الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ فِي التَّوْكِيلِ إعْذَارٌ وَلَا أَجَلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْهِنْدِيِّ فِي ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ.
تَنْبِيهٌ: وَالْإِعْذَارُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ وَتَمَامِ النَّظَرِ، وَالْإِعْذَارُ فِي شَيْءٍ نَاقِصٍ لَا يُفِيدُ شَيْئًا قَالَهُ ابْنُ سَهْلٍ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ قَامَ عِنْدَ الْقَاضِي وَأَثْبَتَ عِنْدَهُ مَوْتَ زَوْجَتِهِ وَعِدَّةَ وَرَثَتِهَا وَهُمْ زَوْجُهَا الْقَائِمُ عِنْدَ الْقَاضِي وَأُخْتُهَا الْحَاضِرَةُ وَأَخُوهَا الْغَائِبُ بِالْمَشْرِقِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْفُصُولِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ سَمَاعُ الدَّعْوَى بِهَا عَلَى إثْبَاتِ أُمُورٍ.
مَسْأَلَةٌ: إذْ قَالَ الْقَاضِي لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ كُنْت خَاصَمْت عِنْدِي وَأَعْذَرْت إلَيْكَ فَلَمْ تَأْتِ بِحُجَّةٍ، وَحَكَمْت عَلَيْكَ وَأَنْكَرَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ الْخِصَامَ عِنْدَ الْقَاضِي، فَالْحُكْمُ فِيهَا مَذْكُورٌ فِي آخِرِ الرُّكْنِ الثَّانِي فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْخَصْمُ وَتَقْدَحُ فِي الْحُكْمِ.
[فَصْلٌ انْعَقَدَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي مَقَالٌ وَشَهِدَتْ بِهِ شُهُودُ الْمَجْلِسِ]
فَصْلٌ: إذَا انْعَقَدَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي مَقَالٌ بِإِقْرَارٍ أَوْ إنْكَارٍ وَشَهِدَتْ بِهِ شُهُودُ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنْفَذَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ عَلَى قَائِلِهَا وَلَمْ يُعْذِرْ إلَيْهِ فِي شَهَادَةِ شُهُودِهَا لِكَوْنِهَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَعِلْمِهِ بِهَا وَقَطْعِهِ بِحَقِيقَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، قَالَهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ إِسْحَاقُ بْنِ إبْرَاهِيمَ التُّجِيبِيُّ.
وَقَالَهُ ابْنُ الْعَطَّارِ، وَبِهِ جَرَى الْحُكْمُ وَالْعَمَلُ عِنْدَ الْحُكَّامِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْفَخَّارِ لَا بُدَّ مِنْ الْإِعْذَارِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ وَلَا بِمَا يُقَرُّ بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَدْ يَنْكَشِفُ عِنْدَ الْإِعْذَارِ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ غَيْرَ عَدْلَيْنِ أَوْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْأَصْبَغِ بْنُ سَهْلٍ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ الْمُطَّرِدُ الصَّحِيحُ، لَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ وَابْنُ الْعَطَّارِ، وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَأَصْبَغَ فِي كِتَابِ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي عَلَى مَنْ أَقَرَّ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ نَظَرِهِ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْ بَيِّنَةً.
وَقَالَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَبِهِ أَخَذَ سَحْنُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ: لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِعِلْمِهِ وَلَا بِمَا أُقِرَّ بِهِ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ لَا فِي حَدٍّ وَلَا فِي غَيْرِهِ.
