الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْبَابُ الْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ]
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَعْتَبِرْ مُطْلَقَ الظَّنِّ فِي غَالِبِ الْمَسَائِلِ، وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ ظُنُونًا مُفِيدَةً مُسْتَفَادَةً مِنْ إمَارَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا سَبِيلَ فِيهِ إلَى الْقَطْعِ كَالشَّهَادَةِ أَنَّ الْمِدْيَانَ مُعْدَمٌ فَإِنَّهُمْ إنَّمَا يَشْهَدُونَ عَلَى عِلْمِهِمْ وَقَدْ يَكُونُ الْبَاطِنُ بِخِلَافِهِ، فَاسْتَظْهَرَ بِالْيَمِينِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ، فَبِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ اسْتَحَقَّ حُكْمَ الْمُعْدَمِ، وَسَقَطَ عَنْهُ الطَّلَبُ مَا دَامَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ.
مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ لِامْرَأَةٍ غَابَ زَوْجُهَا وَتَرَكَهَا بِغَيْرِ نَفَقَةٍ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِيهِ عَلَى الْعِلْمِ الْبَتِّ، فَإِذَا قَامَتْ بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَشَهِدَ لَهَا الشُّهُودُ، اسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا بِالْيَمِينِ عَلَى صِحَّةِ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ لَهَا، فَبِمُقَارِبَةِ الْيَمِينُ الشَّهَادَةَ وَجَبَ لَهَا الْحُكْمُ بِذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ خِلَافٌ وَتَفْرِقَةٌ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْمُسْتَحَقَّاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ بِشَاهِدَيْنِ وَيَمِينِ الْقَضَاءِ.
مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى عِدَّةِ الْوَرَثَةِ، لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمْ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَكَذَلِكَ شَهَادَتُهُمْ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحَقِّ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بَاعَ وَلَا وَهَبَ وَلَا تَصَدَّقَ وَلَا خَرَجَ عَنْ يَدِهِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ انْتِقَالَاتِ الْأَمْلَاكِ، وَلَا يَشْهَدُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا فِي عِدَّةِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْبَتِّ، فَلَوْ قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمْ أَصْلًا عَلَى الْبَتِّ، أَوْ قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّهُ شَيْؤُهُ لَمْ يَبِعْهُ وَلَا فَوَّتَهُ كَانَتْ شَهَادَةَ زُورٍ، كَذَا هُوَ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إنَّ الشَّهَادَةَ فِي ذَلِكَ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى الْبَتِّ وَهُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي الْفَصْلِ الثَّامِنِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي التَّنَبُّهُ لَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَاتِ.
مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ ذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا رَجُلًا خَرَجَ مُسْتَسِرًّا مِنْ دَارٍ فِي حَالٍ رَثَّةٍ، فَاسْتَنْكَرُوا ذَلِكَ فَدَخَلَ الْعُدُولُ مِنْ سَاعَتِهِمْ الدَّارَ فَوَجَدُوا
قَتِيلًا يَسِيلُ دَمُهُ وَلَيْسَ فِي الدَّارِ أَحَدٌ، فَهَذِهِ شَهَادَةٌ جَائِزَةٌ يَقْطَعُ الْحُكْمُ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلَى الْمُعَايَنَةِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى الْعُدُولُ الْمُتَّهَمَ يُجَرِّدُ الْمَقْتُولَ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ حِينَ أَصَابَهُ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَوْثٌ تَجِبُ مَعَهَا الْقَسَامَةُ.
مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّعْرِيفِ فَإِنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَيَعْتَمِدُ عَلَى الْقَرَائِنِ الْمُعْتَمَدَةِ الْمُغَلِّبَةِ لِلظَّنِّ فِي التَّعْدِيلِ وَفِي الْإِعْسَارِ بِالْجَبْرِ فِي الْبَاطِنَةِ وَضَرَرِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَجَازُوا لِلشَّاهِدِ أَنْ يَعْتَمِدَ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَى الظَّنِّ الْقَوِيِّ الْقَرِيبِ مِنْ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْدُورُ عَلَى تَحْصِيلِهِ فَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِمُقْتَضَاهُ وَإِلَّا لَزِمَ تَعْطِيلُ الْحُكْمِ فِي التَّعْدِيلِ وَفِي الْإِعْسَارِ، وَأَمَّا ضَرَرُ الزَّوْجَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ حُصُولُ الْقَطْعِ بِهِ لِلشَّاهِدِ، وَلَكِنَّهُ فِي غَايَةِ النُّدُورِ وَالْعُسْرِ فَيَلْزَمُ تَعْطِيلُ الْحُكْمِ بِهِ أَيْضًا، وَلِعُسْرِ ذَلِكَ قَالَ فِي الرِّوَايَةِ وَمِنْ أَيْنَ لِلشُّهُودِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ.
فَصْلٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْفَرْقِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ وَالْمِائَتَيْنِ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْعِلْمِ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّاهِدُ إلَّا مَا هُوَ قَاطِعٌ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ حَالَةُ الْأَدَاءِ دَائِمًا عِنْدَ الشَّاهِدِ الظَّنُّ الضَّعِيفُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ، بَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمُدْرَكِ عِلْمًا فَقَطْ، فَلَوْ شَهِدَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَدْ دَفَعَهُ، فَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِصْحَابِ الَّذِي لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ الضَّعِيفَ، وَكَذَلِكَ الثَّمَنُ فِي الْمَبِيعِ مِنْ احْتِمَالِ دَفْعِهِ، وَيَشْهَدُ فِي الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ لِوَارِثِهِ مَعَ جَمِيعِ جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ أَنْ وَرِثَهُ، وَيَشْهَدُ بِالْإِجَارَةِ وَلُزُومِ الْأُجْرَةِ مَعَ جَوَازِ الْإِقَالَةِ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ.
وَالْحَاصِلُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا وَشِبْهِهَا إنَّمَا هُوَ الظَّنُّ الضَّعِيفُ وَلَا يَكَادُ يُوجَدُ مَا يَبْقَى فِيهِ الْعِلْمُ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْ الصُّوَرِ.
فَمِنْ ذَلِكَ النَّسَبُ وَالْوَلَاءُ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ، فَيَبْقَى الْعِلْمُ عَلَى حَالِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْإِقْرَارِ، فَإِنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ وُقُوعِ النُّطْقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ.