كانت مفردة بالحج فلا يلزم عليها الهدي، ولكن يلزمها دم رفض العمرة، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدى عنها الدم في البقرة التي ذبحها.
(قال أبو داود: زاد موسى في حديث حماد بن سلمة: فلما كانت ليلة البطحاء) أي الليلة التي أقام فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحصب بعد عوده من مني (طهرت عائشة) في تلك الليلة، وهي ليلة أربع عشرة من ذي الحجة.
قال الحافظ ابن القيم في "الهدي"(4): وموضع طُهرها قد اختلف فيه، فقيل: بعرفة، هكذا روى مجاهد عنها، وروى عروة عنها أنها أظلّها يوم عرفة
(1) في نسخة: "فطافت".
(2)
في نسخة: "حجتها وعمرتها".
(3)
من ترك العمرة عليه القضاء والهدي عندنا، وهو المرجح عند أحمد، خلافًا للشافعي ومالك إذ قالا: لا قضاء عليه، كما سيأتي. (ش).
(4)
"زاد المعاد في هدي خير العباد"(2/ 164).
1779 -
حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِىُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِى الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ،
===
وهي حائض، ولا تنافي بينهما، والحديثان صحيحان، وقد حملهما ابن حزم على معنيين، فطهر عرفة: هو الاغتسال للوقوف [بها] عنده. قال: لأنها قالت: تطهرتُ بعرفة، والتطهر غير الطهر، قال: وقد ذكر القاسم يوم طهرها أنه يوم النحر، وحديثه في "صحيح مسلم" قال: وقد اتفق القاسم وعروة على أنها كانت يوم عرفة حائضًا، وهما أقرب الناس منها.
وقد روى أبو داود حديثًا عنها، وفيه:"فلما كانت ليلة البطحاء طهرت عائشة"، وهذا إسناد صحيح، لكن قال ابن حزم: إنه حديث منكر، مخالف لما روى هؤلاء كلهم عنها، وهو قوله:"إنها طهرت ليلة البطحاء"، وليلة البطحاء كانت بعد يوم النحر بأربع ليال، وهذا محال إلا أننا لما تدبرنا وجدنا هذه اللفظة أنها ليست من كلام عائشة، فسقط التعلق بها؛ لأنها هي مما دون عائشة، وهي أعلم بنفسها، انتهى بقدر الحاجة (1).
1779 -
(حدثنا القعنبي عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الأسود محمدِ بنِ عبدِ الرحمنِ بنِ نوفل، عن عروة بن الزبير، عن عائشةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم قالت: خرجنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع) من المدينة، فلما كنا بذي الحليفة أَذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل.
(فمنا من أهلَّ بعمرة) خالصة، (ومنا من أهلَّ بحج وعمرة) مجموعتين،
(1) قلت: والأوجه عندي أنه سقط الواو من الناسخ، فيكون الحديث صحيحًا بلا مرية، ويكون المعنى: فلما كانت ليلة البطحاء، وطهرت عائشة
…
إلخ، كما سيأتي في المتن. (ش).
وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، وَأَمَّا (1) مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ". [خ 1562، م 1211، ن 2715، جه 2965]
1780 -
حَدَّثَنَا ابْنُ السَّرْحِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى مَالِكٌ، عَنْ أَبِى الأَسْوَدِ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ. زَادَ:"فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَأَحَلَّ"(2). [انظر سابقه]
1781 -
حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِىُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ،
===
(ومنا من أهلَّ بالحج، وأهلَّ (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج) مفردًا أو مع العمرة.
(وأما من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر) وهذا محمول (4) في حق من أهل بالحج وأهدى، فلا يحل لهم التحلل إلا يوم النحر حين نحو الهدي، وإلا فمن كان منهم من أهل بالحج مفردًا أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بفسخه إلى العمرة.
1780 -
(حدثنا ابن السرح، أنا ابن وهب، أخبرني مالك، عن أبي الأسود بإسناده) المتقدم (مثله) أي مثل الحديث المتقدم (زاد) ابن وهب: (فأما من أهل بعمرة فأحل)(5).
1781 -
(حدثنا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير،
(1) في نسخة: "فأما".
(2)
وفي نسخة: "فحل".
(3)
وبهذا التقسيم استدل به مالك على أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردًا. (ش).
(4)
وهذا أوجه مما أشار إليه الجصاص في "أحكام القرآن"(1/ 283): من أن الرواية ساقطة، لأن عامتهم كانوا فسخوا الحج بالعمرة، وحلّوا. (ش).
(5)
بشرط إن لم يسق هديًا عندنا وعند الحنابلة، كما تقدَّم. (ش).
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» . فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ
===
عن عائشةَ) رضي الله عنها (زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) من المدينة (في حجة الوداع، فأهللنا) أي فأهلَّ بعضنا (بعمرة).
(ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان) أهل بالعمرة و (معه هدي فليهل بالحج مع العمرة) أي فليدخل الحجَ على العمرة ليكون قارنًا، (ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا) أي لا يخرج من الإحرام، ولا يحل له شيء من المحظورات حتى يتم العمرةَ والحجَّ جميعًا.
(فقدمت مكة وأنا حائض، ولم أطف بالبيت)؛ لأن الحائض ممنوعة عن دخولِ المسجد، والطوافُ بالبيت لا يكون إلَّا في المسجد فلم تطف لذلك.
قال في "شرح الوقاية": وحيضها لا يمنع نسكًا إلَّا الطواف فإنه في المسجد، ولا يجوز للحائض دخوله، انتهى.
واعترض عليه مولانا عبد الحي اللكهنوي وقال: قوله: إنه في المسجد، هذا قاصر؛ فإنها لو طافت من خارج المسجد أيضًا لم يجز، فإن الطهارة من الجنابة شرط لنفس الطواف، انتهى.
قلت: فما قال شارح "الوقاية" ليس بقاصر؛ فإنه لو طاف خارج المسجد لا يجوز طوافه من حيث إنه يشترط لصحة الطواف كونه في المسجد.
قال في "البدائع"(1): لو طاف حول المسجد وبينه وبين البيت حيطان المسجد لم يجز؛ لأن حيطان المسجد حاجزة فلم يطف بالبيت لعدم الطواف
(1)"بدائع الصنائع"(2/ 313).
وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،
===
حوله، بل طاف بالمسجد لوجود الطواف حوله لا حول البيت، ولأنه لو جاز الطواف حول المسجد مع حيلولة حيطان المسجد لجاز حول مكة والحرم، وذا لا يجوز، كذا هذا، انتهى.
وقال القاري في "شرح المناسك"(1): ولو طاف خارج المسجد فمع وجود الجدران لا يصح إجماعًا، وأما إذا كان جدرانه منهدمة فكذا عند عامة العلماء، خلافًا لمن لم يعتد بخلافه، انتهى.
نعم غاية ما في الباب أن لجواز الطواف شرطين (2): الأول: مكان الطواف، والثاني: الطهارة، وكل واحد منهما له دخل في صحة الطواف، فإذا انعدم أحدهما لم يجز الطواف، فلا قصور في ذكر أحد العلتين.
(ولا بين الصفا والمروة) ، لأن صحة الطواف بين الصفا والمروة موقوفة على الطواف بالبيت طاهرًا عن الحدث الأكبر، فلا يجوز السعي بين الصفا والمروة قبل الطواف ولا بعد الطواف، حائضًا أو جنبًا.