تَقْسِيمٌ آخَرُ: الْإِعْذَارُ فِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي تَجْرِي عِنْدَ الْحُكَّامِ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي " مُفِيدِ الْحُكَّامِ " قَالَ: وَالْإِعْذَارُ فِي الْمَقَالَاتِ الَّتِي تَجْرِي عِنْدَ الْحُكَّامِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
الْأَوَّلُ: أَنْ يُوقِفَ الْخَصْمُ خَصْمَهُ عَلَى مَا يَطْلُبُهُ فَيُجَاوِبَهُ بِجَوَابٍ مَحْضٍ كَامِلٍ، فَيَأْمُرَ الْحَاكِمُ بِعَقْدِهِ وَبِقِرَاءَتِهِ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ، ثُمَّ يُشْهِدَ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ الْعُدُولَ، فَإِذَا شَهِدُوا فِيهَا أَدَّوْا شَهَادَتَهُمْ بِهَا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْمُقَرَّ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَطَلَبَ أَنْ يُعْذِرَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُ الْحَاكِمُ إلَى ذَلِكَ لِمَعْرِفَتِهِ بِصِحَّةِ مَا شَهِدُوا بِهِ عِنْدَهُ قَالَهُ ابْنُ زَرْبٍ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ بَطَّالٍ فِي أَحْكَامِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُجَاوِبَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ بِجَوَابٍ كَامِلٍ مَحْضٍ فَتَنْعَقِدَ مَقَالَتُهُ وَيَكْتُبَ الشُّهُودُ عَلَى ذَلِكَ أَسْمَاءَهُمْ، ثُمًّ يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بَعْدَ أَيَّامٍ مِنْ تَارِيخِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، فَلِلْمُقِرِّ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ إذَا أَنْكَرَهَا أَنْ يُعْذِرَ إلَيْهِ فِيمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يَشْهَدَ شُهُودٌ أَنَّهُمْ سَمِعُوا فُلَانًا يُقِرُّ بِكَذَا وَكَذَا عِنْدَ الْحَاكِمِ دُونَ أَنْ يَعْقِدُوا مَقَالَتَهُ، فَلْيَأْمُرْ الْحَاكِمُ بِعَقْدِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ وَيَكْتُبُوا شَهَادَتَهُمْ عَلَى مَا سَمِعُوا وَيَشْهَدُوا بِهَا عِنْدَهُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَعْذَرَ فِي ذَلِكَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ - انْتَهَى.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَرَأَيْت فِي غَيْرِ كِتَابِ ابْنِ الْعَطَّارِ أَنَّ شُهُودَ الْمَجْلِسِ إذَا كَتَبُوا شَهَادَتَهُمْ عَلَى مَقَالِ مُقِرٍّ أَوْ مُنْكِرٍ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَلَمْ يَشْهَدُوا بِهَا عِنْدَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ثُمَّ أَدَّوْا الشَّهَادَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَهُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يُعْذِرُ فِي شَهَادَتِهِمْ إلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِهِمْ إذَا أَدَّوْهَا فِي الْمَجْلِسِ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْمَقَالُ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفِظُوهَا وَإِنْ لَمْ يَكْتُبُوهَا ثُمَّ أَدَّوْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إذَا طُلِبُوا بِهَا وَكَانُوا عُدُولًا، فَإِنَّهُ لَا يُعْذِرُ فِيهَا إلَى مَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِهَا.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو إبْرَاهِيمَ: وَلَا يُعْذِرُ الْقَاضِي فِيمَنْ أَعْذَرَ بِهِ إلَى مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ مَرِيضٍ لَا يَخْرُجَانِ.
مَسْأَلَةٌ: وَلَا يُعْذِرُ فِي الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ يُوَجِّهُهُمَا لِحُضُورِ حِيَازَةِ الشُّهُودِ لِمَا شَهِدُوا فِيهِ مِنْ دَارٍ أَوْ عَقَارٍ.
وَقَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَسَأَلْت ابْنَ عَتَّابٍ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَا إعْذَارَ، وَأَمَّا الْمُوَجَّهَانِ لِلْحِيَازَةِ فَيُعْذِرُ فِيهِمَا، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ الشَّاهِدَانِ الْمُوَجَّهَانِ لِحُضُورِ الْيَمِينِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَتِهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا إعْذَارَ فِيهِمَا فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ أَقَامَهُمَا مَقَامَ نَفْسِهِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ الْإِعْذَارِ فِيهِمَا.
مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ الشُّهُودُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ تَطْلِيقَ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا وَأَخْذَهَا بِشُرُوطِهَا فِي الطَّلَاقِ فِي مَسَائِلِ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا إعْذَارَ فِيهِمْ.
تَتْمِيمٌ: لِبَيَانِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَسْقُطُ فِيهَا الْإِعْذَارُ وَكُلُّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِحَقٍّ عَنْ مُعَامَلَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، أَوْ دَعْوَى بِفَسَادٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ تَعَدٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعْذَارِ إلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ أَوْ الزَّنَادِقَةِ الْمَشْهُورِينَ بِمَا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ فَلَا يَعْذِرُ إلَيْهِمْ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ وَقَعَ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ أَحْكَامِ ابْنِ سَهْلٍ فِي مَسْأَلَةِ أَبِي الْخَيْرِ الزِّنْدِيقِ لَمَّا شُهِدَ عَلَيْهِ بِمَا يَتَعَاطَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُصَرِّحِ بِالْكُفْرِ وَالِانْسِلَاخِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَاهِدًا، وَكَانَ الْقَاضِي يَوْمَئِذٍ مُنْذِرَ بْنَ سَعِيدٍ قَاضِيَ الْجَمَاعَةِ فَأَشَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنْ يَعْذِرَ إلَيْهِ فِيمَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ قَاضِي الْجَمَاعَةِ وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التُّجِيبِيُّ وَصَاحِبُ الصَّلَاةِ أَحْمَدُ بْنُ مُطَرِّفٍ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِغَيْرِ إعْذَارٍ؛ لِأَنَّهُ مُلْحِدٌ كَافِرٌ، وَقَدْ وَجَبَ قَتْلُهُ بِدُونِ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ، فَقُتِلَ بِغَيْرِ إعْذَارٍ، فَقِيلَ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَشْرَحَ لَهُمْ أَصْلَ الْفُتْيَا فِي قَتْلِهِ بِغَيْرِ إعْذَارٍ، فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِ الَّذِي اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله فِي قَطْعِ الْإِعْذَارِ عَمَّنْ اسْتَفَاضَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَاتُ فِي الظُّلْمِ.
