الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالسَّبُعُ الْعَادِي". [ن 838، جه 3089، حم 3/ 3، ق 5/ 210]
(39) بَابُ لَحْمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِم
===
(ويرمي الغراب ولا يقتله (قال الحافظ في "التلخيص" (1): قوله: روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يقتل المحرم السبعَ العادي". أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي سعيد، وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف، وإن حسنه الترمذي، وفيه لفظة منكرة وهي قوله:"ويرمي الغراب ولا يقتله".
قال النووي في "شرح المهذب"(2): إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتله كتأكدِه في الحية وغيرها، انتهى.
قلت: إن صح فيشبه (3) أن يكون محمولًا على غراب الزرع للجمع بين الروايات. (والكلب العقور، والحدأة، والسبع العادي) أي يعدو على الناس ويصول، والمراد منه المبتدئ بالأذى.
(39)
(بابُ لَحْمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ)(4)
هل يجوز أكله أم لا؟
(1)"التلخيص الحبير"(2/ 580)، رقم (1090).
(2)
(7/ 283).
(3)
وبه جمع الحافظان ابن حجر والعيني. ["فتح الباري" (4/ 38)، و"عمدة القاري" (7/ 501)]. (ش).
(4)
قال العيني (7/ 485): اختلفوا فيه على مذاهب، الأول: المنع مطلقًا، وروي هذا عن بعض السلف، والثاني: المنع إن صاده أو صيد لأجله، وهو مذهب مالك والشافعي، والثالث: إن كان باصطياده بإذنه أو بدلالته حرم، وإليه ذهب أبو حنيفة، وعزا الترمذي القول الثاني إلى أحمد وإسحاق، وحكي عن الشافعي وأحمد موافقة الحنفية، كذا في "الأوجز"(7/ 56، 57). (ش).
1849 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَ الْحَارِثُ خَلِيفَةَ عُثْمَانَ رضي الله عنه عَلَى الطَّائِفِ - فَصَنَعَ
===
1849 -
(حدثنا محمد بن كثير، أنا سليمان بن كثير، عن حميد الطويل، عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث) بن نوفل، قال العجلي: مدني تابعي ثقة، وذكره محمد بن سعد في الطبقة الثالثة من أهل المدينة. قلت: وذكره ابن حبان في ثقات أتباع التابعين، ومقتضاه عنده أن روايته عن الصحابة مرسلة.
(عن أبيه) عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، أبو محمد المدني، وكان يُلقَّبُ ببَبَّة بموحدتين مفتوحتين ثانيتهما مشددة، وُلدَ على النبي صلى الله عليه وسلم، فحنَّكه النبي صلى الله عليه وسلم، وتحوَّل إلى البصرة، واصطلح عليه أهل البصرة حين مات يزيد بن معاوية، قال ابن عبد البر: أجمعوا على توثيقه، وكان على مكة زمن عثمان.
(وكان الحارثُ خليفةَ عثمان رضي الله عنه على الطائف) قال الحافظ في "الإصابة"(1): قال ابن سعد (2): صحب الحارث بن نوفل النبي صلى الله عليه وسلم على بعض عمله بمكة، وأقرَّه أبو بكر وعمر وعثمان، ثم انتقل إلى البصرة، واختط بها دارًا، ومات بها في آخر خلافة عثمان رضي الله عنه.
(فصنع) يحتمل أن يكون مرجع الضمير الحارث بن نوفل، ويحتمل أن يرجع إلى ابنه عبد الله بن الحارث الراوي للحديث؛ فإنه كان أميرًا بمكة زمنَ عثمان، كما ذكره ابن سعد في "الطبقات"(3).
(1)"الإصابة"(1/ 292)، رقم (1500).
(2)
انظر: "الطبقات الكبرى"(4/ 56، 57).
(3)
انظر: "الطبقات الكبرى"(5/ 25).