قال في "المناسك"(3): الشرط الثاني: أن يكون السعي بعد طواف كامل ولو نفلًا، أو بعد أكثره أي أكثر أشواطه، فلو سعى قبل الطواف أي أكثر جنسه، أو بعد أقله لم يصح لعدمِ تحققِ ركنه.
ثم قال: الخامس: أن يكون السعي بعد طواف على طهارة عن الجنابة والحيض وكذا حكم النفاس، فإن لم يكن طاهرًا عنهما وقت الطواف لم يجز رأسًا.
(فشكوت ذلك) أي تَرْكَ الطواف والسعي لعذر الحيض (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(1)"شرح لباب المناسك"(ص 151).
(2)
به جزم في "البحر الرائق"(2/ 353، 354)، وابنُ الهمام في "فتح القدير"(3/ 47). (ش).
(3)
"شرح المناسك"(ص 174، 177).
فَقَالَ: «انْقُضِى رَأْسَكِ وَامْتَشِطِى وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ وَدَعِى الْعُمْرَةَ» . قَالَتْ: فَفَعَلْتُ. فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ (1):
===
فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انقُضِي) شعر (رأسكِ، وامتَشِطِي، وأَهِلي) أي أحرمي (بالحج وَدَعِي العمرةَ)، قد تقدم بيان الاختلاف بين الحنفية والشافعية في عمرة عائشة (2) رضي الله عنها أنها عندهم كانت عائشة رضي الله عنها قارنة، فدخلت أفعال العمرة في أفعال الحج، فعندهم معنى قوله:"انقضي رأسك"، أي: حلِّي شعر رأسك، وامتشطي بحيث لا ينتف شعر الرأس، وأحرمي بالحج، ودعي العمرة أي: اتركي أفعال العمرة.
وعند الحنفية لا تدخل أفعال العمرة في أفعال الحج، بل يجب أن يأتي بأفعال العمرة من الطواف والسعي أولًا، ثم يأتي بأفعال الحج، فعلى هذا في هذا الكلام دليل صريح لمذهب الحنفية؛ فإن قولها: لم أطف بين الصفا والمروة، وشكاية ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصح إلا أن يكون عندها علم بأن أفعال العمرة لا تدخل في أفعال الحج، وكذلك أمرُها بالامتشاطِ ورفضِ العمرة كالصريح في ذلك، فإنها إذا كانت قارنة لم تترك شيئًا من أعمال العمرة، وكذلك لا يصح قولها: أرجع بحجة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"هذه مكان عمرتك"، فثبت بهذا أنها كانت معتمرة، ثم لما أصابها الحيض رفضت العمرةَ، وأهلت بالحج، فصارت مفردة بالحج، ولم يجب عليها الهدي، بل وجب عليها دم لرفض العمرة.
(قالت: ففعلت) أي رفضت العمرة، وأَهللت بالحج، (فلما قضينا الحجَ أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع) أخي (عبدِ الرحمنِ بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت) أي أحرمت منها للعمرة، وأديت أفعالها، فلما فرغت منها (فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) في نسخة: "فقال لي".
(2)
جمع ابن قتيبة في نوعية إحرامها. وتقدَّم الكلام عليه في الشرح، وسيأتي أيضًا. (ش).
«هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ» . قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ (1) رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ، وَأَمَّا (2) الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا. [خ 1556، م 1211، ن 2763]
===
(هذه) أي العمرة التي اعتمرتِ من التنعيم (مكان عمرتكِ) التي رفضتها.
(قالت: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا) من العمرة، (ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من مني لحجهم) وهذا هو طواف الإفاضة، فإنهم لما حلوا عن طواف العمرة صاروا متمتعين.
(وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا)(3).
قال العيني (4): فيه حجة لمن قال: الطواف الواحد والسعي الواحد يكفيان للقارن، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وغيرهم (5)، وقال الأوزاعي والشعبي والنخعي ومجاهد وابن أبي ليلى وغيرهم وأبو حنيفة وأصحابه: لا بد للقارن من طوافين وسعيين، وحكي ذلك عن علي وعمر والحسن والحسين وابن مسعود.
وعن علقمة وابن (6) مسعود قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته وحجه طوافين، وسعى سعيين، وأبو بكر وعمر وعلي، انتهى.
(1) في نسخة: "إذ".
(2)
في نسخة: "فأما".
(3)
وأطال السندي على البخاري عليه كلامًا طويلًا، وقال: لا يصح له معنى، وبسطت التوجيهات فيه في "الأوجز"(8/ 419)، وسيأتي بمعناه في "باب طواف القارن". (ش).
(4)
"عمدة القاري"(7/ 89).
(5)
كما في "المغني"(5/ 347)، و"مناسك النووي"(ص 167)، و"الروض المربع"(1/ 168). (ش).
(6)
كذا في الأصل، وفي "عمدة القاري":"وعن علقمة عن ابن مسعود قال".
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ وَمَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ نَحْوَهُ، لَمْ يَذْكُرُوا طَوَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِعُمْرَةٍ، وَطَوَافَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.
===
وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه: قوله: طافوا طوافًا واحدًا، أوَّله بعضهم بأن معناه: طافوا لكل واحد منهما طوافًا واحدًا، ولا يصح تأويله بعد ما علم من مذهب عائشة أنها كانت ترى للقارن طوافًا واحدًا كالسعي، كما هو مذهب الشافعية.
والسبب في اختلاف هؤلاء في هذه الأمور ما رأوا من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، فمن لم يرَ طوافيه وسعييه بل لحقه بعد ما طاف وسعى مرة جزم بأنه إنما فعلهما مرة واحدة، والآخرون لما رأوا طوافيه وسعييه اختاروا ذلك، وقد تقدم أن المثبت أولى من النافي.
وأوله بعض الأذكياء من العلماء من أهل الدرس أن معناه: وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا للإحلال طوافًا واحدًا، فإنهم لم يحلوا بعد طواف العمرة، وإنما حلوا بعد طواف الزيارة، فليس طوافهم للحل إلَّا طوافًا واحدًا (1).
(قال أبو داود: رواه إبراهيم بن سعد (2) ومعمر (3)، عن ابن شهاب نحوه) أي نحو حديث مالك، عن ابن شهاب (لم يذكروا) أي إبراهيم ومعمر وغيرهما (طوافَ الذين أهلُّوا بعمرة، وطوافَ الذين جمعوا الحج والعمرة) حاصله أن حديث إبراهيم ومعمر تم على قوله: هذه مكان عمرتك، وأما مالك فزاد في حديثه: قالت: فطاف الذين أهلوا، الحديث.
(1) ويؤيد هذا التوجيه الحديث القولي في "الترمذي" بلفظ: "حتى يحل منهما". [انظر: حديث (948)]. (ش).
(2)
أخرج روايته البخاري رقم (316).
(3)
أخرج روايته أحمد (6/ 163)، ومسلم (1211)، وابن حبان (3927)، والبيهقي (4/ 353).
1782 -
حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ، فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِى
===
1782 -
(حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل، نا حماد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: لبينا بالحج) كتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه رحمه الله: إنما أضافته إلى نفسها مجازًا (1)، كما أضافته في قولها بعد ذلك (2): فلما قدمنا تطوفنا، ومن المعلوم أنها كانت حائضة عند ذلك، وإنما نسبت فعل الجماعة إليها أيضًا، ولا يضرنا لو سلَّمنا أنها كانت قارنة؛ فإنها وإن نوت النُّسكين جميعًا غير أنها برفض العمرة صارت مفردة بالحج.
(حتى إذا كنا بسرف) بفتح أوله، وكسر ثانيه، وآخره فاء: موضع على ستة أميال من مكة، وقيل سبعة، وتسعة، واثني عشرة، تزوج به رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونةَ بنت الحارث، وهناك بني بها، وهناك تُوُفِّيَتْ رضي الله عنها.
(حضتُ، فدخل عَليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي)، قال الحافظ (3): تقدم أن حيضها كان بسرف قبل دخولهم مكةَ، وفي رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم: أن دخول النبي صلى الله عليه وسلم عليها وشكواها ذلك له كان يوم التروية، ووقع عند مسلم من طريق مجاهد، عن عائشة: أن طهرها كان بعرفة، وفي رواية القاسم عنها:"وطهرت صبيحةَ ليلةِ عرفة حتى قدمنا مني"، وله من طريقه:"فخرجت في حجتي، حتى نزلنا [منى] فتطهرت ثم طفنا بالبيت" الحديث.
واتفقت الروايات أنها طافت طواف الإفاضة من يوم النحر، واقتصر النووي في "شرح مسلم" على النقل عن أبي محمد بن حزم: أن عائشة حاضت
(1) هذا التوجيه معين؛ فإن سياق هذا الحديث معارض بما سبق: "فأهللنا بعمرة"، وكذا ما سيأتي عن جابر. (ش).
(2)
في حديث الأسود الآتي، وقد رواه البخاري أيضًا برقم (1561). (ش).
(3)
"فتح الباري"(3/ 608).
فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكِ يَا عَائِشَةُ؟ » فَقُلْتُ: حِضْتُ، لَيْتَنِى لَمْ أَكُنْ حَجَجْتُ، فَقَالَ:«سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّمَا ذَلِكَ شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ» ، فَقَالَ:«انْسُكِى الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ» ، فَلَمَّا دَخَلْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْىُ». قَالَتْ: وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ يَوْمَ النَّحْرِ،
===
يوم السبت ثالثَ ذي الحجة، وطهرت يوم السبت عاشرة يوم النحر، وإنما أخذه ابن حزم من هذه الرواية التي في مسلم.
ويُجْمَعُ بين قول مجاهد وقول القاسم: أنها رأت الطهر وهي بعرفة، ولم تتهيأ للاغتسال إلَّا بعد أن نزلت مني، أو انقطع الدم عنها بعرفة، وما رأت الطهر إلَّا بعد أن نزلت مني، وهذا أولى، انتهى.
(فقال: ما يبكيكِ يا عائشة؟ فقلت: حضت، ليتني لم أكن حججت) في هذا العام، (فقال: سبحان الله، إنما ذلك شيء) أي الحيض أمر (كتبه الله على بنات آدم)(1) لا يمنع الحج.
(فقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انسُكي المناسك كلها غير أن لا تطوفي (2) بالبيت) ولا تسعي بين الصفا والمروة، (فلما دخلنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شاء أن يجعلها) أي الحجة (عمرة فليجعلها عمرة).
وكان هذا الحكم المعلَّق على المشيئة من غير إيجاب في ابتداء الأمر، فلما رأى استنكافهم عن ذلك أوجبه عليهم، وكان هذا خاصة لهم في تلك السنة لدفع أمر الجاهلية (إلَّا من كان معه الهدي، قالت: وذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه البقر يوم النحر).
(1) اختلف في بدء الحيض، فقيل في نساء بني إسرائيل عقوبة لهن، واستدل البخاري بحديث الباب على أنه من بنات آدم، كذا في "القسطلاني"(1/ 619)، والبسط في هامش "اللامع"(2/ 238 - 241). (ش).
(2)
لفظة "لا" زائدة، وإلا يكون إثبات الطواف، كذا في "القسطلاني". (ش).
فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْبَطْحَاءِ وَطَهُرَتْ (1) عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَرْجِعُ صَوَاحِبِى بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِالْحَجِّ؟ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى بَكْرٍ فَذَهَبَ بِهَا إِلَى التَّنْعِيمِ فَلَبَّتْ بِالْعُمْرَةِ". [م 1211، حم 6/ 219]
1783 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (2) وَلَا نَرَى إلَّا أَنَّهُ الْحَجُّ،
===
والظاهر أن جميع نسائه صلى الله عليه وسلم كنَّ في هذا السفر، وكانت تسع نسوة، فكيف يمكن أن تكفي البقرة عن جميعهن؟ فالجواب عنه: أن البقرة كانت عن سبع منهن، وعن الباقية لعله ذبح غير البقرة.
(فلما كانت ليلة البطحاء) وهي ليلة المحصب (وطهرت عائشة رضي الله عنها) قبلها، كما تقدم أنها طهرت يوم النحر (قالت: يا رسول الله! أترجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بالحج؟ ) أي مفردًا؛ لأنها كانت رفضت عمرتها (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الرحمنِ بنَ أبي بكر فذهب بها) أي بعائشة (إلى التنعيم، فلبَّت) أي أحرمت (بالعمرة) منه.
1783 -
(حدثنا عثمان بن أبي شيبة، نا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع (لا نرى إلَّا أنه الحج)(3)؛ وذلك لأن المعتمر يعدّه أهلُ العرف حاجًّا،
(1) في نسخة: "تجهزت أي للحج لأنها طهرت".
(2)
زاد في نسخة: "و".
(3)
وقال السندي على البخاري: أي: لا نرى إلا أن الذي وقع الخروج له هو الحج، ولعلَّ المراد به أن المقصود الأصلي ما كان من الخروج إلا الحج، ومن اعتمر منهم فعمرته كانت نابعة للحج، فلا يخالف ما سبق أنها كانت معتمرة، ثم قال: ويحتمل أن يقال: إن هذا (لا نرى إلَاّ الحج) باعتبار غالب من كان معه صلى الله عليه وسلم من الصحابة. (ش).
فَلمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا (1) بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -منْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يُحِلَّ، فَأَحَلَّ (2) مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ". [خ 1561، م 1211، ن 2802]
1784 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا (3) يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ
===
ومن كانت سفرته للعمرة فهو حاج أيضًا، فإن الحج لما كان هو القصد وهو يعم الحج والعمرة كان المعتمر كالحاج.
فمعناه: لا يعد سفرنا إلَّا لحج البيت وقصده، والدليل على ذلك قولها:"فمنا من أهل بحج، ومنا من أهل بعمرة"، فلما قبلت أنهم كانوا معتمرين وحاجين من أول الأمر ثم صرَّحت بقولها:"لا نرى إلَّا أنه الحج"، وجب حمل قولها على ما ذكر، كذا في تقرير مولانا محمد يحيى المرحوم.
(فلما قدمنا) مكة (تطوَّفنا بالبيت) وسعينا بعده، أي غيري؛ لأنها كانت حائضة (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن ساق الهدي أن يحل) عن إحرام العمرة، (فأحل من لم يكن ساق الهدي) وصار متمتِّعًا، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لم يكنَّ أهدين، فحللن بعد إتيانهن بأركان العمرة، فصرن متمتعات غير عائشة رضي الله عنها.
1784 -
(حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، نا عثمان بن عمر، أنا يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) لما رأى تأخُّرَ الصحابة عن فسخ الحج وتبطُّؤَهم: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت)
(1) في نسخة: "طفنا".
(2)
في نسخة: "فحل".
(3)
في نسخة: "ثنا".
لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ". [خ 7229، م 1211، حم 6/ 247]
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَحْسَبُهُ قَالَ: "وَلَحَلَلْتُ مَعَ الَّذِينَ أَحَلُّوْا مِنَ الْعُمْرَةِ". قَالَ: أَرَادَ أَنْ يَكُونَ أَمْرُ النَّاسِ وَاحِدًا.
1785 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِى الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "أَقْبَلْنَا مُهِلِّينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ مُفْرَدًا، وَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ مُهِلَّةً بِعُمْرَةٍ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِسَرِفَ عَرَكَتْ، حَتَّى إِذَا قَدِمْنَا طُفْنَا بِالْكَعْبَةِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُحِلَّ مِنَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْىٌ. قَالَ: فَقُلْنَا: حِلُّ مَاذَا؟
===
أي: لو علمت من أمري في أول الحال ما علمت في آخر أمري (لَمَا سقت الهدي) ولجعلت حجي عمرة.
(قال محمد) بن يحيى بن فارس: (أحسبه) أي شيخي عثمانَ بن عمر (قال: ولحللت مع الذين أحلوا من العمرة، قال) محمد: (أراد) رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول (أن يكون أمر الناس واحدًا)، ولا يلزم على هذا تفضيل الإفراد (1) على القرآن بتمنِّيه ذلك؛ لأن التمني إنما هو بعارض أن الصحابة ترددوا في امتثاله، وكان فسخ الحج إلى العمرة مما وجب لأجل كراهتهم العمرةَ في أشهر الحج، لا لأجل فضل الإفراد على القران.
1785 -
(حدثنا قتيبة بن سعيد، نا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أقبلنا مُهِلِّين) أي مُحرِمين (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا، وأقبلت عائشة مهلة بعمرة) كما تقدم عنها أنها قالت: فكنت فيمن أهل بعمرة (حتى إذا كانت بسرف عَرَكت) أي: حاضت.
(حتى إذا قدمنا) مكة (طفنا بالكعبة، و) سعينا (بالصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل ما من لم يكن معه هدي، قال) جابر: (فقلنا: حِلُّ ماذا؟ )
(1) قوله: "تفضيل الإفراد" الظاهر بدله "تفضيل التمتع" وكذا فيما بعد.
قَالَ: «الْحِلُّ كُلُّهُ» ، فَوَاقَعْنَا النِّسَاءَ وَتَطَيَّبْنَا بِالطِّيبِ وَلَبِسْنَا ثِيَابَنَا، وَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إلَّا أَرْبَعُ لَيَالٍ. ثُمَّ أَهْلَلْنَا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عَائِشَةَ فَوَجَدَهَا تَبْكِى، فَقَالَ:«مَا شَأْنُكِ؟ » قَالَتْ (1): شَأْنِى أَنِّى قَدْ حِضْتُ، وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ وَلَمْ أُحْلِل، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ، وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إِلَى الْحَجِّ الآنَ. قَالَ (2):«إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاغْتَسِلِى ثُمَّ أَهِلِّى بِالْحَجِّ» ، فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتِ الْمَوَاقِفَ، حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ
===
إنما سألوا لأنهم استبعدوا أن يكون مراده الحل المعروف لدنو أيام مني وعرفة، فلعله أراد بالحل معنى آخر، فقالوا: أي الحل تعني؟ (قال: الحل كله) حتى المجامعة (فواقعنا) أي جامعنا (3)(النساءَ، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا) أي المخيطة.
(وليس بيننا وبين عرفة إلَّا أربع ليال، ثم أهللنا) للحج (يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة، فوجدها تبكي، فقال: ما شأنكِ؟ ) أي بماذا تبكي (قالت: شأني أني قد حضت، وقد حَلَّ الناس) بعد إتيان أفعال العمرة (ولم أحلِلْ، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن) فكيف أصنع؟ .
(قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا) أي الحيض (أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي) لإحرام الحج للتنظيف، (ثم أهلِّي بالحج) وارفضي العمرة (ففعلتْ ووقفتِ المواقفَ، حتى إذا طهرت طافت بالبيت) للإفاضة، (و) سعت (بالصفا والمروة، ثم قال) رسول صلى الله عليه وسلم: (قد حللتِ من حجكِ)(4) الآن
(1) في نسخة: "فقالت".
(2)
في نسخة: "فقال".
(3)
وورد في بعض الروايات بدله لفظ الاستمتاع بالنساء، واستدل بذلك من قال: أبيح المتعة في حجة الوداع أيضًا، كما في "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 151). (ش).
(4)
هذا أصرح دليل لمن قال: إنها كانت قارنة، كما سيأتي. (ش).
وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا». قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَجِدُ فِى نَفْسِى أَنِّى لَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ حِينَ حَجَجْتُ. قَالَ: «فَاذْهَبْ (1) بِهَا يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ» ، وَذَلِكَ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ". [م 1213، ن 2763، حم 3/ 394، جه 2963]
1786 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ (2) ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِى أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا (3) بِبَعْضِ هَذِهِ الْقِصَّةِ
===
(وعمرتكِ) قبل ذلك (جميعًا، قالت: يا رسول الله! اني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت) أي قبل الحج حين أردت الحج؛ لأنها كانت رفضت العمرةَ فلم تطف.
وأوضح من ذلك ما أخرج البيهقي في "سننه"(4) هذا الحديث بسند أبي داود وفيه: قالت: يا رسول الله! إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت
…
إلخ (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فاذهب بها يا عبد الرحمن فأَعْمِرْها من التنعيم) أي بالإحرام من التنعيم، لأنها كانت أقرب الحل (وذلك) أي ذهابها إلى التنعيم وعمرتها (ليلة الحصبة) أي ليلة قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحصب، وتلك ليلة الرابع عشرة من ذي الحجة.
1786 -
(حدثنا أحمد بن حنبل، نا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرًا ببعض هذه القصة) أي حدَّث ابن جريج ببعض هذة القصة التي حدَّثها الليث عن أبي الزبير.
(1) في نسخة: "فقال: اذهب".
(2)
زاد في نسخة: "ومسدد، قالا".
(3)
زاد في نسخة: "قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة".
(4)
انظر: "السنن الكبرى"(4/ 347).
قَالَ عِنْدَ قَوْلِهِ: «وَأَهِلِّى بِالْحَجِّ» : «ثُمَّ حُجِّى وَاصْنَعِى مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ وَلَا تُصَلِّى» . [م 1213، حم 3/ 309]
1787 -
حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَزْيَدٍ، أَخْبَرَنِى أَبِى قال: حَدَّثَنِى (1) الأَوْزَاعِىُّ، حَدَّثَنِى مَنْ سَمِعَ عَطَاءَ بْنَ أَبِى رَبَاحٍ، حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "أَهْلَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ خَالِصًا لَا يُخَالِطُهُ شَىْءٌ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ لأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ، فَطُفْنَا وَسَعَيْنَا، ثُمَّ أَمَرَنَا (2) رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحِلَّ وَقَالَ:«لَوْلَا هَدْيِي (3) لَحَلَلْتُ» ، ثُمَّ قَامَ (4) سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَرَأَيْتَ مُتْعَتَنَا هَذِهِ،
===
(قال) ابن جريج (عند قوله: وأهلي بالحج: ثم حجي واصنعي ما يصنع الحاج) من الوقوفِ بعرفة والمزدلفة ومنى وغيرها (غير أن لا تطوفي بالبيت) ما دمتِ حائضًا (ولا تصلي) فإن الحيض يمنع المرأة من الطواف والصلاة.
1787 -
(حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد، أخبرني أبي قال: حدثني الأوزاعي، حدثني من سمع عطاءَ بنَ أبي رباح) سيذكره المصنف في آخر هذا الحديث. (حدثني جابر بن عبد الله قال: أهللنا) أي أحرمنا (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصًا لا يخالطه شيء) من العمرة، (ففدمنا مكة لأربع ليال خلون من ذي الحجة، فطفنا وسعينا، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحل) أي بجعل الطواف والسعي للعمرة.
(وقال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا هديي لحللت، ثم قام سراقة بن مالك فقال: يا رسول الله! أرأيت) أي أخبرني (مُتْعَتَنا هذه) أي انتفاعنا بالحل بعد
(1) في نسخة: "حدثنا".
(2)
في نسخة: "فأمرنا".
(3)
في نسخة: "الهدي".
(4)
في نسخة: "فقام".
أَلِعَامِنَا (1) هَذَا أَمْ (2) لِلأَبَدِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ هِىَ لِلأَبَدِ» .
قَالَ الأَوْزَاعِىُّ: "سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِى رَبَاحٍ يُحَدِّثُ بِهَذَا فَلَمْ (3) أَحْفَظْهُ حَتَّى لَقِيتُ ابْنَ جُرَيْجٍ فَأَثْبَتَهُ لِى". [خ 7367، م 1213، جه 2980]
1788 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى الرَّبَاحٍ (4)، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (5) وَأَصْحَابُهُ لأَرْبَعِ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحِجَّةِ،
===
الطواف والسعي للعمرة (ألعامنا هذا) أي مختص بذلك العام (أم للأبد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هي للأبد) أي زال أمر الجاهلية، وهو أنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ودخلت العمرة في الحج، وأباح الله لهم ذلك، وأما فسخ الحج بالعمرة فهو مخصوص بهم في تلك السنة.
(قال الأوزاعي: سمعت عطاء بن أبي رباح يحدث بهذا) الحديث، (فلم أحفظه حتى لقيت ابن جريج فأثبته لي).
1788 -
(حدثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد، عن قيس بن سعد) المكي، أبو عبد الملك، ويقال: أبو عبد الله الحبشي، مولى نافع بن علقمة، ويقال: مولى أم علقمة، قال أحمد، وأبو زرعة، ويعقوب بن شيبة، وأبو داود: ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال العجلي: مكي، ثقة.
(عن عطاء بن أبي الرباح، عن جابر قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه) مكة (لأربع) ليال (خلون من ذي الحجة،
(1) في نسخة: "لعامنا".
(2)
في نسخة: "أو".
(3)
في نسخة: "ولم أحفظه".
(4)
وفي نسخة: "رباح".
(5)
في نسخة: "النبي".
فَلَمَّا طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوهَا عُمْرَةً إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْىُ» (1) ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ قَدِمُوا فَطَافُوا بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ". [حم 3/ 362]
===
فلما طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوها) أي أفعال الحج من الطواف والسعي (عمرة) أي افسخوها إلى العمرة (إلَّا من كان معه الهدي) فهو لا يفسخ ولا يجعلها عمرة.
(فلما كان يوم التروية) وهو الثامن من ذي الحجة (أَهَلوا) أي أحرموا (بالحج) وحجوا، (فلما كان يوم النحر) أي عاشر ذي الحجة (قدموا) مكة (فطافوا بالبيت) للإفاضة، (ولم يطوفوا بين الصفا والمروة).
قوله: "لم يطوفوا بين الصفا والمروة" مشكل ومخالف لما روى البخاري (2) في باب قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (3) من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن متعة الحج، فقال: أَهَل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلَّا من قلَّد الهدي"، فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا النساء، ولبسنا الثياب، وقال:"من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله"، ثم أمرنا عشية التروية أن نُهِلَّ بالحج، فإذا فرغنا من المناسك، جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقد ثَمَّ حجُّنا وعلينا الهدي، كما قال تعالى:{فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (4)، الحديث.
(1) في نسخة: "هدي".
(2)
"صحيح البخاري"(1572).
(3)
سورة البقرة: الآية 196.
(4)
سورة البقرة: الآية 196.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
ومخالف لجميع أئمة الأمة، فإن المتمتع إذا طاف للإفاضة يجب عليه السعي ثانيًا، وقد سعى في عمرته بعد طوافها سعيًا أولًا، وهذا أمر متفق عليه إلَّا من شذَّ ممن لا يعتد بخلافه، فلا محيص منه إلَّا بحمله على وهم بعض الرواة، أو يُؤَوَّل بتأويل فيه تعسُّف.
فالتأويل الأول أن يقال: إن هذا القول ليس بمرتبط بمن تمتَّع منهم، فحلوا بعد أفعال العمرة، بل هو متعلق بالقارنين منهم الذين يدل عليهم قوله:"إلَّا من كان معه الهدي"؛ فإنهم أتوا بأفعال العمرة أولًا، ثم طافوا للقدوم، وسعوا فيه، ثم لما فرغوا من الحج طافوا بالبيت طواف الزيارة فإنهم لم يطوفوا بين الصفا والمروة؛ لأنهم أدُّوها في طواف القدوم.
والتأويل الثاني أن يقال: معنى قوله: "ولم يطوفوا"، أي: لم يذكر الراوي طوافهم بين الصفا والمروة، كما ورد في الحديث المتفق عليه (1) عن عائشة رضي الله عنها قالت:"فطاف الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافًا آخر بعد أن رجعوا من مني لحجهم"، فكما لم يذكر في هذا الحديث الطواف بين الصفا والمروة، فكذلك يقال في هذا الحديث: إن الراوي لم يذكر طوافهم بين الصفا والمروة، بل اقتصر على الطواف بالبيت.
والتأويل الثالث أن يقال: إن هذا القول متعلق ببعض المتمتِّعين منهم، ويقال: يحتمل أنهم طافوا متنفِّلين بعد إحرام الحج، وسعوا بعده، فحينئذٍ لا يجب عليهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة بعد طواف الزيارة.
والتأويل الرابع أن يقال: إن هذا القول مرتبط بجميع ما تقدم من الفرق: المتمتعين منهم والقارنين؛ بأنهم لما قدموا يوم النحر، وطافوا للإفاضة سعوا بين الصفا والمروة، ثم لما طافوا طواف الصدر لم يطوفوا بين الصفا والمروة، وهذه كلها تأويلات متعسفة غير متبادرة إلى الذهن.
(1) انظر: "صحيح البخاري"(1556)، و"صحيح مسلم"(1211).
1789 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِىُّ، حَدَّثَنَا حَبِيبٌ - يَعْنِى الْمُعَلِّمَ -، عَنْ عَطَاءٍ، حَدَّثَنِى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ هَدْىٌ إلَّا النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ، وَكَانَ عَلِىٌّ - رضى الله عنه - قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ وَمَعَهُ الْهَدْىُ (1) فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
===
1789 -
(حدثنا أحمد بن حنبل، نا عبد الوهاب الثقفي، نا حبيب- يعني المعلِّم-، عن عطاء، حدثني جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج، وليس مع أحد منهم يومئذٍ هدي إلَّا النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة، وكان علي رضي الله عنه قدم من اليمن معه الهدي، فقال) علي: (أهللتُ) أي أحرمتُ (بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال الشوكاني (2) بعد ذكر حديثِ علي هذا، وحديثِ أبي موسى الأشعري: والحديثان يدلان على جواز الإحرام كإحرام شخص يعرفه من أراد ذلك، وأما مطلق الإحرام على الإبهام فهو جائز، ثم يصرفه المحرم إلى ما شاء؛ لكونه صلى الله عليه وسلم لم ينه عن ذلك، وإلى ذلك ذهب الجمهور. وعن المالكية: لا يصح الإحرام على الإبهام، وهو قول الكوفيين.
