الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الذَّبَائِحُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ مِنْ جِهَةِ التَّقْصِيرِ الْمُقْتَضِي لِلتَّغْرِيمِ، وَكَذَلِكَ دَفْعُ الْأُجْرَةِ، لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ ذَبْحٌ صَحِيحٌ فَإِنَّهُ يُحْكَمُ لَهُ بِاسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ. وَكَذَا لَوْ بَاعَ صَاحِبُ الذَّبِيحَةِ لِشَخْصٍ ثُمَّ ارْتَفَعَا إلَى حَاكِمٍ، وَادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهَا حَرَامٌ لِأَمْرٍ ادَّعَاهُ أَوْ ظَهَرَ لِلْحَاكِمِ ذَلِكَ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ حَكَمَ عَلَى الْبَائِعِ بِرَدِّ الثَّمَنِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْهُ بِتَحْرِيمِ الذَّبِيحَةِ، وَكَذَا إذَا أَثْبَتَ التَّقْصِيرَ فِي الذَّبْحِ وَحَكَمَ بِالْغُرْمِ كَانَ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِحُرْمَةِ الذَّبِيحَةِ. وَأَمَّا الْأَطْعِمَةُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا. مِثَالُهُ: إذَا نَزَلَتْ بِرَجُلٍ مَخْمَصَةٌ فَوَجَدَ مَعَ رَجُلٍ طَعَامًا فَامْتَنَعَ مِنْ إطْعَامِهِ وَمِنْ مُسَاوَمَتِهِ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ فَإِنْ مَاتَ الْجَائِعُ وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَإِنْ أَخَذَهُ الْجَائِعُ قَهْرًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ.
وَأَمَّا الْأَيْمَانُ فَيَدْخُلُهَا الْحُكْمُ اسْتِقْلَالًا كَمَنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَجْلِدَنَّهَا مِائَةَ سَوْطٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُطَلِّقُهَا عَلَيْهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ. وَأَمَّا الْجِهَادُ فَيَدْخُلُهُ اسْتِقْلَالًا فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِهِ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَمْثِيلٍ. وَأَمَّا النِّكَاحُ وَتَوَابِعُهُ فَدُخُولُ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْمُوجِبِ فِيهِ وَاضِحٌ، وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْقِسْمَةِ وَالشُّفْعَةِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَالْحَبْسِ وَالْوَكَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْحَمَالَةِ وَالضَّمَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الْمُعَامَلَاتِ، كُلِّهَا يَدْخُلُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، وَالْحُكْمُ الْمُوجِبُ، فَلَا نُطَوِّلُ بِالتَّمْثِيلِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ.
[فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ الْمُتَدَاوَلَةِ فِي التَّسْجِيلَاتِ]
ِ وَهِيَ مَرَاتِبُ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ فَأَعْلَاهَا لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ أَعْنِي بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَقْفًا كَانَ أَوْ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُمَا، قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ عُمَرُ الْبُلْقِينِيُّ الشَّافِعِيُّ - فَسَّحَ اللَّهُ لَهُ فِي مَدَّتِهِ -: الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ مَنْ لَهُ ذَلِكَ فِي أَمْرٍ قَابِلٍ لِقَضَائِهِ ثَبَتَ عِنْدَهُ وُجُودُهُ بِشَرَائِطِهِ الْمُمْكِنِ ثُبُوتُهَا، أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ
فِي ذَلِكَ شَرْعًا. فَقَوْلُنَا: عَنْ قَضَاءٍ، يُخْرِجُ الثُّبُوتَ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ عَلَى الْأَصَحِّ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: مَنْ لَهُ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ الَّذِينَ لَهُمْ ذَلِكَ وَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْهُ خَبَرُ الْعَزْلِ، وَحَاكِمُ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا لَمْ يَسْتَحِلَّ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ، وَالْكَافِرُ حَاكِمُ الْكَفَرَةِ إذَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ، وَالْمُحَكَّمُ. وَقَوْلُنَا: قَابِلٌ لِقَضَائِهِ، يَخْرُجُ بِهِ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْقَضَاءَ مِنْ عِبَادَةٍ مُجَرَّدَةٍ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلْزَامٌ كَالْحُكْمِ عَلَى الْمُعْسِرِ، وَيَنْجَرُّ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، دَوْمًا قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلَكِنْ لَا يَقْبَلُ الْإِلْزَامَ. وَقَوْلُنَا: ثَبَتَ عِنْدَهُ وُجُودُهُ يَعُمُّ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ الْكَامِلَةِ وَبِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَبِالْإِقْرَارِ وَبِعِلْمِ الْقَاضِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ وَبِالْيَمِينِ الْمَرْدُودَةِ بَعْدَ النُّكُولِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّة، وَأَمَّا مَا يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ مِمَّا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا: وُجُودُهُ أَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَوَجَّهُ الْحُكْمُ إلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: بِشَرَائِطِهِ الْمُمْكِنِ ثُبُوتُهَا، يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيعَ الشُّرُوطِ لَا يُعْتَبَرُ أَنْ تَثْبُتَ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ فِي الْبَيْعِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَقْدُورًا عَلَى تَسْلِيمِهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَرْهُونِ وَيَقِفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ وَالْجَانِي جِنَايَةً تُوجِبُ أَرْشًا مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ، وَلَا يَصِحُّ وَقْفُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا هِبَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ أَحَدٌ انْتِفَاءَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، وَلَا فِي الْحُكْمِ بِمُوجِبِهِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ غَيْرَ الْمَحْصُورِ مُتَعَذِّرٌ، وَإِنَّمَا طُلِبَ ذَلِكَ فِي أَنْ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ سِوَى الْقَائِمِ مِنْ أَجْلِ ظُهُورِ اسْتِحْقَاقِ مَنْ شَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ الْوَارِثُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَوَانِعُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهَا، وَاَلَّذِي يَعْتَمِدُ غَالِبًا فِي التَّسْجِيلَاتِ بِالْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ فِي الْوَقْفِ. وَنَحْوُهُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، وَاكْتَفَوْا بِشُهْرَةِ بُلُوغِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ وَرُشْدِهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّا نَرَى الْحُكَّامَ فِي عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ يَطْلُبُونَ الشَّهَادَةَ بِخُلُوِّ الزَّوْجَةِ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ مِنْ زَوْجٍ وَعِدَّةٍ وَنَحْوِهِمَا، فَهَلَّا طَلَبُوا الشَّهَادَةَ عَلَى خُلُوِّ الْبَيْعِ مِنْ رَهْنٍ وَجِنَايَةٍ وَنَحْوِهِمَا. وَقُلْنَا: سَبَبُهُ الِاحْتِيَاطُ فِي الْأَبْضَاعِ وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّزْوِيجَ لَوْ وَقَعَ كَانَ مُشْتَهِرًا غَالِبًا فَطَلَبْنَا الشَّهَادَةَ بِعَدَمِهِ لِإِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ، وَقَوْلُنَا: إنَّ ذَلِكَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ هَذَا هُوَ مَحَطُّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ. اهـ. مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ فِي الْحُدُودِ. وَذَكَرْت فِيهِ شَيْئًا مِنْ مَسَائِلِنَا.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي بَابِ الْوَقْفِ مَا مُلَخَّصُهُ: إنَّ الْحُكْمَ إذَا تَقَرَّرَ بِالصِّحَّةِ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحُكْمِ، فَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ مِلْكِ الْمَالِكِ وَحِيَازَتُهُ وَأَهْلِيَّتُهُ وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ فِي مَذْهَبِ الْقَاضِي، يُرِيدُ إنْ كَانَ شَافِعِيًّا وَصِحَّةُ الصِّيغَةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي مَوَاضِعَ مَعْدُودَةٍ كَلَفْظِ " سَاقَيْتُك " فِي بَابِ الْمُسَاقَاةِ وَالْحَوَالَةِ، وَالصِّيغَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْوَصِيَّةِ، وَالصِّيغَةُ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ وَالْوَكَالَةِ وَالْحَبْسِ وَالْقِرَاضِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الْقِرَاضُ لَا يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ بَلْ بِلَفْظِ الْقِرَاضِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْفُقَهَاءُ، فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَا أَشْبَهَهَا تُعْتَبَرُ صِحَّةُ الصِّيغَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا فَإِذَا وَقَعَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَصَرَّحَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ أَعْنِي مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ أَعْنِي بِصِحَّةِ ذَلِكَ وَقْفًا كَانَ أَوْ بَيْعًا فَلَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، إذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا قَرِيبًا لَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَكَمْ يَتَبَيَّنُ بِنَاؤُهُ عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِهَذَا اللَّفْظِ أَعْنِي الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ الْفَسَادُ مِنْ جِهَةٍ تُبَيِّنُ عَدَمَ الْمِلْكِ أَوْ شَرْطٌ آخَرُ فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا قَصَدَهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْحُكْمِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ نَقَضَهُ ذَلِكَ الْقَاضِي نَفْسُهُ أَوْ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْخَلَلَ الَّذِي ظَهَرَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحَلُّ الْحُكْمِ لَا فِي الْحُكْمِ وَمِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي التَّسْجِيلِ، لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَصِحَّتِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: كَثِيرًا مَا تُكْتَبُ هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي التَّسْجِيلَاتِ فَيُحْتَمَلُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي صِحَّتِهِ عَلَى الثُّبُوتِ فَيُرَاجَعُ فِيهِ الْحَاكِمُ، وَلَا يَكُونُ صَرِيحًا فَإِنْ عَسُرَتْ الْمُرَاجَعَةُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَعَارَفِ وَمَعْنَى صِحَّتِهِ كَوْنُهُ بِحَيْثُ تَتَرَتَّبُ آثَارُهُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى حُكْمِ الْقَاضِي بِذَلِكَ إلْزَامُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ، فَإِذَا كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ نَفَذَ وَصَارَ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَمِنْ شَرْطِ هَذَا الْحُكْمِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ، وَالْحِيَازَةُ وَأَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَصِحَّةُ الصِّيغَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَكُلَّمَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَعَرَفَهُ الْقَاضِي وَحَكَمَ بِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْخِلَافِ ارْتَفَعَ أَثَرُ ذَلِكَ الْخِلَافِ بِالنِّسْبَةِ إلَى تِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَهِيَ صِحَّةٌ مُطْلَقَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رَفْعِ الْخِلَافِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لِهَذَا الْفَسَادُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمُوجِبِهِ، وَهَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ الَّتِي غَلَبَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يَسْتَدْعِي ثَلَاثَةَ
أَشْيَاءَ: أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ وَصِحَّةَ صِيغَتِهِ، وَكَوْنَ تَصَرُّفِهِ فِي مَحَلِّهِ، وَلِذَلِكَ اُشْتُرِطَ فِيهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْحِيَازَةُ، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ يَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ، وَهُمَا: أَهْلِيَّةُ التَّصَرُّفِ وَصِحَّةُ صِيغَتِهِ، فَيُحْكَمُ بِمُوجِبِهَا وَهُوَ مُقْتَضَاهَا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَالِكًا صَحَّ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبَهَا ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ حَكَمَ بِصِحَّةِ تِلْكَ الصِّيغَةِ الصَّادِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ فَلَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ نَقْضٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ.
قَالَ: وَلِذَلِكَ أَقُولُ: لَيْسَ حَاكِمٌ آخَرُ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ نَقَضَهُ، وَلَا يُنْقَضُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ عَدَمُ الْمِلْكِ، فَيَكُونُ نَقْضُهُ كَنَقْضِ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ.
تَنْبِيهٌ: وَإِنَّمَا جَازَ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ مَعَ عَدَمِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْسُرُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ، قَالَ: وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ وَهِيَ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمَذَاهِبِ، إلَّا فِي كِتَابِ أَصْحَابِنَا.
وَقَدْ تَعَرَّضَ الشَّيْخُ الْعَلَّامَةُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ لِبَيَانِ حَدِّ اللَّفْظَةِ فَقَالَ مَا مُلَخَّصُهُ: الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ هُوَ قَضَاءُ الْمُتَوَلِّي بِأَمْرٍ ثَبَتَ عِنْدَهُ بِالْإِلْزَامِ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ خَاصًّا أَوْ عَامًّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا، فَذِكْرُ الْقَضَاءِ يَخْرُجُ بِهِ الثُّبُوتُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ " الْمُتَوَلِّي " الْإِمَامُ وَنُوَّابُهُ الَّذِينَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي حَدِّ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَيَجْرِي فِي قَوْلِهِ " ثَبَتَ عِنْدَهُ " مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِّ الصِّحَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَقَوْلُهُ " بِالْإِلْزَامِ " إلَى آخِرِهِ يَعْنِي بِالْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الْأَمْرَ الَّذِي ثَبَتَ عِنْدَهُ وَهُوَ صُدُورُ الصِّيغَةِ فِي ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ يَتَوَجَّهُ إلَى الْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْخَاصِّ لَا مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ. وَمِنْ هَا هُنَا يَظْهَرُ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ فُرُوقٌ.