لِعُثْمَانَ طَعَامًا (1) فِيهِ مِنَ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ وَلَحْمِ الْوَحْشِ (2) ، فَبَعَثَ إِلَى عَلِىٍّ رضي الله عنه فَجَاءَهُ الرَّسُولُ وَهُوَ يَخْبِطُ لأَبَاعِرَ لَهُ، فَجَاءَ وَهُوَ يَنْفُضُ الْخَبَطَ عَنْ يَدِهِ، فَقَالُوا لَهُ: كُلْ، فَقَالَ: أَطْعِمُوهُ قَوْمًا حَلَالًا فَإِنَّا حُرُمٌ.
فَقَالَ (3) عَلِىٌّ - رضى الله عنه -: أَنْشُدُ اللَّهَ مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ أَشْجَعَ، أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى إِلَيْهِ رَجُلٌ حِمَارَ وَحْشٍ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ". [حم 1/ 101]
===
(لعثمان طعامًا) ضيافة (فيه) أي في الطعام (من الحَجَل) وهو طائر معروف (واليعاقيب) جمع يعقوب، وهو ذّكَر الحجل، يقال له بالفارسية: كبك، وفي الهندية: جكور (ولحم الوحش، فبعث) عثمان (إلى علي رضي الله عنه) يدعوه على الطعام (فجاءه) أي عليًا رضي الله عنه (الرسولُ وهو) أي علي (يخبط) الخبط: ضربُ الشجرة بالعصا ليتناثر ورقُها لعلف الإبل، والخبط بفتحتين: الورق الساقط بمعنى المخبوط (لأباعر) جمع بعير (4)(له، فجاء) أي حضر الضيافة (وهو ينفض الخبطَ) أي يزيله ويدفعه (عن يده، فقالوا) أي عثمان ومن معه (له: كُلْ، فقال) علي رضي الله عنه: (أَطْعِمُوه) أي هذا الطعام (قومًا حلالًا؛ فإنَّا حُرُم) فلا يحل لنا أكله.
(فقال علي رضي الله عنه: أنشد الله من كان ها هنا من أشجع)، ولعله كان رضي الله عنه علم قبل ذلك أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سمعه (أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل) ولعله صعب بن جثامة (حمارَ وحشٍ وهو محرم، فأبى أن يأكله؟ قالوا) أي أشجع: (نعم).
(1) زاد في نسخة: "وصنع".
(2)
زاد في نسخة: "قال".
(3)
في نسخة: "ثم قال".
(4)
الأباعرة جمع أبعرة، وهو جمع بعير، فالأباعر جمع الجمع، انتهى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قال الحافظ (1): واستدل بهذا الحديث على تحريم الأكل من لحم الصيد على المحرم مطلقًا؛ لأنه اقتصر في التعليل على كونه محرمًا، فدل على أنه سبب الامتناع خاصة، وهو قول علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، والليث والثوري وإسحاق لحديث الصعب هذا، ولمِا أخرجه أبو داود وغيره من حديث علي أنه قال لناس من أشجع:"أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى له رجل حمار وحش وهو محرم، فأبى أن يأكله؟ قالوا: نعم".
لكن يعارض هذا الظاهرَ ما أخرجه مسلم أيضًا من حديث طلحة: "أنه أهدي له لحم طير وهو محرم فوقف من أكله، وقال: أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وحديث أبي قتادة المذكور في الباب قبله، وحديثُ عمير بن سلمة "أن البهزي أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم ظبيًا وهو محرم، فأمر أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق"، أخرجه مالك وأصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة وغيره.
وبالجواز مطلقًا قال الكوفيون وطائفة من السلف، وجمع الجمهور بين ما اختُلِف من ذلك بأن أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم.
وجاء عن مالك تفصيل آخر بين ما صيد للمحرم قبل إحرامه يجوز له الأكل منه أو بعد إحرامه فلا، وعن عثمان التفصيل بين ما يصاد لأجله من المحرمين فيمتنع عليه، ولا يمتنع على محرم آخر، انتهى ملخصًا.