وَعَلَى مَذْهَبِهِ فِي السَّلَّابَةِ وَالْمُغِيرِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ الْمَسْلُوبُونَ وَالْمُنْتَهَبُونَ بِأَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَفِي قَبُولِهَا عَلَيْهِمْ سَفْكُ دِمَائِهِمْ.
وَفِي الرَّجُلِ يَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ وَجُرْحُهُ يُدْمِي فَيُصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَفِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالرَّجُلِ فِي الْمَكَانِ الْخَالِي وَقَدْ فَضَحَتْ نَفْسَهَا بِإِصَابَتِهِ لَهَا فَتُصَدَّقُ بِفَضِيحَةِ نَفْسِهَا.
وَفِي الَّذِي وَجَدَهُ مَالِكٌ رحمه الله عِنْدَ أَحَدِ الْحُكَّامِ وَهُوَ يَضْرِبُ بِدَعْوَى صَبِيٍّ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ وَهُوَ يُدْمِي فَضَرَبَهُ الْحَاكِمُ فِيمَا ادَّعَاهُ عَلَيْهِ مِنْ إصَابَتِهِ لَهُ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ وَمَالِكٌ جَالِسٌ عِنْدَهُ حَتَّى ضَرَبَ ثَلَثَمِائَةِ سَوْطٍ وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدُّمٍ لَهُ مِنْ الضَّرْبِ قَبْلَ وُصُولِ مَالِكٍ رحمه الله وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ انْتَهَى بِهِ الضَّرْبُ إلَى سِتِّمِائَةِ سَوْطٍ، وَفِي أَهْلِ حِصْنٍ مِنْ الْعَدُوِّ يَأْتُونَ مُسْلِمِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً حَوَامِلَ وَغَيْرَ حَوَامِلَ فَيُصَدَّقُونَ فِي أَنْسَابِهِمْ وَيَتَوَارَثُونَ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً لَهُمْ عَدَدٌ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالْعِشْرُونَ عِنْدِي جَمَاعَةٌ فَأَيْنَ الْإِعْذَارُ فِي هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَإِذَا كَانَ مَالِكٌ يَرَى فِي أَهْلِ الظُّلْمِ لِلنَّاسِ وَالسَّلَّابِينَ وَالْمُحَارِبِينَ وَنَحْوِهِمْ أَنْ يُقْطَعَ عَنْهُمْ الْإِعْذَارُ فَالظَّالِمُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَحَقُّ بِأَنْ يُقْطَعَ عَنْهُ الْإِعْذَارُ فِيمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي مُتَقَرِّبٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِسْقَاطِ التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِ فِي طَلَبِ الْمَخَارِجِ لَهُ بِالْإِعْذَارِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ أُمُّ الْقَضَايَا وَلَا إعْذَارَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَإِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنهم، وَهُمَا أَيْضًا مَلَاذُ الْحُكَّامِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا إعْذَارَ فِيهِمَا وَلَا إقَالَةَ مِنْ حُجَّةٍ وَلَا مِنْ كَلِمَةٍ، غَيْرَ أَنَّ الْإِعْذَارَ فِيمَا يَتَحَاكَمُ النَّاسُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِ الدِّيَانَاتِ اسْتِحْسَانٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا، وَأَنَا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِيهِ وَالْأَخْذِ بِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مُسْتَحْكِمَةٍ فِيمَا أَوْجَبُوا الْإِعْذَارَ فِيهِ مِنْ الْحُقُوقِ، وَأَلْتَزِمُ التَّسْلِيمَ لِمَا اسْتَحْسَنُوهُ، إذْ هُمْ الْقُدْوَةُ وَالْهُدَاةُ.