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ مُنْصَبٌّ إلَى نَفَاذِ الْعَقْدِ الصَّادِرِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ وَقْفٍ وَنَحْوِهِمَا، وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ مُنْصَبٌّ إلَى ثُبُوتِ صُدُورِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَالْحُكْمُ عَلَى مَنْ صَدَرَ مِنْهُ بِمُوجِبِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَلَا يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ أَنَّهُ مَالِكٌ مَثَلًا إلَى حِينِ الْبَيْعِ أَوْ الْوُقُوفِ، وَلَا بَقِيَّةَ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَائِعِ أَوْ الْوَاقِفِ، إذَا حَكَمَ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِمُوجِبِ مَا صَدَرَ مِنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ سَالِمٍ مِنْ الِاعْتِرَاضِ وَسَيَأْتِي مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْعَقْدَ الصَّادِرَ إذَا كَانَ صَحِيحًا بِاتِّفَاقٍ وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي مُوجِبِهِ فَالْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ عِنْدَ غَيْرِ الَّذِي حَكَمَ بِالصِّحَّةِ، وَلَوْ حَكَمَ فِيهِ الْأَوَّلُ بِالْمُوجِبِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الثَّانِي، مِثَالُ ذَلِكَ التَّدْبِيرُ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقٍ، وَمُوجِبُهُ إذَا كَانَ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ مُنِعَ الْبَيْعُ، فَلَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِصِحَّةِ التَّدْبِيرِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْ بَيْعِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى صِحَّةَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَلَوْ حَكَمَ الْحَنَفِيُّ بِمُوجِبِ التَّدْبِيرِ امْتَنَعَ الْبَيْعُ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَرَى نَقْضَ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ، وَهَذَا النَّقْضُ حِينَئِذٍ لِمُدْرَكٍ آخَرَ.
الثَّالِثُ أَنَّ كُلَّ دَعْوَةٍ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِيهَا إلْزَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ أَوْ قَامَتْ بِهِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَإِنَّ الْحُكْمَ حِينَئِذٍ فِيهَا بِالْإِلْزَامِ هُوَ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ، وَلَا يَكُونُ بِالصِّحَّةِ، وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَنَحْوِهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الزَّانِي بِمُوجِبِ زِنَاهُ وَعَلَى السَّارِقِ بِمُوجِبِ سَرِقَتِهِ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ، وَلَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، وَكَذَا الْحُكْمُ بِحَبْسِ الْمِدْيَانِ حُكْمٌ بِالْمُوجِبِ، وَلَا يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الْحَبْسِ، إلَّا إذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَطُلِبَ فِيهِ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ بِطَرِيقِهِ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِالصِّحَّةِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْحَبْسِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَهَذَا ضَابِطٌ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَكُونُ بِالصِّحَّةِ عِنْدَ الْمُوَافِقِ، وَكَذَا عِنْدَ الْمُخَالِفِ الَّذِي يُجِيزُ التَّنْفِيذَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَالْحُكْمُ بِمُوجِبِ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ يَكُونُ حُكْمًا بِالْإِلْزَامِ بِالْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَيَكُونُ حُكْمًا بِالْإِلْزَامِ بِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَحْكُومِ بِهِ، فَيَجُوزُ مِنْ الْمُوَافِقِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ الْمُخَالِفِ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ الثَّانِي، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْمُخَالِفِ.
تَنْبِيهٌ. قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ حُكْمٍ مُخَالِفٍ لِمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ؛ لِأَنَّ التَّنْفِيذَ عِنْدَهُ لَيْسَ هُوَ إنْشَاءُ حُكْمٍ إلَّا أَنْ يُنْشِئَ فِيهِ حُكْمًا وَسَيَأْتِي مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ.