قلت: وأما عندنا فرده صلى الله عليه وسلم حمارَ وحشٍ لأنه كان حيًّا، كما أشار إليه البخاري بعقد الباب "إذا أهدى للمحرم حمارًا وحشيًّا حيًّا لم يقبل"، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه أعان في قتله محرم آخر من الإشارة والدلالة، وروى يحيى بن
(1)"فتح الباري"(4/ 33، 34).
1850 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:"يَا زَيْدُ بْنَ أَرْقَمَ هَلْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُهْدِىَ إِلَيْهِ عُضْوُ (1) صَيْدٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ، وَقَالَ: «إِنَّا حُرُمٌ»؟ قَالَ: نَعَمْ". [م 1195، ن 2821، حم 4/ 369]
1851 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ - يَعْنِى الإِسْكَنْدَرَانِىَّ (2) -، عَنْ عَمْرٍو،
===
سعيد، عن جعفر، عن (3) عمرو بن أمية الضمري، عن أبيه، عن الصعب: أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحشي وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم، قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح، فإن كان [محفوظًا] فكأنه ردَّ الحيَّ، وقَبِلَ اللحم (4).
1850 -
(حدثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد، عن قيس) بن سعد، أبي عبد الملك، (عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم! هل علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدي إليه عُضْو صيدٍ فلم يقبله، وقال: إنَّا حُرُم؟ قال: نعم)، هذا الحديث بظاهره يخالف الحنفية والشافعية، فتأويله عند الحنفية أنه صلى الله عليه وسلم ردَّه لعلمه بأنه صيد لإعانة المحرم أو دلالته، وأما عند الشافعية فهم يقولون: لأنه صيد لأجله، أو بإعانة المحرم عليه.
1851 -
(حدثنا قتيبة بن سعيد، نا يعقوب) بن عبد الرحمن (يعني الإسكندراني، عن عمرو) بن أبي عمرو، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب
(1) في نسخة: "عضد".
(2)
زاد في نسخة: "القارئ".
(3)
كذا في الأصل، وفي "السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 193) هكذا: يحيى بن سعيد، عن جعفر بن عمرو، عن أبيه - عمرو بن أمية - أن الصعب بن جثامة
…
إلخ، فالراوي له عن الصعب عمرو بن أمية، لا أمية الضمري.
(4)
انظر: "فتح الباري"(4/ 32).
عَنِ الْمُطَّلِبِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَادُ لَكُمْ» . [ت 846، ن 2827، حم 3/ 362، خزيمة 2641، قط 2/ 290، ك 1/ 452، ق 5/ 190]
===
(عن) مولاه (المطلب، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صيد البر لكم حلال ما لم تَصيدوه أو يصاد لكم).
كذا في النسخة المكتوبة والنسخ المطبوعة الهندية، وفي المصرية:"أو يُصَدْ لكم"، ففي أكثر نسخ أبي داود بالألف إلا في المصرية، وكذا بالألف في رواية النسائي، والحاكم، والذهبي في "تلخيصه"، والدارقطني، والطحاوي (1)، وفي الترمذي خاصة:"أو يصد لكم"، بغير ألف مجزوم، فالأكثر:"أو يصاد لكم".
وهذا يؤيد الحنفية، فلفظة "أو" الواقعة ها هنا بمعنى "إلَّا أن" استثناء من المفهوم المتقدم، فإن قوله:"ما لم تصيدوه" بمعنى الاستثناء، فكأنه قال: لحم الصيد لكم في الإحرام حلال إلَّا أن تصيدوه، إلَّا أن يصاد لكم، فيكون الاستثناء الثاني من مفهوم الاستثناء الأول، ثم قال الشافعي رضي الله عنه: هذا أحسن حديث روي في هذا الباب.
