الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّقْلِيدَاتِ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ اشْتِرَاطُهَا عَلَيْهِ وَتَكُونُ قَادِحَةً فِي الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَطَ مَا لَا يَجُوزُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي " إقْلِيدِ التَّقْلِيدِ " وَمَنْ كَانَ لَا يَقْضِي إلَّا بِمَا أَمَرَهُ بِهِ مَنْ وَلَّاهُ فَلَيْسَ بِقَاضٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِصِفَةِ خَادِمِ رِسَالَةٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَهُ بِهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَسْتَطْلِعَ مَا عِنْدَ الَّذِي وَلَّاهُ فِي ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ فِي الْقَاضِي الْمُجْتَهِدِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْقَاضِي الْمُقَلِّدِ كَمَا هُوَ فِي زَمَانِنَا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي مِنْ أَرْكَانِ الْقَضَاءِ.
مَسْأَلَةٌ عَقْدُ الْوِلَايَةِ لِحَاكِمَيْنِ مَعًا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا وَيَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ: وَفِي الْجَوَاهِرِ: وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْوِلَايَةِ لِحَاكِمَيْنِ مَعًا عَلَى أَنْ يَجْتَمِعَا وَيَتَّفِقَا عَلَى الْحُكْمِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ، فَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ وِلَايَتُهُ.
[الْبَابُ الْخَامِسُ فِي أَرْكَانِ الْقَضَاءِ وَهِيَ سِتَّةٌ]
[الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَآدَابِ الْقَاضِي]
وَاسْتِخْلَافِهِ وَذِكْرِ التَّحْكِيمِ وَهِيَ سِتَّةٌ الْقَاضِي وَالْمَقْضِيُّ بِهِ وَالْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ فِيهِ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ وَكَيْفِيَّةُ الْقَضَاءِ.
الرُّكْنُ الْأَوَّلُ: فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ وَآدَابِ الْقَاضِي وَاسْتِخْلَافِهِ وَذِكْرِ التَّحْكِيمِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانِيَةِ فُصُولٍ.
الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَوْصَافِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي صِحَّةِ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَمَا هُوَ غَيْرُ شَرْطٍ فِي الصِّحَّةِ، لَكِنَّ عَدَمَهَا يُوجِبُ الْعَزْلَ، وَمَا هُوَ شُرُوطُ الْكَمَالِ، وَيُسْتَحَبُّ الْعَزْلُ بِعَدَمِهَا، وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ تَوْلِيَةَ أَحَدٍ اجْتَهَدَ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُحَابِي وَلَا يَقْصِدُ بِالتَّوْلِيَةِ إلَّا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَمِيرٍ أَمَّرَ أَمِيرًا أَوْ اسْتَقْضَى قَاضِيًا مُحَابَاةً إلَّا كَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ، وَإِنْ أَمَّرَهُ أَوْ اسْتَقْضَاهُ نَصِيحَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَانَ شَرِيكَهُ فِيمَا عَمِلَ.
مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلْيَخْتَبِرْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي اسْتِخْلَافِهِ عُمَرَ رضي الله عنهما.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله " التَّنْبِيهَاتُ ": وَشُرُوطُ الْقَضَاءِ الَّتِي لَا يَتِمُّ الْقَضَاءُ إلَّا بِهَا وَلَا تَنْعَقِدُ الْوِلَايَةُ وَلَا يُسْتَدَامُ عَقْدُهَا إلَّا مَعَهَا عَشْرَةٌ: الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالذُّكُورِيَّةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ وَكَوْنُهُ وَاحِدًا وَسَلَامَةُ حَاسَّةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنْ الْعَمَى وَالصَّمَمِ وَسَلَامَةِ اللِّسَانِ مِنْ الْبَكَمِ، فَالثَّمَانِيَةُ الْأُوَلُ هِيَ الْمُشْتَرَطَةُ فِي صِحَّةِ الْوِلَايَةِ وَالثَّلَاثَةُ الْأُخَرُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الصِّحَّةِ، لَكِنَّ عَدَمَهَا يُوجِبُ الْعَزْلَ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ اتِّفَاقًا، وَلَا الْمَجْنُونِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَلَا يُكْتَفَى بِالْعَقْلِ الْمُشْتَرَطِ فِي التَّكْلِيفِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ التَّمْيِيزِ جَيِّدَ الْفِطْنَةِ بَعِيدًا مِنْ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَرْأَةِ لِنَقْصِهَا وَلِأَنَّ كَلَامَهَا رُبَّمَا كَانَ فِتْنَةً، وَبَعْضُ النِّسَاءِ تَكُونُ صُورَتُهَا فِتْنَةً
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْعَبْدِ لَا تَصِحُّ وَكَذَا مَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ، قَالَ سَحْنُونٌ وَلَا الْمُعْتَقِ خَوْفًا مِنْ أَنْ تُسْتَحَقَّ رَقَبَتُهُ فَتَذْهَبَ أَحْكَامُ النَّاسِ بَاطِلًا، وَأَمَّا الْبُلُوغُ، فَلِأَنَّ وِلَايَةَ الصَّبِيِّ لَا تَصِحُّ لِنُقْصَانِ تَمْيِيزِهِ، وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ غَيْرِ الْعَدْلِ. قَالَ سَحْنُونٌ: مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَتُهُ.
وَقَالَ أَيْضًا تَصِحُّ وَيَجِبُ عَزْلُهُ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَفِي الْفَاسِقِ خِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا، هَلْ يُرَدُّ مَا حَكَمَ فِيهِ وَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَوْ يَمْضِي إذَا وَافَقَ الْحَقَّ، وَوَجْهُ الْحُكْمِ
وَأَمَّا الْعِلْمُ، فَلِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ وِلَايَةُ الْجَاهِلِ، قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَلَا الْمُقَلِّدِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: فَيَقْضِي بِفَتْوَى مُقَلِّدِهِ بِنَصِّ النَّازِلَةِ، فَإِنْ قَاسَ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ قَالَ يَجِيءُ مِنْ هَذَا كَذَا فَهُوَ مُتَعَدٍّ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: الْحَاكِمُ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ وَيُفْتِيَ إلَّا بِالرَّاجِحِ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا جَازَ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَأَنْ يُفْتِيَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَاجِحًا عِنْدَهُ مُقَلِّدًا فِي رُجْحَانِ الْقَوْلِ الْمَحْكُومِ بِهِ - إمَامَهُ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِي الْفُتْيَا وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا فَحَرَامٌ إجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَلَا تَصِحُّ تَوْلِيَةُ مُقَلِّدٍ فِي مَوْضِعٍ يُوجَدُ فِيهِ عَالِمٌ، فَإِنْ تَقَلَّدَ فَهُوَ جَائِرٌ مُتَعَدٍّ؛ لِأَنَّهُ قَعَدَ فِي مَقْعَدِ غَيْرِهِ وَلَبِسَ خِلْعَةَ سِوَاهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى فِي زَمَانِنَا هَذَا مِنْ الْمُقَلِّدِينَ مَنْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَعْدُومٍ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا وَأَمَّا رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهَا فِي الْمَغْرِبِ مَعْدُومَةً، قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ
الْقَاضِي نَاظِرًا: هَذِهِ الْمَسَائِلُ تَكَلَّمَ عَنْهَا الْعُلَمَاءُ الْمَاضُونَ لَمَّا كَانَ الْعِلْمُ فِي أَعْصَارِهِمْ كَثِيرًا مُنْتَشِرًا، وَشُغِلَ أَكْثَرُ أَهْلِهَا بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالْمُنَاظَرَةِ عَلَى الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا عَصْرُنَا هَذَا فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْإِقْلِيمِ الْوَاسِعِ الْعَظِيمِ مُفْتٍ نَظَّارٌ قَدْ حَصَّلَ آلَةَ الِاجْتِهَادِ، وَاسْتَبْحَرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَعْرِفَةِ اللِّسَانِ وَالسُّنَنِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَالِاقْتِدَارِ عَلَى تَأْوِيلِ مَا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ، وَبِنَاءِ مَا تَعَارَضَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَتَرْجِيحِ ظَاهِرٍ عَلَى ظَاهِرٍ، وَمَعْرِفَةِ الْأَقْيِسَةِ وَحُدُودِهَا وَأَنْوَاعِهَا وَطُرُقِ اسْتِخْرَاجِهَا، وَتَرْجِيحِ الْعِلَلِ وَالْأَقْيِسَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، هَذَا الْأَمْرُ زَمَانُنَا عَارٍ مِنْهُ فِي أَقَالِيمِ الْمَغْرِبِ كُلِّهِ، فَضْلًا عَمَّنْ يَكُونُ قَاضِيًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَالْمَنْعُ مِنْ وِلَايَةِ الْمُقَلِّدِ الْقَضَاءَ فِي هَذَا الزَّمَانِ تَعْطِيلٌ لِلْأَحْكَامِ، وَإِيقَاعٌ فِي الْهَرْجِ وَالْفِتَنِ وَالنِّزَاعِ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْمُقَلِّدِينَ فَرُبَّمَا وَلَّى وُلَاةُ الْأَمْرِ عَامِّيًّا لِغِنَاهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَتَحَلِّيهِ بِاسْمِ الْعَدَالَةِ وَسَمْتِ الْوَقَارِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ مِنْ التَّخْصِيصِ وَمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَمُطَالَبَةِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهْلِ وَيُلْحِقُهُ بِطَبَقَةِ مَنْ يَفْهَمُ مَا تَقُولُ الْخُصُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَلَّى قَضَاءً وَلَا يُوثَقَ بِهِ فِيهِ انْتَهَى
وَكَانَتْ وَفَاةُ الْمَازِرِيِّ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَحَكَى ابْنُ رَاشِدٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَجَازَ تَوْلِيَةَ الْجَاهِلِ وَرَأَى كَوْنَهُ عَالِمًا مُسْتَحَبًّا لَا شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ وَلَا مُوجِبًا لِلْعَزْلِ، وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ بَعِيدٌ عَنْ الصَّوَابِ، وَالْقَاضِي أَحْوَجُ النَّاسِ إلَى الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَا يُقَالُ: إنَّهُ يَسْتَشِيرُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَيَحْكُمُ بِمَا يُجْمِعُونَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَسْتَشِيرَ وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَيْهِ اجْتَهَدَ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَتَوَخَّى أَحْسَنَ أَقَاوِيلِهِمْ، فَإِذَا كَانَ جَاهِلًا الْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِمَاذَا يَأْخُذُ، وَرُبَّمَا وُلِّيَ الْجَاهِلُ بَلَدًا لَا فُقَهَاءَ فِيهِ فَيَحْكُمُ بِهَوَاهُ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى بِلَادِنَا وَزَمَانِنَا، فَقَدْ ذَهَبَ الْعِلْمُ وَكَثُرَ الْجَهْلُ وَقُدِّمَتْ الْجُهَّالُ وَاطَّرَحَتْ الْعُلَمَاءُ - فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ - وَأَمَّا سَلَامَةُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ عِيَاضَ حَكَى فِيهِ الْإِجْمَاعَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ إلَّا مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ قَضَاءُ الْأَعْمَى وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَلَا يَصِحُّ عَنْ مَالِكٍ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى قَضَاءٌ وَلَا ضَبْطٌ وَلَا مَيْزُ مُحِقٍّ مِنْ مُبْطِلٍ وَلَا تَعْيِينُ طَالِبٍ مِنْ مَطْلُوبٍ وَلَا شَاهِدٍ مِنْ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ مِنْ
الْأَعْمَى. وَفِي وَثَائِقِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْجَزِيرِيِّ أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ شَرْطٌ فِي الصِّحَّةِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ.