السَّادِسُ: لَوْ تَرَافَعَ الْمُتَبَايِعَانِ إلَى حَاكِمٍ شَافِعِيٍّ أَوْ مَالِكِيٍّ وَتَنَازَعَا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي التَّحَالُفَ فَحَكَمَ بِتَحَالُفِهِمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ حُكْمًا بِالْإِلْزَامِ لَا بِصِحَّةِ التَّحَالُفِ، فَالتَّحَالُفُ قَبْلَ وُقُوعِهِ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ، وَكَذَا كُلُّ يَمِينٍ وَإِلْزَامٍ فِيمَا لَمْ يَقَعْ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِيهِ إلَّا بِالْإِلْزَامِ، وَهُوَ مُوجِبُ الْحُجَّةِ الْقَائِمَةِ، وَلَا يُحْكَمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ.
السَّابِعُ: لَوْ حَكَمَ حَنَفِيٌّ بِمُوجِبِ الْبَيْعِ بَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ، وَلَكِنْ يَكُونُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي حُكْمًا لَهُ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عِنْدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ حُصُولُ الْمِلْكِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَمُوجِبَ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بَعْدَ الْفَوَاتِ حُصُولُ الْمِلْكِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِيمَا يَفُوتُ بِهِ الْبَيْعُ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ عَرَفَ الْحَاكِمُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَحُصُولَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي أَوْ فَسَادَ الْبَيْعِ وَفَوَاتَ الْمَبِيعِ بِيَدِهِ، وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْقَاضِي الْحُكْمَ بِالْمِلْكِ أَوْ بِمُوجِبِ مَا جَرَى، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ بِذَلِكَ، أَعْنِي بِالْمُوجِبِ، وَلَا يَحْكُمُ لَهُ بِالصِّحَّةِ أَعْنِي صِحَّةَ الْبَيْعِ، وَلَا بِصِحَّةِ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْأَصْلِ قَبْضًا صَحِيحًا.
الثَّامِنُ: يُتَصَوَّرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ صُوَرِ الْقَبْضِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَفِي قَبْضِ الْمُخْتَلَفِ فِي صِحَّتِهِ وَفَسَادِهِ كَمَا إذَا أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَكِيلَ لِنَفْسِهِ مَا اشْتَرَاهُ مَكِيلًا فَفَعَلَ فَإِنَّ فِي صِحَّةِ الْقَبْضِ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَأَصَحُّهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يَصِحُّ. قَالَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ الْبُلْقِينِيُّ: فَلَوْ اشْتَرَى قَمْحًا مَثَلًا وَشَرَطَ فِيهِ الْكَيْلَ، وَكَانَ الْبَائِعُ قَدْ اشْتَرَاهُ مَكِيلًا وَهُوَ فِي مِكْيَالِ الْبَائِعِ، فَهَلْ يُغْنِي ذَلِكَ عَنْ التَّجْدِيدِ فِيهِ وَجْهَانِ. رَجَّحَ جَمْعٌ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِهِ، وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ جَوَازُ ذَلِكَ ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ فِي السَّلَمِ الثَّانِي. فَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَارْتَفَعَتْ قَضِيَّةٌ مِنْ هَاتَيْنِ أَعْنِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا لِحَاكِمٍ شَافِعِيٍّ مَثَلًا، فَحَكَمَ بِصِحَّةِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفَ الَّذِي لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْقَبْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لِتَضَمُّنِ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ، وَلَوْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَبْضِ بِطَرِيقِهِ صَحَّ، وَلَوْ حَكَمَ بِمُوجِبِ الْقَبْضِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُعْتَقَدِهِ فِي الْقَبْضِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُفِيدًا لِصِحَّةِ الْقَبْضِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ.
قَالَ: إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْحَاكِمُ عَقِيدَتَهُ فِي الْقَبْضِ، وَيَقُولُ: حَكَمْت بِمُوجِبِ الْقَبْضِ فِي ذَلِكَ عَلَى مُعْتَقِدِي، فَلَوْ كَانَ مُعْتَقَدُ الْحَاكِمِ أَنَّ الْقَبْضَ
لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَمُعْتَقَدُهُ أَنَّهُ يَسْتَقِرُّ بِهِ عَقْدُ الْبَيْعِ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ، كَانَ الْحُكْمُ بِمُوجِبِ الْقَبْضِ حِينَئِذٍ مُقْتَضَاهُ اسْتِقْرَارُ الْبَيْعِ بِهَذَا الْقَبْضِ.
التَّاسِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُوجِبِ يَتَضَمَّنُ أَشْيَاءَ لَا يَتَضَمَّنُهَا الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ، فَمِنْهَا الْحُكْمُ بِإِلْزَامِهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إذَا صَدَرَ الْحُكْمُ بِذَلِكَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَالِكِيَّ وَالْحَنَفِيَّ إذَا حَكَمَا بِصِحَّةِ الْبَيْعِ أَعْنِي بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْبَيْعِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ إثْبَاتَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَلَا فَسْخَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ ذَلِكَ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالصِّحَّةِ يُجَامِعُ ذَلِكَ، فَأَمَّا لَوْ حَكَمَ الْمَالِكِيُّ أَوْ الْحَنَفِيُّ بِمُوجِبِ الْبَيْعِ، وَالْإِلْزَامُ بِمُقْتَضَاهُ فَإِنَّهُ عَلَى الْحَاكِمِ الشَّافِعِيِّ تَمْكِينُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مِنْ الْفَسْخِ لِخِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَلَا لِأَحَدِهِمَا الِانْفِرَادُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَكَمَ بِهِ وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَنْظُرْ إلَى نَقْضِ الْقَضَاءِ بِنَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فَإِنْ نَظَرْنَا إلَى ذَلِكَ فَذَلِكَ لِمُدْرَكٍ آخَرَ.
وَمِنْهَا الْقَرْضُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ إذَا وُجِدَ مُقْتَضِيهَا وَيَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ فَيَنْظُرُ فِيهِ حِينَئِذٍ إلَى عَقِيدَةِ الْحَاكِمِ فِي حُكْمِهِ بِالْمُوجِبِ فَإِنْ كَانَ مِنْ عَقِيدَتِهِ أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ كَمَا تَقُولُهُ الْمَالِكِيَّةُ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ الْمُقْرِضُ فِيمَا أَقْرَضَهُ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ قَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ الْقَرْضِ لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَى الْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِي الْقَرْضِ عِنْدَ حَاكِمٍ يَرَى الرُّجُوعَ فِيهِ، إذْ هُوَ فَرْضٌ صَحِيحٌ، وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ فِيهِ فَلَا يُنَافِي الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ الْقِيَامَ بِالرُّجُوعِ فِي الْقَرْضِ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْمُوجِبِ وَالْإِلْزَامِ بِمُقْتَضَى مَذْهَبِهِ امْتَنَعَ عَلَى الْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ الْمُقْرَضَةِ الْبَاقِيَةِ عِنْدَ الْمُقْتَرِضِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْقَرْضِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ.
وَمِنْهَا: الرَّهْنُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُهُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ وَالْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ بِالصِّحَّةِ لَا يَمْنَعُ الْمُخَالِفَ فِي الْآثَارِ مِنْ الْعَمَلِ بِأَثَرِهِ عَلَى عَقِيدَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يُنَاقِضُ شَيْئًا مِنْ الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَإِنْ صَدَرَ فِيهِ الْحُكْمُ بِالْمُوجِبِ، وَالْإِلْزَامُ بِمُقْتَضَاهُ نُظِرَ إلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ مُوجِبِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ الْإِلْزَامُ امْتَنَعَ عَلَى الْمُخَالِفِ الْعَمَلُ بِمَا يُخَالِفُ عَقِيدَةَ الْحَاكِمِ الْمَذْكُورِ. وَمِثَالُهُ لَوْ حَكَمَ شَافِعِيٌّ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ وَحَصَلَ فِيهِ إعَادَتُهُ إلَى الرَّاهِنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا لِمَنْ يَرَى فَسْخَ الرَّهْنِ بِالْعَوْدِ إلَى الرَّاهِنِ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ أَنْ يُعِيدَهُ اخْتِيَارًا أَوْ يَفُوتَ الْحَقُّ فِيهِ