وقال الشوكاني (2): عمرو مختلف فيه مع كونه من رجال الصحيحين، ومولاه قال الترمذي: لا يُعرَف له سماع من جابر، وقال في موضع آخر: قال محمد: لا أعرف له سماعًا من أحد من الصحابة إلَّا قوله: حدثني من شهد خطبةَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه الشافعي عن عمرو، عن رجل من الأنصار، عن جابر. ورواه الطبراني عن عمرو، عن المطلب، عن أبي موسى، وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي، وهو متروك. ورواه الخطيب عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وفي إسناده عثمان بن خالد المخزومي، وهو ضعيف جدًا.
(1) انظر: "شرح معاني الآثار"(2/ 171).
(2)
"نيل الأوطار"(3/ 369).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وهذا الحديث صريح في التفرقة بين أن يصيده المحرم أو يصيده غيره له، وبين أن لا يصيده المحرم ولا يصاد له، بل يصيده الحلال لنفسه ويطعمه المحرم، فمقيِّد لبقية الأحاديث المطلقة، كحديث الصعب وطلحة وأبي قتادة، ومخصِّص لعموم الآية المتقدمة، انتهى.
قلت: والعجب من الشوكاني مع أنه يعترف بأن طرقه كلها ضعيفة ومضطربة، كيف يحتج به على حجيته لتقييد بقية الأحاديث المطلقة، وعلى تخصيص عموم الآية المتقدمة؟ ومع أنه ذَكَرَ قبل ذلك في حديث أبي قتادة أنه يقول:"إني ذكرت شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكرت أني لم أكن أحرمتُ، وأني إنما اصطدتُه لك" الحديث.
ثم نقل عن "المنتقى" بأنه رواه أحمد وابن ماجه بإسناد جيد، كيف يرد الحديثَ جيدَ السند بتقليد بعض أهل الحديث، ويقبل الحديث الضعيف الذي لا يقبل مثله؟
وأما قول صاحب "المنتقى" بعد ذكر الحديث: قال أبو بكر النيسابوري: قوله: "أني اصطدته لك" و"أنه لم يأكل منه" لا أعلم أحدًا قاله في هذا الحديث غير معمر (1).
قلت: ومعمر ثقة، فزيادته صحيحة.
وقال الشوكاني في شرح هذا الحديث: أخرجه أيضًا الدارقطني والبيهقي وابن خزيمة، وقد قال بمثل مقالته (2) النيسابوري التي ذكرها المصنف: ابنُ خزيمة والدارقطني والجوزقي.
قال ابن خزيمة: إن كانت هذه الزيادة محفوظة احتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أكل من لحم ذلك الحمار قبل أن يُعلِمَه أبو قتادة أنه اصطاده من أجله،
(1) انظر لكل ذلك: "نيل الأوطار" رقم (1916).
(2)
كذا في الأصل، والصواب: بمثل مقالة النيسابوري
…
إلخ، كما في "النيل"(3/ 368).
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: إِذَا تَنَازَعَ الْخَبَرَانِ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يُنْظَرُ بِمَا أَخَذَ بِهِ أَصْحَابُهُ.
===
فلما علم امتنع، وفيه نظر؛ لأنه لو كان حرامًا عليه صلى الله عليه وسلم ما أقرَّه تعالى على الأكل منه حتى يُعلِمَه أبو قتادة بأنه صاده لأجله.
ثم قال الشوكاني: وقال البيهقي هذه الزيادة غريبة، يعني قوله:"أني اصطدته لك"، قال: والذي في "الصحيحين": "أنه أكل منه".
قلت: الحديث فيه زيادتان، أولهما: قوله: "أني إنما اصطدته لك"، والثاني:"ولم يأكل منه حين أخبرته أني اصطدته له"، أما الزيادة الأولى فهو زيادة ثقةٍ ليست بمخالفة لما في الصحاح من الروايات فهي مقبولة، وأما الزيادة الثانية فهي مخالفة لما في الروايات الصحيحة فَتُرَدُّ؛ لأنها شاذة، فالظاهر أن التي حكموا بشذوذها هي الزيادة الثانية لا الأولى، وإن كان حكمهم بالشذوذ على الزيادتين فهو على خلاف قواعدهم لنصرة المذهب لا يُقبَل منهم، وقد قال الشوكاني: قال ابن حزم: لا يشك أحد بأن أبا قتادة لم يصد الحمار إلا لنفسه ولأصحابه وهم محرمون، فلم يمنعهم النبي صلى الله عليه وسلم من أكله، وكأنه يقول بأنه يحل صيد الحلال للمحرم مطلقًا.