وَقَالَ ابْنُ شَاسٍ فِي شُرُوطِ الْقَضَاءِ: الْقِسْمُ الثَّانِي مَا يَقْتَضِي عَدَمُهُ الْفَسْخَ وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي الصِّحَّةِ وَذَلِكَ كَاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ سَمِيعًا بَصِيرًا مُتَكَلِّمًا، فَعَدَمُ بَعْضِ هَذِهِ يَقْتَضِي أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدَ سَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ أَضْدَادُهَا عَلَيْهِ أَوْ طَرَأَتْ بَعْدَهُ، وَيَنْفُذُ مَا مَضَى مِنْ أَحْكَامِهِ إلَى حِينِ الْعَزْلِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً حِينَ الْحُكْمِ، فَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ وِلَايَةُ مَنْ فَقَدَ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ مُنْعَقِدَةٌ لَكِنْ يَجِبُ عَزْلُهُ، وَسَوَاءٌ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافُ أَوْ طَرَأَتْ وَيَنْفُذُ مَا مَضَى مِنْ أَحْكَامِهِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اشْتِرَاطُ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمَا الْفَهْمُ غَالِبًا، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إذَا طَرَأَتْ هَاتَانِ الْآفَتَانِ يَعْنِي فَقْدَ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ بَعْدَ الْعَقْدِ هَلْ يَبْطُلُ بِهِ الْعَقْدُ وَيُعْزَلُ أَمْ لَا؟ وَيَبْعُدُ تَأَتِّي الْقَضَاءِ مَعَ اجْتِمَاعِ هَاتَيْنِ الْآفَتَيْنِ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ أَبْكَمُ إلَّا وَهُوَ أَصَمُّ، وَأَمَّا كَوْنُهُ وَاحِدًا فَلَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ اثْنَيْنِ عَلَى أَنْ يَقْضِيَا مَعًا فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَتَعَذُّرِ الِاتِّفَاقِ وَبُطْلَانِ الْأَحْكَامِ لِذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَبَعْضُ هَذِهِ الشُّرُوطِ إذَا عُدِمَتْ فِيمَنْ قُلِّدَ الْقَضَاءَ بِجَهْلٍ أَوْ غَرَضٍ فَاسِدٍ ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ حُكْمٌ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَيُرَدُّ، وَهِيَ الشُّرُوطُ الْخَمْسَةُ الْأُوَلُ: أَعْنِي الْإِسْلَامَ وَالْبُلُوغَ وَالْعَقْلَ وَالذُّكُورِيَّةَ وَالْحُرِّيَّةَ. وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الْأُخَرُ فَيَنْفُذُ مِنْ أَحْكَامِ مَنْ عُدِمَتْ فِيهِ مَا وَافَقَ الْحَقَّ إلَّا الْجَاهِلَ الَّذِي حَكَمَ بِرَأْيِهِ، وَفِي الْفَاسِقِ خِلَافٌ تَقَدَّمَ. وَشُرُوطُ الْكَمَالِ عَشْرَةٌ: خَمْسَةُ أَوْصَافٍ يَنْتَفِي عَنْهَا وَخَمْسَةٌ لَا يَنْفَكُّ مِنْهَا، فَالْأُولَى أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَحْدُودٍ وَغَيْرَ مَطْعُونٍ عَلَيْهِ فِي نَسَبِهِ بِوِلَادَةِ اللِّعَانِ أَوْ الزِّنَا فَإِنْ اسْتَقْضَى وَلَدُ الزِّنَا فَلَا يَحْكُمُ فِي الزِّنَا مِنْ الْمُقْنِعِ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَقِيرٍ وَغَيْرَ أُمِّيٍّ، وَالْمَنْصُوصُ لِلْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ لَا نَصَّ فِي الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ لَا يَكْتُبُ، وَقَالُوا الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الْكَمَالِ وَفِي " الطُّرُرِ " لِأَبِي عُمَرَ بْنِ عَاتٍ فِي آخِرِ الْجُزْءِ الثَّالِثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى شُرُوطِ الْقَضَاءِ: وَاخْتُلِفَ فِي الْأُمِّيِّ فَقِيلَ: إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْقَضَاءَ، وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا يَلْزَمُهُ قِرَاءَةُ الْعُقُودِ وَالْمَقَالَاتِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ غَيْرَهُ، وَنَسَبَهُ إلَى ابْنِ رُشْدٍ فِي شَرْحِهِ لِجَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ.
وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَضْعَفٍ.
وَالْخَمْسَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ فَطِنًا نَزِهًا مَهِيبًا حَلِيمًا مُسْتَشِيرًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ سَلِيمًا مِنْ بِطَانَةِ السُّوءِ لَا يُبَالِي فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَرِعًا بَلَدِيًّا غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وُصِفَ بِذَلِكَ كَانَ النَّاسُ مِنْهُ فِي حَذَرٍ وَهُوَ مِنْ نَفْسِهِ فِي تَعَبٍ، وَقَدْ أَطَالَ النَّاسُ فِي صِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: وَجُمْهُورُ الْمُقَلِّدِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا تَجِدُ عِنْدَهُمْ مِنْ آثَارِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَبِيرَ شَيْءٍ وَإِنَّمَا مُصْحَفُهُمْ مَذْهَبُ إمَامِهِمْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَكْبِرٍ عَنْ مَشُورَةِ مَنْ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرِعًا ذَكِيًّا فَطِنًا، مُتَأَنِّيًا غَيْرَ عُجُولٍ، نَزِهًا عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، عَاقِلًا مَرْضِيَّ الْأَحْوَالِ مُوثَقًا بِاحْتِيَاطِهِ فِي نَظَرِهِ لِنَفْسِهِ فِي دِينِهِ وَفِيمَا حَمَلَ مِنْ أَمْرِ مَنْ وَلِيَ النَّظَرَ لَهُمْ، غَيْرَ مَخْدُوعٍ، وَقُورًا مَهِيبًا عَبُوسًا مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ، حَاكِمًا بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ، لَا يَطَّلِعُ النَّاسُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ وَلَا يَخْشَى فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ حَدِيثٍ لَا فِقْهَ عِنْدَهُ، أَوْ صَاحِبَ فِقْهٍ لَا حَدِيثَ عِنْدَهُ عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالْآثَارِ وَيُوَجِّهُ الْفِقْهَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحُكْمُ. قَالَ سَحْنُونٌ فِي كِتَابِ ابْنِهِ: وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ فَقِيرًا وَهُوَ أَعْلَمُ مَنْ فِي الْبِلَادِ وَأَرْضَاهُمْ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ. وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسَ حَتَّى يَغْنَى وَيَقْضِيَ دَيْنَهُ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ. وَهَذَا مِنْ الْمُصَالَحَةِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا دَعَاهُ فَقْرُهُ إلَى اسْتِمَالَةِ الْأَغْنِيَاءِ وَالضَّرَاعَةِ لَهُمْ وَتَمْيِيزِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِالْإِكْبَارِ إذَا تَخَاصَمُوا مَعَ الْفُقَرَاءِ، فَإِذًا كَانَ غَنِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَنْ رَاقَبَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَانَتْ عُقُوبَتُهُ أَخْوَفَ فِي نَفْسِهِ مِنْ النَّاسِ وَهَبَهُ اللَّهُ السَّلَامَةَ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُتَيَقِّظًا كَثِيرَ التَّحَرُّزِ مِنْ الْحِيَلِ وَمَا يَتِمُّ مِثْلُهُ عَلَى الْمُغَفَّلِ وَالنَّاقِصِ وَالْمُتَهَاوِنِ، وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالشُّرُوطِ عَارِفًا بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَاخْتِلَافِ مَعَانِي الْعِبَارَاتِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعَاوَى وَالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ كِتَابَ الشُّرُوطِ هُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ حُقُوقَ الْمَحْكُومِ لَهُ وَعَلَيْهِ وَالشَّهَادَةُ تُسْمَعُ بِمَا فِيهِ، فَقَدْ يَكُونُ الْعَقْدُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ أَوْ لَا يَصِحُّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ عِلْمٌ بِتَفْصِيلِ ذَلِكَ وَبِمُجْمَلِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ وَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى