الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
(6) أَوَّلُ كِتَابِ النِّكَاحِ
===
بسم الله الرحمن الرحيم
(6)
(أَوَّلُ كِتَابِ النِّكَاحِ)(1)
قال الحافظ (2): النكاح في اللغة: الضم والتداخل، وقال الفراء: النُّكْح - بضم ثم سكون - اسم الفرج، ويجوز كسر أوله، وكثر استعماله في الوطء، وسمي به العقد لكونه سببه، قال أبو القاسم الزجاجي: هو حقيقة فيهما، وقال الفارسي: إذا قالوا: نكح فلانة أو بنت فلان فالمراد العقد، وإذا قالوا: نكح زوجته فالمراد الوطء. وقال آخرون: أصله لزوم شيء لشيء مستعليًا عليه، ويكون في المحسوسات، وفي المعاني قالوا: نكح المطر الأرض، ونكح النعاس عينه، ونكحت القمح في الأرض إذا حرثتها وبذرته فيها، ونكحت الحصاة أخفاف الإبل.
وفي الشرع: حقيقة في العقد، مجاز في الوطء على الصحيح، والحجة في ذلك كثرة وروده في الكتاب والسنَّة للعقد حتى قيل: إنه لم يرد في القرآن إلَّا للعقد، ولا يرد مثل قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (3) لأن شرط الوطء في التحليل إنما ثبت بالسنَّة، وإلَّا فالعقد لا بد منه لأن قوله:{حَتَّى تَنْكِحَ} معناه
(1) قال الموفق: من قدر على لفظ النكاح بالعربية لم يصح [عقده] بغيرها، وهذا أحد قولي الشافعي، وعند أبي حنيفة ينعقد
…
إلخ. (انظر: "المغني" 9/ 461). (ش).
(2)
"فتح الباري"(9/ 103).
(3)
سورة البقرة: الآية 230.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
حتى تتزوج أي يعقد عليها، ومفهومه أن ذلك كافٍ بمجرده، لكن بيَّنت السنَّة أن لا عبرة بمفهوم الغاية، بل لا بُدَّ بعد العقد من ذوق العُسيلة، كما أنه لا بد بعد ذلك من التطليق، ثم العدة.
نعم أفاد أبو الحسن ابن الفارس: أن النكاح لم يرد في القرآن إلَّا للتزويج إلَّا في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (1)، فالمراد به: الحلم، والله أعلم.
وفي وجهٍ للشافعية - كقول الحنابلة- أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وقيل: مقولٌ بالاشتراك على كل منهما، وبه جزم الزجاجي، وهذا الذي يترجح في نظري، وإن كان أكثر ما يستعمل في العقد، ورجح بعضهم الأول بأن أسماء الجماع كلها كناياتٌ لاستقباح ذكره، فيبعد أن يستعير من لا يقصد فحشًا اسم ما يستفظعه لما لا يستفظعه (2)، فدل على أنه في الأصل للعقد، وهذا يتوقف على تسليم المدعي أنها كلها كنايات، وقد جمع اسم النكاح ابن القطاع فزادت على الألف.
قال في "البدائع"(3): لا خلاف أن النكاح فرضٌ حالةَ التَّوَقان (4) حتى إن من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم، واختلف فيما إذا لم تَتُق نفسه إلى النساء، قال نفاة القياس مثل داود بن علي الأصفهاني وغيره من أصحاب الظواهر: إنه فرض عين بمنزلة الصوم والصلاة وغيرهما من فروض الأعيان، حتى إن من تركه مع القدرة على المهر والنفقة والوطء يأثم، وقال الشافعي رحمه الله: إنه مباح كالبيع والشراء.
(1) سورة النساء: الآية 6.
(2)
وفي الأصل: "ما يستفزعه لما لا يستفزعه"، وهو تحريف.
(3)
"بدائع الصنائع"(2/ 482 - 485).
(4)
قال الموفق: هو قول أكثر أهل العلم. (ش).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
واختلف أصحابنا فيه: قال بعضهم: إنه مندوب (1) ومستحب، وإليه ذهب من أصحابنا الكرخي، وقال بعضهم: إنه فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين بمنزلة الجهاد وصلاة الجنازة.
وقال بعضهم: إنه واجب، ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في كيفية الوجوب، قال بعضهم: إنه واجب على سبيل الكفاية كرد السلام، وقال بعضهم: إنه واجب عينًا لكن عملًا لا اعتقادًا على طريق التعيين كصدقة الفطر والأضحية.
احتج أصحاب الظواهر بظواهر النصوص من نحو قوله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (2)، وقوله تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (3)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:"تزوَّجوا"، وقوله صلى الله عليه وسلم:"تناكحوا تكثروا"(4)، أمر الله عز وجل بالنكاح مطلقًا، والمطلق للفرضية والوجوب قطعًا إلا أن يقوم الدليل بخلافه، ولأن الامتناع من الزنا واجب، ولا يتوصل إليه إلَّا بالنكاح، وما لا يتوصل إلى الواجب إلَّا به يكون واجبًا.
واحتجَّ الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (5)، أخبر عن إحلال النكاح، والمحلل، والمباح من الأسماء المترادفة، ولأنه قال:{وَأُحِلَّ لَكُمْ} ، ولفظ "لكم" يستعمل في المباحات، ولأن النكاح سبب يتوصل به إلى قضاء الشهوة فيكون مباحًا كشراء الجارية للتسري بها، وهذا لأن قضاء الشهوة إيصال النفع إلى نفسه، وليس يجب على الإنسان
(1) وبه قال أحمد كما في "المغني"(9/ 341). (ش).
(2)
سورة النساء: الآية 3.
(3)
سورة النور: الآية 32.
(4)
أخرجه أحمد في "مسنده"(3/ 158، 245)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 81، 82)، وابن حبان في "صحيحه"(4028).
(5)
سورة النساء: الآية 24.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
إيصال النفع إلى نفسه، بل هو مباح في الأصل كالأكل والشرب، وإذا كان مباحًا لا يكون واجبًا لما بينهما من التنافي، والدليل على عدم وجوبه قوله تعالى:{وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (1)، وهذا خرج مخرج المدح ليحيى- عليه السلام بكونه حصورًا، ولو كان واجبًا لما استحق المدح بتركه؛ لأن ترك الواجب لأن يذم عليه أولى من أن يمدح.
واحتج من قال من أصحابنا بأنه مندوب إليه ومستحب بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فليصم، فإن الصوم له وجاء"(2)، أقام الصوم مقام النكاح، والصوم ليس بواجب، فدل أن النكاح ليس بواجب أيضًا، لأن غير الواجب لا يقوم مقام الواجب، ولأن في الصحابة رضي الله عنهم من لم تكن له زوجة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم علم منه بذلك، ولم ينكر عليه، فدل أنه ليس بواجب.
ومن قال منهم: إنه فرض أو واجب على الكفاية، احتجَّ بالأوامر الواردة في باب النكاح، والأمر المطلق للفرضية والوجوب قطعًا، والنكاح لا يحتمل ذلك على طريق التعيين، لأن كل واحد من آحاد الناس لو تركه لا يأثم، فيحمل على الفرضية والوجوب على طريق الكفاية، فأشبه الجهاد وصلاة الجنازة ورد السلام.
ومن قال منهم: إنه واجب عينًا لكن عملًا لا اعتقادًا على طريق التعيين يقول: صيغة الأمر المطلقة عن القرينة تحتمل الفرضية وتحتمل الندب، لأن الأمر دعاء وطلب. [ومعنى الدعاء] والطلب موجود في كل واحد منهما
(1) سورة آل عمران: الآية 39.
(2)
أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400)، وأبو داود (2046)، والترمذي (1081)، والنسائي (2239)، وابن ماجه (1845).