الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ أَحْكَامِ الْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي: أَنَّ الْقَوْلَ الْقَدِيمَ إذَا قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْقَدِيمَ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ شَارِحُ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي " بَابِ الْحَجْرِ " وَذَكَرْت هَذَا الْقَوْلَ؛ لِأَنَّهُ جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَيَنْتَفِي بِهِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ يُرِيدُ فِي الْقَضَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَحْكَامِ.
[فَصْلٌ وَلَيْسَ لِلْمُحَكَّمِ أَنْ يَخْتَارَ قَوْلًا يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِهِ]
فَصْلٌ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ ذَاتَ أَقْوَالٍ أَوْ رِوَايَاتٍ فَالْفَتْوَى وَالْحُكْمُ بِقَوْلِ مَالِكٍ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ قَوْلًا يُفْتِي أَوْ يَحْكُمُ بِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى أَنَّهُ الْقَوْلُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ، فَمِمَّا يَزِيدُ ذَلِكَ تَقْوِيَةً مَا نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ فِي " إقْلِيدِ التَّقَالِيدِ " قَالَ: قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ عَنْ مَالِكٍ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَعَلَى ذَلِكَ اعْتَمَدَ شُيُوخُ الْأَنْدَلُسِ، وَإِفْرِيقِيَةَ إذْ تَرَجَّحَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ أَصْبَغُ بْنُ خَلِيلٍ صَاحِبَ رِيَاسَةِ الْأَنْدَلُسِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَكَانَ فَقِيرًا لَمْ يَكْتَسِبْ شَيْئًا، وَلَا تَرَكَ مَالًا بَلَغَتْ تَرِكَتُهُ كُلُّهَا مِائَةَ دِينَارٍ، قَالَ: وَسَمِعْت أَحْمَدَ بْنَ خَالِدٍ يَقُولُ: دَخَلْت يَوْمًا عَلَى أَصْبَغَ بْنِ خَلِيلٍ فَقَالَ لِي يَا أَحْمَدُ فَقُلْت: نَعَمْ، فَقَالَ اُنْظُرْ إلَى هَذِهِ الْكُوَّةِ لِكُوَّةٍ عَلَى رَأْسِهِ فِي حَائِطِ بَيْتِهِ، فَقُلْت لَهُ نَعَمْ، فَقَالَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَقَدْ رَدَدْت مِنْهَا ثَلَثَمِائَةِ دِينَارٍ صِحَاحًا عَلَى أَنْ أُفْتِيَ فِي مَسْأَلَةٍ بِغَيْرِ رَأْيِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِمَّا قَالَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ فَمَا رَأَيْت نَفْسِي فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَحَدَّثَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَضَّاحٍ عَنْ سَحْنُونٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ رَضِيت بِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لِنَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنِي وَبَيْنَ النَّارِ.
وَقَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَقَالَ سَحْنُونٌ: وَأَنَا رَضِيت ابْنَ الْقَاسِمِ لِنَفْسِي وَجَعَلْته بَيْنِي وَبَيْنَ النَّارِ، قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَمَا سَحْنُونٌ بِدُونِهِمَا؟ قَالَ ابْنُ زِيَادٍ وَأَنَا رَضِيت ابْنَ وَضَّاحٍ لِنَفْسِي.
تَنْبِيهٌ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ فَفِي الطُّرَرِ عَلَى التَّهْذِيبِ لِأَبِي الْحَسَنِ الطَّنْجِيِّ قَالَ: قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ، وَقَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ غَيْرِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ فِيهَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِهَا وَذَلِكَ لِصِحَّتِهَا.
فَصْلٌ: فَتَقَرَّرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي إصْلَاحِ عُلَمَاءِ الْمَغَارِبَةِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَالْعِرَاقِيُّونَ كَثِيرًا مَا يُخَالِفُونَ الْمَغَارِبَةَ فِي تَعْيِينِ الْمَشْهُورِ، وَيُشْهِرُونَ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ عَمَلُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَاسْتَمَرَّ تَشْهِيرُ مَا شَهَرَهُ الْمِصْرِيُّونَ وَالْمَغَارِبَةُ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَسَمِعْت بَعْضَ الْفُضَلَاءِ يُنْكِرُ لَفْظَةَ " مَشْهُورٌ " فَإِنَّهُ قَدْ يَشْتَهِرُ عِنْدَ النَّاسِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَصْلٌ، قَالَ: وَإِنَّمَا يُعَوَّلُ عَلَى مَا يَعْضُدُهُ الدَّلِيلُ.
وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: اُخْتُلِفَ فِي الْمَشْهُورِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ وَالْآخَرُ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَيُعَكَّرُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: إنَّ الْأَشْيَاخَ رُبَّمَا ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَيَقُولُونَ: إنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ هُوَ الصَّحِيحُ. انْتَهَى.
وَلَيْسَ فِي هَذَا إشْكَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَدْ يَعْضُدُ الْقَوْلَ الْآخَرَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَرُبَّمَا رَوَاهُ مَالِكٌ، وَلَا يَقُولُ بِهِ الْمُعَارِضُ قَامَ عِنْدَ الْإِمَامِ لَا يَتَحَقَّقهُ هَذَا الْمُقَلِّدُ أَوْ لَا يَظْهَرُ لَهُ وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْهُ، فَيَقُولُ: وَالصَّحِيحُ كَذَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَصِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ، قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَلَيْسَ كُلُّ فَقِيهٍ يُسَوَّغُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِالْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ حُجَّةً مِنْ الْحَدِيثِ، وَلَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي سَلَكَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ هَذَا الْمَسْلَكَ فَأَخَذَ بِأَحَادِيثَ تَرَكَهَا الشَّافِعِيُّ عَمْدًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ بِصِحَّتِهَا لِمَانِعٍ اطَّلَعَ عَلَيْهِ، وَخَفِيَ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ صَنَّفَ الْإِمَامُ ابْنُ حَزْمٍ كِتَابًا اعْتَرَضَ فِيهِ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ رحمه الله فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي رَوَاهَا، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا. وَسَرَدَ الْأَحَادِيثَ وَشَنَّعَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَوَقَفَ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ لِلْقَاضِي أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ الرَّفِيعِ التُّونِسِيِّ.
فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَى الْمُعَارِضِ انْتِفَاؤُهُ، وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَيُعَكِّرُ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْمَشْهُورَ مَا كَثُرَ قَائِلُهُ أَنَّ بَعْضَ الْمَسَائِلِ وَجَدْنَا الْمَشْهُورَ فِيهَا الْمَنْعَ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى الْجَوَازِ، مِثْلَ مَسْأَلَةِ الْتِزَامِ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا إرْضَاعَ وَلَدِهَا حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ عِنْدَ الطَّلَاقِ، وَالْتِزَامِ نَفَقَتِهِ، وَكِسْوَتِهِ سَنَتَيْنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ إلَّا فِي الْحَوْلَيْنِ فَقَطْ وَيَسْقُطُ الزَّائِدُ، وَاَلَّذِي جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَحْكُمُ فُقَهَاءِ الْأَنْدَلُسِ إمْضَاءُ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ. انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ وَمَسَائِلُ الْمَذْهَبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْهُورَ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ، وَأَنَّ مَالِكًا رحمه الله كَانَ يُرَاعِي مِنْ الْخِلَافِ مَا قَوِيَ دَلِيلُهُ لَا مَا كَثُرَ