قال ابن المنيَّر: وكأنه مذهب البخاري؛ لأنه أشار في "صحيحه" عند الترجمة لهذين الحديثين إلى أن ذلك خاص بهذا الزمن، وأما الآن فقد استقرت الأحكام وعُرِفَتْ مراتب الأحكام، فلا يصح ذلك.
وهذا الخلاف يرجع إلى قاعدة أصولية، وهي: هل يكون خطابه صلى الله عليه وسلم لواحد أو لجماعة مخصوصة في حكم الخطاب لعام الأمة أو لا؟ فمن ذهب إلى الأول جعل حديثَ علي وأبي موسى شرعًا عامًّا، ولم يقبل دعوى الخصوصية إلَّا بدليل، ومن ذهب إلى الثاني قال: إن هذا الحكم مختص بهما، والظاهر الأول، انتهى.
(1) في نسخة: "هدي".
(2)
"نيل الأوطار"(3/ 328).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وقال في "لباب المناسك" وشرحه (1) لعلي القاري: وتعيين النسك ليس بشرط، بل يكفي في صحته أن ينوي بقلبه ما يحرم به من حج أو عمرة أو قران أو نسك من غير تعيين، فصح إحرامه مبهمًا، وإن كان لا بدَّ من أن يصير مبينًا ومعينًا، وبما أحرم به الغير معلقًا به، كما في حديث علي- كرَّم الله وجهه- حيث قال: أحرمت بما أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: وبهذا يعلم أن عندنا معشر الحنفية يجوز الإحرام مبهمًا ومعلَّقًا.
وقال العيني في "شرح البخاري"(2) في شرح قصة علي رضي الله عنه: وفي هذا دليل لمذهب الشافعي ومن وافقه في أنه يصح الإحرام معلَّقًا، ولا يجوز عند سائر العلماء والأئمة الإحرامُ بالنية المبهمة لقوله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} (3)، ولقولِه:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (4)، ولأن هذا كان لعلي رضي الله عنه خصوصًا، وكذلك لأبي موسى الأشعري، وقال أيضًا في قصة أبي موسى الأشعري: فيه الدلالة على جواز الإحرام المعلق، وبه أخذ الشافعي، وقد ذكرناه مع الجواب عنه، انتهى.
وهذا يدل على أن عند الحنفية لا يجوز الإحرام المعلق ولا المبهم، فهذا مخالف لما في كتب الحنفية.
قال في "البدائع"(5): ولو لبَّى ينوي الإحرام ولا نية له في حج ولا عمرة، مضى في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطًا، فإن طاف شوطًا كان إحرامه
(1) انظر: "شرح القاري على اللباب"(ص 107).
(2)
"عمدة القاري"(7/ 90، 95).
(3)
سورة البقرة: الآية 196.
(4)
سورة محمد: الآية 33.
(5)
"بدائع الصنائع"(2/ 370).
وَأَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً يَطُوفُوا، ثُمَّ يُقَصِّرُوا، وَيَحِلُّوا، إلَّا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْىُ (1)، فَقَالُوا: أَنَنْطَلِقُ (2) إِلَى مِنًى وَذُكُورُنَا تَقْطُرُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:«لَوْ أَنِّى اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلَا أَنَّ مَعِىَ الْهَدْىَ لأَحْلَلْتُ» (3). [خ 1785، م 1216، حم 5/ 303، خزيمة 2785]
1790 -
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ
===
للعمرة، والأصل في انعقاد الإحرام بالمجهول ما روي أن عليًّا وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما لما قدما من اليمن في حجة الوداع قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم:"بماذا أهللتما؟ "، فقالا: بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فصار هذا أصلًا في انعقاد الإحرام بالمجهول، ولأن الإحرام شرط جواز الأداء عندنا، وليس بأداء بل هو عقد على الأداء، فجاز أن ينعقد مجملًا، ويقف على البيان، انتهى.
(وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه)، الذين ليس معهم هدي (أن يجعلوها عمرة، يطوفوا، ثم يقصروا، ويحلوا، إلَّا من كان معه الهدي) فإنهم لا يحلون حتى ينحر الهدي، (فقالوا) أي لما أمرهم أن يجعلوها عمرة ويحلوا، قالوا:(أننطلق إلى مني وذكورنا تقطر؟ ) أي كيف نحل مع قرب رواحنا إلى مواقف الحج (فبلغ ذلك) أي قولُهم بإنكار الحل، ولعلهم قالوا ذلك لأنهم لم يفهموا وجوبَ الحكم (رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت) أي ما سقت الهدي، ولحللت مع أصحابي (ولولا أن معي الهدي لأحللت) أي بعد أفعال العمرة، كما فعل أصحابي.
1790 -
(حدثنا عثمان بن أبي شيبة، أن محمد بن جعفر
(1) في نسخة: "هدي".
(2)
في نسخة: "ننطلق".
(3)
زاد في نسخة: "قال أبو داود: يعني بذكورنا تقطر: قرب العهد بالنساء".
حَدَّثَهُمْ، عن شُعْبَةَ، عن الْحَكَمِ، عن مُجَاهِدٍ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:"هَذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِهَا، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ (1) هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ الْحِلَّ كُلَّهُ، وَقَدْ دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". [م 1241، ن 2815، حم 3/ 359، دي 1856]
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا مُنْكَرٌ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
===
حدثهم، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: هذه عمرة استمتعنا بها) أي تمتَّعنا وترفقنا بها في الحج، (فمن لم يكن عنده هدي فليَحِلَّ الحلَّ كلَّه). وأما من كان عنده هدي فلا يحل، ولكن هو أيضًا داخل في معنى قوله تعالى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (2) الآية. (وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة). قال في "درجات مرقاة الصعود"(3): قال الطبري: اختلف بتأويله، فمن نفوها قالوا: تؤدى بالحج وهو معنى دخولها فيه، ومن أوجبها قالوا: ذلك على وجهين: الأول: أن كل العمرة قد دخلت في عمرة الحج، فلا يرى على قارن أكثر من إحرام واحد، الثاني: أنها دخلت في وقت الحج وشهوره، وكانت الجاهلية لا يعتمرون في أشهره، فأبطله صلى الله عليه وسلم بقوله هذا.
(قال أبو داود: هذا منكر) أي رفع هذا الحديث منكر (إنما هو) أي الحديث (قول ابن عباس) موقوف عليه.
قلت: وقد أخرج هذا الحديث البيهقي (4): أخبرنا أبو بكر بن فورك (5)، أنبأ عبد الله بن جعفر بن أحمد، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، عن (6)"ح". وأخبرنا أبو نصر محمد بن أحمد بن إسماعيل الطابراني بها، ثنا عبد الله بن
(1) في نسخة: "معه".
(2)
سورة البقرة، الآية:196.
(3)
(ص 90).
(4)
"السنن الكبرى"(5/ 18).
(5)
في الأصل: (خودك) وهو تحريف.
(6)
هكذا في النسخة، والظاهر: عن الحكم. (ش).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
أحمد بن منصور، ثنا محمد بن إسماعيل الصائغ، ثنا روح، ثنا شعبة، ثنا الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن معه هدي فليحل الحل كله، فقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة".