(قال أبو داود: إذا تنازع الخبران عن النبي صلى الله عليه وسلم يُنْظَر بما أخذ به أصحابُه)، حاصله أن الأحاديث مختلفة في قبول الصيد وردِّه، فيجمع المصنف بينهما باعتبار العمل أنه يُنْظَر، فيؤخَذ بما أخذ به أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا لا يُجْدي نفعًا، فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا فيه أيضًا.
قال في "البدائع"(1): يحل للمحرم أكل صيد اصطاده الحلال لنفسه عند عامة العلماء، وقال داود بن علي الأصبهاني: لا يحل، والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم، روي عن طلحة بن عبيد الله وقتادة وجابر وعثمان في رواية: أنه يحل، وعن علي وابن عباس وعثمان في رواية: أنه لا يحل.
(1)"بدائع الصنائع"(2/ 442، 443).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
واحتج هؤلاء بقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (1)، أخبر أن صيد البر محرم على المحرم مطلقًا، من غير فصل بين أن يكون صيد المحرم أو الحلال، وهكذا قال ابن عباس أن الآية مبهمة لا يحل لك أن تصيده ولا أن تأكله.
ولنا (2) ما روي عن أبي قتادة رضي الله عنه: "أنه كان حلالًا وأصحابه محرمون، فَشَدَّ على حمار وحشٍ" الحديث، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم"، وهذا نص في الباب.
ولا حجة لهم في الآية؛ لأن فيها تحريم صيد البر، لا تحريم لحم الصيد، وهذا لحم الصيد وليس بصيد لانعدام معنى الصيد، وهو الامتناع والتوحش.
وأما حديث الصعب بن جثامة، فقد اختلفت الروايات فيه عن ابن عباس رضي الله عنهما، روي في بعضها أنه أهدى إليه حمارًا وحشيًا، كذا روى مالك وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس، فلا يكون حجة.
وحديث زيد بن أرقم محمول على صيد صاده المحرمُ بنفسه، أو غيرُه بأمرِه، أو بإعانتِه، أو بإشارَته، أو بدلالَتِه عملًا بالدلائل كلها، وسواء صاده الحلال لنفسه أو للمحرم بعد أن لا يكون بأمره عندنا.
وقال الشافعي: إذا صاده له لا يحل له أكله، واحتج بما روي عن جابر،
(1) سورة المائدة، الآية:96.
(2)
قلت: هذا بمقابلة من حرم لحم الصيد مطلقًا، وأما بمقابلة الشافعي فيمكن الاستدلال عندي أن قوله تعالى:{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1]، نص في أن ما عدا محلي الصيد حلال، فالذي لا يكون فيه للمحرم دخل من الدلالة والإشارة لا يدخل في محلي الصيد، فتأمل، فإنه سنح في خاطري الكاسد. (ش).
1852 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِى النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِىِّ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ، عَنْ أَبِى قَتَادَةَ: "أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
===
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم" ولا حجة له فيه؛ لأنه لا يصير مصيدًا له إلَّا بأمره، وبه نقول، والله أعلم، انتهى.
قلت: وهذا أحد الجوابين عن الحديث بعد تسليم صحته، وأما الجواب الثاني فهو ما أجاب به صاحب "الهداية" (1) بقوله: واللام فيما روي لام تمليك، فيحمل على أن يهدى إليه الصيد دون اللحم.
1852 -
(حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي، عن نافع) بن عباس بموحدة ومهملة، أو ابن عياش بتحتانية ومعجمة، أبو محمد الأقرع المدني (مولى أبي قتادة الأنصاري) ويقال: مولى عقيلة الغفارية، ويقال: إنهما اثنان، وقال ابن حبان في "الثقات": يقال له: نافع مولى أبي قتادة، نُسِبَ إليه ولم يكن مولاه.