فَأَمَّا فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ فِي الْإِلْحَادِ وَالزَّنْدَقَةِ وَتَكْذِيبِ الْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام فَلَمْ أَسْمَعْ بِهِ، وَلَمْ أَرَهُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ وَصَلَ إلَيْنَا عِلْمُهُ وَمِمَّا لَا إعْذَارَ فِيهِ شَهَادَاتُ مَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ وَيَشْهَدُ عِنْدَهُ بِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَمِنْهَا شَهَادَاتُ مَنْ يُعْذِرُ لَهُمْ الْحَاكِمُ إلَى مَنْ تَحْجُبُهُ الْأَحْوَالُ الْمَانِعَةُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِمْ لِلشُّهُودِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَهَؤُلَاءِ لَا إعْذَارَ فِيهِمْ.
وَمِنْهَا شَهَادَاتُ مَنْ يُوَجِّهُهُمْ الْحَاكِمُ إلَى امْتِحَانِ مَا لَا غِنَى بِهِمْ عَنْ امْتِحَانِهِ مِمَّنْ يَثِقُونَ بِهِ كَالْعَبْدِ فِيهِ الْعَيْبُ، فَيَبْعَثُ بِهِ الْحَاكِمُ إلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ وَالنَّظَرِ يَشْهَدُونَ عِنْدَهُ بِهِ فَلَيْسَ فِيهِمْ إعْذَارٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُسْأَلُوا الشَّهَادَةَ، وَإِنَّمَا الْقَاضِي اسْتَخْبَرَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ، وَالْإِعْذَارُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الظُّنُونِ وَالتُّهْمَةِ لِلشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ الْإِعْذَارُ فِي الْمُوَجَّهِينَ إلَى حِيَازَةِ مَا شُهِدَ بِهِ عِنْدَهُمْ مِمَّا لَا بُدَّ أَنْ يُحَازُوا إلَى تَنْفِيذِ مَا لَا يُمْكِنُهُمْ إنْفَاذُهُ فِي مَجَالِسِهِمْ لِأَسْبَابٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا فَلَا إعْذَارَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الشَّهَادَاتِ، وَرُبَّمَا اُكْتُفِيَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ، فَهَلْ هَذِهِ كُلُّهَا إلَّا شَهَادَاتٌ، وَهَلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا فَرْقٌ فِي شَيْءٍ.
وَمِنْهَا اسْتِفَاضَةُ الشَّهَادَاتِ الْمَشْهُودِ بِهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ فِي الْأَسْبَابِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، وَفِي الْمَوْتِ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، وَفِي النِّكَاحَاتِ الْقَدِيمَةِ وَالْحَدِيثَةِ، وَفِي الْوَلَاءِ الْقَدِيمِ، وَفِي الْأَحْبَاسِ الْقَدِيمَةِ وَفِي الضَّرَرِ يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي أَشْيَاءَ غَيْرِ هَذَا يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ بَابٌ مُسْتَوْعَبٌ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ: قَوْلُهُ وَالضَّرَرِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْإِعْذَارُ فِي الشَّهَادَةِ بِالضَّرَرِ وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ الْإِعْذَارُ فِي حُكْمِ الْحَكَمَيْنِ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لِأَنَّهُمَا يَحْكُمَانِ فِي ذَلِكَ بِمَا خَلَصَ إلَيْهِمَا بَعْدَ النَّظَرِ وَالْكَشْفِ وَلَيْسَ حُكْمُهُمَا بِالشَّهَادَةِ الْقَاطِعَةِ، قَالَ أَبُو إبْرَاهِيمَ فَإِلَى هَذِهِ الْأُمُورِ نَزَعْت فِي تَرْكِ الْإِعْذَارِ إلَى هَذَا الْمُلْحِدِ، قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: لَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو إبْرَاهِيمَ رحمه الله فِي هَذَا التَّبْيِينِ وَالنُّصْحِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي فُصُولٍ مِنْ كَلَامِهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْأُصُولِ وَفِي بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ.
وَالْحَقُّ الْبَيِّنُ: أَنَّ مَنْ تَظَاهَرَتْ الشَّهَادَاتُ عَلَيْهِ فِي إلْحَادٍ أَوْ غَيْرِهِ هَذَا التَّظَاهُرَ وَكَثُرَتْ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْكَثْرَةَ فَالْإِعْذَارُ إلَيْهِ مَعْدُومُ الْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَجْرِيحَ جَمِيعِهِمْ، وَلَا يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِمَا يُسْقِطُ بِهِ شَهَادَتَهُمْ وَمَنْ قَالَ بِالْإِعْذَارِ قَالَ أَصْلُهُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فِي لُزُومِ الْإِعْذَارِ فِي الْأَمْوَالِ، وَمَنْ اجْتَهَدَ أَصَابَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.