أخرجه مسلم في "الصحيح"(1) من حديث غندر ومعاذ بن معاذ، عن شعبة. وكأنه أراد- والله أعلم- أصحابَه الذين حلوا واستمتعوا، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلهف حيث ساق الهدي فلم يحل، ولو كان متمتعًا بالعمرة إلى الحج لم يتلهف عليها، والله أعلم.
وقد أخرج مسلم في "صحيحه"(2) هذا الحديث: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا: نا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة ح، وحدثنا عبيد الله بن معاذ (واللفظ له)، حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه عمرة استمتعنا بها، فمن لم يكن عنده الهدي فليحل الحل كله؛ فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة".
فَعُلِمَ بحديث البيهقي وبحديث مسلم أن الحديث الذي رواه محمد بن جعفر مرفوعًا كذلك رواه أبو داود الطيالسي وروح ومعاذ بن معاذ كلهم رووا عن شعبة مرفوعًا، فقول أبي داود:"هذا منكر" محل نظر.
ويحتمل أن يقال: إن مراده بقوله "هذا منكر" أن قوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، هو المشار إليه.
وغرضه أن هذا الكلام من جملة حديث ابن عباس منكر، ويشير إليه ما في مسلم:"فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة"، ذكره بطريق الدليل، والظاهر أن إيراد الدليل من ابن عباس لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما التوجيه الذي أشار إليه البيهقي بقوله: وكأنه أراد أصحابه الذين حلوا
(1) برقم (1241).
(2)
برقم (1241).
1791 -
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنِى أَبِي، حَدَّثَنَا النَّهَّاسُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ بِالْحَجِّ ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ (1) بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ حَلَّ، وَهِىَ عُمْرَةٌ» .
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ (2)، عَنْ عَطَاءٍ:"دَخَلَ أَصْحَابُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ خَالِصًا، فَجَعَلَهَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عُمْرَةً".
===
واستمتعوا إلى آخره؛ لا حاجة إليه، فإنه ليس المراد بالاستمتاع الاستمتاع بالحل، ولكن المراد الاستمتاع بالعمرة كما في قوله:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} (3)، كذلك في هذا القول، أي: استمتعنا بها، أي بالعمرة. وهذا القول يشمل كلا الفريقين الذين حلُّوا بعد العمرة والذين لم يحلوا منها؛ لأنهم كلهم تمتعوا بالعمرة في أشهر الحج.
1791 -
(حدثنا عبيد الله بن معاذ، حدثني أبي) معاذ بن معاذ (نا النَّهَّاس) بتشديد الهاء ثم مهملة، ابن قَهم بفتح القاف وسكون الهاء، القيسي، أبو الخطاب البصري، القاص، كان ابن عدي يقول: لا يساوي شيئًا. وقال ابن معين وأبو حاتم: ليس هو بشيء. وعن ابن معين: ضعيف. وقال أبو داود: ليس بالقوي. تكلَّم فيه ابن عدي، وقال في موضع آخر: ليس بذاك. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن حبان: كان يروي المناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به. وقال الدارقطني: مضطرب الحديث، تركه يحيى القطان. قلت: وقال أبو أحمد الحاكم: ليِّن.
(عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أهلَّ الرجل بالحج، ثم قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حَلَّ، وهي عمرة).
(قال أبو داود: رواه ابن جريج عن عطاء: دخل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مهلِّين بالحج خالصًا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عمرة)
(1) في نسخة: "وطاف".
(2)
زاد في نسخة: "عن رجل"، لم يوجد في أكثر من النسخ.
(3)
سورة البقرة، الآية:196.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
أورد المصنف رحمه الله ها هنا حديثين: أولهما حديث النهاس، عن عطاء، عن ابن عباس. وكان مدلول هذا الحديث قاعدة كلية: بأنه إذا أهل الرجل بالحج، ثم قدم مكة فطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حَلَّ، ويكون هذا عمرة، وكانت هذه القاعدة خلافًا لما ثبت في الشرع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتًا بيِّنًا لا مرية فيه؛ بأن هذا كان مختصًّا بأصحابه الذين لم يكن معهم هدي، وكان هذا ضعيفًا لضعف النهاس.
وأورد بعده حديث ابن جريج ليدل أن هذا الحديث منكر، والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل هذا لأصحابه الذين أهلُّوا بالحج ولم يكن معهم هدي، فجعلها عمرة لهم، فلعلَّه كان قول المؤلف الذي تقدَّم في الحديث المارّ، وهو: قال أبو داود: "هذا حديث منكر؛ إنما هو قول ابن عباس" في هذا الحديث، فغلط بعض النساخ، وكتب عقبه الحديث المتقدِّم، ولكن لم أره في نسخة من نسخ أبي داود التي عندي.
قلت: قد ثبت أن مذهب ابن عباس رضي الله عنه: أن من طاف بالبيت سواء كان حاجًّا أو معتمرًا فقد حل، أخرجه مسلم (1) من حديث أبي حسان قال: قيل لابن عباس: إن هذا الأمر قد تَفَشَّغَ بالناس، من طاف بالبيت فقد حل، وفي رواية: ما هذا الفتيا التي قد تَشَغَّفَتْ أو تشغَّبَتْ (2) بالناس، الطواف عمرة، فقال:"سنَّة نبيكم صلى الله عليه وسلم وإن رغمتم". وأخرج أيضًا من حديث ابن جريج، أخبرني عطاء قال: كان ابن عباس يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاجٍّ إلَّا حَلَّ. قلت لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3)، قال: قلت: فإن ذلك بعد المُعَرَّف (4)، فقال: كان ابن عباس يقول: هو بعد المعرَّف وقبله، وكان يأخذ ذلك من أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم أن يحلوا في حجة الوداع.
(1) انظر: "صحيح مسلم"(1244، 1245).
(2)
أي: فشا وانتشر.
(3)
سورة الحج: الآية 33.
(4)
أي: بعد الوقوف بعرفة. (ش).
1792 -
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ شَوْكَرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَا: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِى زِيَادٍ (1) ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:"أَهَلَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ فَلَمَّا قَدِمَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - وَقَالَ ابْنُ شَوْكَرٍ: وَلَمْ يُقَصِّرْ - (2) وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ الْهَدْىِ، وَأَمَرَ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْىَ أَنْ يَطُوفَ، وَأَنْ يَسْعَى وَيُقَصِّرَ ثُمَّ يَحِلَّ". زَادَ ابْنُ مَنِيعٍ (3): "أَوْ يَحْلِقَ ثُمَّ يَحِلَّ". [حم 1/ 241]
===
فلما ثبت أن ابن عباس كان مذهبه ذلك، فما روى النهاس موافقًا لمذهبه لا يكون منكرًا، وقد قال: إنه سنَّة نبيكم صلى الله عليه وسلم. فما رواه أبو داود من حديث ابن جريج عن عطاء: دخل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مهلِّين بالحج خالصًا، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم عمرة؛ ليس مخالفًا لمذهبه بل هو مستدله، نعم قول ابن عباس في الحديث: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أهل الرجل؛ هذا فيه نكارة؛ لأنه لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك القول، فالظاهر أن هذا من حديث النهاس منكر، والله أعلم.