قلت: يؤيد قول ابن حبان ما وقع عند أحمد من طريق مغفل بن إبراهيم: سمعت رجلًا يقال له: مولى أبي قتادة، ولم يكن مولاه، يحدث عن أبي قتادة، فذكر حديث الحمار الوحشي، وفي رواية ابن إسحاق: عن عبد الله بن أبي سلمة أن نافعًا الأقرع مولى بني غفار حدثه: أن أبا قتادة حدثه، فذكر هذا الحديث، قال النسائي: ثقة، وقال أحمد بن حنبل: معروف، قال ابن سعد: كان قليل الحديث، قال الحافظ: فيحتمل أنه نُسِبَ إليه لكونه كان زوج مولاته أو للزومه إياه، أو نحو ذلك، كما وقع لمقسم مولى ابن عباس وغيره، والله أعلم.
(عن أبي قتادة: أنه) أي: أبا قتادة (كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في سفر
(1)"الهداية"(1/ 169).
حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ (1) طَرِيقِ مَكَّةَ تَخَلَّفَ مَعَ أَصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِمٍ،
===
عمرة (2) الحديبية، وفي رواية للبخاري (3):"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجًّا (4) فخرجوا معه". قال الحافظ (5): قال الإسماعيلي: هذا غلط؛ فإن القصة كانت في عمرة، ولعل الراوي أراد خرج محرمًا، فعبر عن الإحرام بالحج غلطًا.
قلت: لا غلط في ذلك، بل هو من المجاز السائغ، وأيضًا فالحج في الأصل قصد البيت، فكأنه قال: خرج قاصدًا للعمرة، ولهذا يقال للعمرة: الحج الأصغر، ثم وجدت الحديث من رواية محمد بن أبي بكر المقدمي، عن أبي عوانة بلفظ:"خرج حاجًّا أو معتمرًا" أخرجه البيهقي، فتبين أن الشك فيه من أبي عوانة، وقد جزم يحيى بن كثير بأن ذلك كان في عمرة الحديبية، وهذا هو المعتمد، انتهى.
(حتى إذا كان) أي أبو قتادة، ويحتمل أن يكون المرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم (ببعض (6) طريق مكة تخلَّف) أي أبو قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (مع أصحاب له) أي لأبي قتادة، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم (محرمين وهو) أي أبو قتادة (غير محرم).
وفي رواية البخاري: "فخرجوا معه فصرف طائفة منهم فيهم أبو قتادة
(1) في نسخة: "في بعض".
(2)
وبه جزم الحافظ والعيني وابن القيم، وقال الحافظ: هو أصح من رواية الواقدي: أن ذلك كان في عمرة القضية، كذا في "الأوجز"(7/ 59، 60). (ش).
(3)
"صحيح البخاري"(1824).
(4)
ولعله منشأ توهم الطبري إذ ذكره في حجة الوداع، انتهى. وعدَّه ابن القيم (2/ 165) من أوهامه. [انظر:"الأوجز"(7/ 60)]. (ش).
(5)
"فتح الباري"(4/ 29).
(6)
قال الحافظ: إن الروحاء هو المكان الذي ذهب أبو فتادة وأصحابه منه إلى جهة البحر، ثم التقوا بالقاحة، وبها وقع له الصيد المذكور، وكأنه تأخَّر هو وأصحابه للراحة أو غيرها، وتقدمهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى السقياء حتى لحقوه ("فتح الباري" 4/ 27). (ش).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
فقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حُمُرَ وحشٍ" الحديث.
وسياق حديث البخاري هذا مشكل؛ لأنه يخالف جميع السياقات التي أخرجها البخاري وغيره، فإنه يدل على أن أبا قتادة ومن معه من أصحابه خرجوا معه إلى ساحل البحر، وكلهم لم يحرموا، فلما انصرفوا من ساحل البحر أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم، وجميع السياقات يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه كلهم أحرموا من الميقات إلَّا أبا قتادة فإنه لم يحرم.
