الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ: قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ الَّذِي يُفْتِي فِي هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِمْ فِي نَقْلِ الْمَذْهَبِ، أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَبْحَرَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى رِوَايَاتِ الْمَذْهَبِ، وَتَأْوِيلِ الْأَشْيَاخِ لَهَا وَتَوْجِيهِهِمْ بِمَا وَقَعَ فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ ظَوَاهِرَ، وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبَ وَتَشْبِيهِهِمْ مَسَائِلَ بِمَسَائِلَ قَدْ يَسْبِقُ إلَى النَّفْسِ تَبَاعُدُهَا وَتَفْرِيقُهُمْ بَيْنَ مَسَائِلَ وَمَسَائِلَ قَدْ يَقَعُ فِي النَّفْسِ تَقَارُبُهَا وَتَشَابُهُهَا، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا بَسَطَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي كُتُبِهِمْ، وَأَشَارَ إلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ رِوَايَاتِهِمْ، فَهَذَا لِعَدَمِ النُّظَّارِ يَقْتَصِرُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ الْمَذَاهِبِ.
وَسُئِلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ أَيْضًا عَنْ الْمُفْتِي يُخْبِرُ الْمُسْتَفْتِي بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَأَجَابَ: مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُسْتَفْتِيَ إذَا اسْتَفْتَى الْمُفْتِيَ فَيُخْبِرُهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ فِي أَيِّ الْأَقْوَالِ شَاءَ، بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ أَبَا الْمُصْعَبِ فِي مَجْلِسٍ وَابْنَ وَهْبٍ فِي مَجْلِسٍ وَغَيْرَهُمَا كَذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَقْصِدَ أَيَّهُمَا شَاءَ فَيَسْأَلَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، أَوْ يَخْتَارَ مَا ثَبَتَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، قُلْت لِأَبِي مُحَمَّدٍ: فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِي ذَلِكَ؟ . قَالَ أَمَّا مَنْ فِيهِ فَضْلُ الِاخْتِيَارِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلُ الِاخْتِيَارِ قَلَّدَ رَجُلًا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ، فَاخْتِيَارُ الرَّجُلِ كَاخْتِيَارِ الْقَوْلِ. انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: قَلَّدَ رَجُلًا يَقْوَى فِي نَفْسِهِ مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ قَبْلَ هَذَا مِنْ التَّرْجِيحِ بَيْنَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّهُ يُقَدِّمُ قَوْلَ الْأَعْلَمِ الْوَرِعِ عَلَى الْأَوْرَعِ الْعَالِمِ، وَالْحَاكِمُ كَالْمُفْتِي فِي الْآخِذِ بِاخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَذْهَبِ، وَيُلْصَقُ بِهِمْ مَنْ اتَّسَعَ فِي الْعِلْمِ وَاسْتَبْحَرَ فِيهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي (مُفِيدُ الْحُكَّامِ) : وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِيمَا يُشَاوِرُهُمْ فِيهِ، فَقِيلَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَعْلَمِهِمْ، وَقِيلَ بِقَوْلِ أَكْثَرِهِمْ، وَقِيلَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَفِي (الْمُتَيْطِيَّةِ) يَنْظُرُ فِي أَقْوَالِهِمْ فَمَا رَآهُ عِنْدَهُ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِّ أَخَذَ بِهِ.