1792 -
(حدثنا الحسن بن شوكر وأحمد بن منيع قالا: نا هشيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم بالحج، فلما قدم) مكة (طاف بالبيت وبين الصفا والمروة. وقال ابن شوكر: ولم يقصِّرْ، ولم يَحِلَّ من أجل الهدي)؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أهدى فمنعه الهدي من الحل، وهذه زيادة ابن شوكر، ثم اتفقا (4) (وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف وأن يسعى) للعمرة (ويقصِّرَ ثم يحل. زاد ابن منيع: أو يحلق) أي بعد قوله: ويقصر (ثم يَحِلَّ).
(1) زاد في نسخة: "قال ابن منيع: أخبرني يزيد بن أبي زياد، المعنى".
(2)
زاد في نسخة: "ثم اتفقا".
(3)
في نسخة: "قال ابن منيع في حديثه".
(4)
قد وقع هنا قلب، فإن ما انفرد به ابن شوكر هو لفظ:"ولم يقصر" فقط، وأما قوله:"ولم يحل من أجل الهدي" فمما اتفق عليه ابن منيع وابن شوكر جميعًا، فعلى هذا كان ينبغي الكلام هكذا: وقال ابن شوكر: "ولم يقصر" وهذه زيادة ابن شوكر ثم اتفقا: "ولم يحل من أجل الهدي" لأنه صلى الله عليه وسلم أهدى فمنعه الهدي من الحل "وأمر
…
" إلخ.
1793 -
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِى حَيْوَةُ، أَخْبَرَنِى (1) أَبُو عِيسَى الْخُرَاسَانِىُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ (2)، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ:"أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ - فَشَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى مَرَضِهِ الَّذِى قُبِضَ فِيهِ: يَنْهَى عَنِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ".
===
1793 -
(حدثنا أحمد بن صالح، نا عبد الله بن وهب، أخبرني حيوة) بن شريحٍ، (أخبرني أبو عيسى الخراساني) التميمي، اسمه سليمان بن كيسان، نزيل مصر، ذكره ابن حبان في "الثقات". قلت: وقال ابن القطان: حاله مجهولة. وقال في "التقريب": مقبول.
(عن عبد الله بن القاسم) التيمي، البصري، مولى أبي بكر رضي الله عنه، ذكره ابن حبان في "الثقات"، له عنده في النهي عن العمرة قبل الحج. قلت: وذكر روايته عن ابن عمر تبعًا للبخاري، وسمى أبو عمرو الداني جده يسارًا، وقال ابن القطان: مجهول.
(عن سعيد بن المسيب: أن رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) لم أقف على تسميته (أتى عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه، فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قُبِضَ فيه: ينهى عن العمرة قبل الحج)، قال الخطابي (3): في إسناد هذا الحديث مَقَالٌ، وإن ثبت يُحمَل على الاستحباب، وإنما أمر بتقديم الحج لأنه أعظم الأمرين وأتمهما (4)، ويخاف عليه الفوت لتعين وقته، بخلاف العمرة ليس لها وقت موقوت، كأيام السنة كلها تتسع لها، وقد قدمه تعالى بقوله:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (5)، كذا نُقِلَ عنه في "الدرجات"(6).
(1) في نسخة: "أخبرني أبو عيسى الخراساني، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب".
(2)
زاد في نسخة: "الخراساني".
(3)
انظر: "معالم السنن"(2/ 166).
(4)
كذا في الأصل، وكذا في "الدرجات"، وفي "معالم السنن":"وأهمهما".
(5)
سورة البقرة، الآية:196.
(6)
(ص 90).
1794 -
حَدَّثَنَا مُوسَى (1) أَبُو سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى شَيْخٍ الْهُنَائِىِّ خَيْوَانَ بْنِ خَلْدَةَ مِمَّنْ قَرَأَ عَلَى أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ قَالَ لأَصْحَابِ (2) النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (3) صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كَذَا وركُوبِ جُلُودِ النُّمُورِ؟
===
وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه رحمه الله: قوله: ينهى عن العمرة قبل الحج، وذلك لئلا يفوته الحج، وهو فريضة ثابتة بالنص القرآني، ولا كذلك العمرة، ولعلَّ عمر رضي الله عنه فهم منه النهيَ عن إتيان العمرة بمعد الإحرام بالعمرة والحجة، فكان ذلك نهيًا عن القرآن، والنهي نهي تنزيه لأفضلية الإفراد عنده.
1794 -
(حدثنا موسى أبو سلمة، نا حماد، عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي) بضم الهاء، وتخفيفِ النون، وبمدٍّ؛ نسبة إلى هناة بن مالك الهمداني (خيوان بن خلدة) قيل اسمه: خيوان بن خالد، وقيل: خيوان، قال: أتانا كتاب عمر ونحن مع عثمان بن أبي العاص، وكان (ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة) ذكره خليفة في الطبقة الثانية من قراء أهل البصرة، وذكره ابن حبان في "الثقات". قلت: وقال ابن سعد: أبو شيخ الهنائي من الأزد، كان ثقة، وقال العجلي: مصري تابعي ثقة.
(إن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا) كنى الراوي عن بعض أمور ذكرها معاوية، إما نسيانًا وإمَّا اختصارًا، (وركوبِ جلودِ النمور؟ )؛ لأنها من زي العجم، أو لأنه يورث النخوة والخيلاء.
(1) في نسخة: "موسى بن إسماعيل".
(2)
في نسخة: "يا أصحاب".
(3)
في نسخة: "النبي".
قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَهَى (1) أَنْ يُقْرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؟ فَقَالُوا (2): أَمَّا هَذَا (3) فَلَا، فَقَالَ (4): أَمَا إِنَّهَا مَعَهُنَّ وَلَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ". [حم 4/ 95]
===
(قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه) صلى الله عليه وسلم (نهى أن يُقرَن بين الحج والعمرة؟ فقالوا: أما هذا فلا، فقال: أما) حرف تنبيه (إنها) أي المقارنة بين الحج والعمرة (معهن) أي مع الأمور التي نهى عنها (ولكنكم نسيتم).
قال الخطابي (5): لم يوافق الصحابةُ معاويةَ على هذه الرواية، وإن ثبت يحمل على الأفضل؛ لأن الإفراد أفضل من القران على بعض المذاهب.
قلت: بل الحديث محمول على أن معاوية رضي الله عنه فهم من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج إلى العمرة (6)، وتَلَهُّفِه صلى الله عليه وسلم على إرسال الهدي وتمنيه عدمَ سوقِ الهدي، والحِلِّ بعد العمرة؛ بأن القران منهي عنه، وكان هذا مخالفًا لإجماع الصحابة، فلا يُحْتَجُّ برأي معاوية رضي الله عنه على الانفراد.
ويحتمل أن يقال: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن بين الحج والعمرة بأن يهلّ أولًا بالحج، ثم أدخل عليه إحرام العمرة؛ وهذا الأمر أي إدخال إحرام العمرة على إحرام الحج منهي عنه، قال في "لباب المناسك": وإن قدمه أي الحج إحرامًا بأن أدخل إحرام العمرة على إحرام الحج كره، لأنه خلاف السنة، انتهى.
(1) في نسخة: "نهى عن".
(2)
في نسخة: "قالوا".
(3)
في نسخة: "هذه".
(4)
في نسخة: "قال".
(5)
انظر: "معالم السنن"(2/ 167).
(6)
وقد أخرج مالك في "الموطأ"(1/ 343)"باب العمرة في أشهر الحج": أن رجلًا سأل سعيدَ بنَ المسيب، فقال: أعتمر قبل أن أحج؟ فقال سعيد: نعم، قد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحِج. (ش).