وتأوله القسطلاني (1) بأن قوله: "فلما انصرفوا" شرط، ليس جزاؤه قوله:"أحرموا كلهم إلا أبو قتادة"، بل جزاؤه قوله:"فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحشٍ"، وتقدير العبارة: فقال: خذوا ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلما انصرفوا وكانوا قد أحرموا كلهم من الميقات إلَّا أبو قتادة؛ فإنه لم يحرم من ذي الحليفة، فبينما هم يسيرون.
قلت: فعلى هذا لم يبق فيه إشكال، ولم أر من تعرض لدفع هذا الإشكال من الشراح إلَّا القسطلاني، فجزاه الله خيرًا. ولم يحرم هو لأنه إما لم يجاوز الميقات، وإما لم يقصد العمرة، وبهذا يرتفع الإشكال الذي ذكره أبو بكر الأثرم قال: كنت أسمع أصحابنا يتعجبون من هذا الحديث (2) فيقولون: كيف جاز لأبي قتادة أن يجاوز الميقات وهو غير محرم؟ ولا يدرون ما وجهه؟ قال: حتى وجدته في رواية من حديث أبي سعيد، فيها:"وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في وجه" الحديث، قال: فإذا أبو قتادة إنما جاز له ذلك لأنه لم يخرج يريد مكة،
(1) انظر: "إرشاد الساري"(4/ 406).
(2)
وأوَّله ابن قدامة بأنه لعله أخَّر إحرامه إلى الجحفة؛ لأنه لم يمرّ على طريق ذي الحليفة. (ش).
فَرَأَى حِمَارًا وَحْشِيًّا فَاسْتَوَى عَلَى فَرَسِهِ، قَالَ: فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ فَأَبَوْا، فَسَأَلَهُمْ رُمْحَهُ فَأَبَوْا، فَأَخَذَهُ، ثُمَّ شَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَقَتَلَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبَى بَعْضُهُمْ، فَلَمَّا أَدْرَكُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:«إِنَّمَا هِىَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا اللَّهُ تَعَالَى» . [خ 2914، م 1196، ت 847، ن 2816، حم 5/ 301]
===
وهذه الرواية تقتضي أن أبا قتادة لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وليس كذلك.
ثم وجدت في "صحيح ابن حبان" والبزار قال: "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة على الصدقة، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون حتى نزلوا بعسفان"، فهذا سبب آخر، ويحتمل جمعهما.
والذي يظهر أن أبا قتادة إنما أخر الإحرام؛ لأنه لم يتحقق أنه يدخل مكة فساغ له التأخير، وقيل: كانت هذه القصة قبل أن يُوَقِّتَ النبي صلى الله عليه وسلم المواقيتَ.
(فرأى حمارًا وحشيًا) وقع هاهنا بالإفراد، وفي رواية بالجمع (فاستوى على فرسه، قال: فسأل أصحابَه أن يناولوه سوطه) وكان سقط عنه (فأبوا)؛ لأنهم كانوا محرمين وقد علموا قبل ذلك الإعانة على قتل الصيد ممنوع لهم (فسألهم رمحه، فأبوا) لأجل الإحرام، (فأخذه) أي الرمح (ثم شد) أي حمل (على الحمار) وكانت أتانًا، (فقتله) وكفى هذا الجرح عن الذبح، لأنها ذكاة اضطرارية، فيكفي فيه الجرح.
(فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأنهم قالوا: ما اصطدناها، ولا أمَرْنا باصطيادها، ولا دللنا عليه، ولا أشرنا إليه (وأبى بعضهم) فتورَّعوا، أو عملوا بعموم قوله تعالى:{وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} (1) أي: مصيده (فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك) أي عن حل لحم الصيد وحرمته (فقال: إنما هي طُعمة أطعمكموها الله تعالى).
(1) سورة المائدة، الآية:96.