[فَصْلٌ مَنْ كَانَتْ فُتْيَاهُ نَقْلًا لِمَذْهَبِ إمَامِهِ]
فَصْلٌ: قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: لَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَتْ فُتْيَاهُ نَقْلًا لِمَذْهَبِ إمَامِهِ إذَا اعْتَمَدَ فِي نَقْلِهِ عَلَى كُتُبٍ أَنْ يَعْتَمِدَ إلَّا عَلَى كِتَابٍ مَوْثُوقٍ بِصِحَّتِهِ وَجَازَ ذَلِكَ، كَمَا جَازَ اعْتِمَادُ الرَّاوِي عَلَى كِتَابِهِ، وَاعْتِمَادُ الْمُسْتَفْتِي عَلَى مَا يَكْتُبُهُ الْمُفْتِي، وَتَحْصُلُ لَهُ الثِّقَةُ بِمَا يَجِدُهُ فِي نُسْخَةٍ غَيْرِ مَوْثُوقٍ بِصِحَّتِهَا بِأَنْ يَجِدَهُ فِي نُسَخٍ عِدَّةٍ مِنْ أَمْثَالِهَا، وَقَدْ تَحْصُلُ لَهُ الثِّقَةُ بِمَا يَجِدُ فِي النُّسْخَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِهَا بِأَنْ يَرَاهُ كَلَامًا مُنْتَظِمًا وَهُوَ خَبِيرٌ فَطِنٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مَوَاقِعُ الْإِسْقَاطِ وَالتَّغْيِيرِ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْهُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ لَمْ
يَثِقْ بِصِحَّتِهِ نَظَرَ، فَإِنْ وَجَدَهُ مُوَافِقًا لِأُصُولِ الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّخْرِيجِ مِثْلُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ لَوْ لَمْ يَجِدْهُ مَنْقُولًا فَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْكِيَهُ عَنْ إمَامِهِ فَلَا يَقُولُ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَثَلًا كَذَا، وَكَذَا وَلْيَقُلْ وَجَدْت عَنْ الشَّافِعِيِّ كَذَا، وَكَذَا، أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِتَخْرِيجِ مِثْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْكُرَهُ بِلَفْظٍ جَازِمٍ مُطْلَقٍ، فَإِنَّ سَبِيلَ مِثْلِهِ النَّقْلُ الْمَحْضُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا يَجُوزُ لَهُ مِثْلُ مَا جَازَ لِلْأَوَّلِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَذْكُرَ فِي غَيْرِ مَقَامِ الْفَتْوَى مُفْصِحًا بِحَالِهِ فِيهِ فَيَقُولُ: وَجَدْته فِي نُسْخَةٍ مِنْ الْكِتَابِ الْفُلَانِيِّ أَوْ مِنْ كِتَابِ فُلَانٍ لَا أَعْرِفُ صِحَّتَهَا، أَوْ وَجَدْت عَنْ فُلَانٍ كَذَا، وَكَذَا، أَوْ بَلَغَنِي عَنْهُ كَذَا، وَكَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَاتِ.
وَسُئِلَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ الْمُقَلِّدِ وَالْمُفْتِي يَأْخُذُ بِقَوْلٍ يُنْسَبُ إلَى إمَامِهِ، وَلَا يَرْوِيهِ هَذَا الْمُفْتِي عَنْ صَاحِبِ مَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا حَفِظَهُ مِنْ كُتُبِ الْمَذْهَبِ، وَهِيَ غَيْرُ مَرْوِيَّةٍ، وَلَا مُسْنَدَةٌ إلَى مُؤَلِّفِيهَا، فَهَلْ يَسُوغُ لِمَنْ هَذِهِ حَالُهُ الْفُتْيَا أَمْ لَا؟ . وَهُوَ سُؤَالٌ طَوِيلٌ فِيهِ مَسَائِلُ عَدِيدَةٌ فَأَجَابَ عَنْ هَذَا الْفَصْلِ بِأَنْ قَالَ: وَأَمَّا الِاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِ الْفِقْهِ الصَّحِيحَةِ الْمَوْثُوقِ بِهَا فَقَدْ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَلَى جَوَازِ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ قَدْ حَصَلَتْ بِهَا كَمَا تَحْصُلُ بِالرِّوَايَةِ، وَكَذَلِكَ قَدْ اعْتَمَدَ النَّاسُ عَلَى الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالطِّبِّ وَسَائِرِ الْعُلُومِ لِحُصُولِ الثِّقَةِ بِذَلِكَ وَبُعْدِ التَّدْلِيسِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ النَّاسَ اتَّفَقُوا عَلَى الْخَطَأِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَوْلَى بِالْخَطَإِ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا جَوَازُ اعْتِقَادِ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ رَجَعَ الشَّرْعُ إلَى أَقْوَالِ الْأَطِبَّاءِ فِي صُوَرٍ، وَلَيْسَتْ كُتُبُهُمْ فِي الْأَصْلِ إلَّا عَنْ قَوْمٍ كُفَّارٍ، وَلَكِنْ لَمَّا بَعُدَ التَّدْلِيسُ فِيهَا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا، كَمَا اعْتَمَدَ فِي اللُّغَةِ عَلَى أَشْعَارِ كُفَّارٍ مِنْ الْعَرَبِ لِبُعْدِ التَّدْلِيسِ فِيهَا. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: قَالَ الصَّيْمَرِيُّ قَلَّمَا وُجِدَ التَّزْوِيرُ عَلَى الْمُفْتِي، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَرَسَ أَمْرَ الدِّينِ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ.
مَسْأَلَةٌ: وَمِثْلُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي كِتَابِ (الْإِحْكَامُ فِي تَمْيِيزِ الْفَتَاوَى عَنْ الْأَحْكَامِ) فَقَالَ كَانَ الْأَصْلُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجُوزَ الْفُتْيَا إلَّا بِمَا يَرْوِيهِ الْعَدْلُ عَنْ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ الْمُفْتِي حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُفْتِي كَمَا تَصِحُّ الْأَحَادِيثُ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّهُ نَقْلٌ لِدِينِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَعَلَى