الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي نَقْضِ الْقَاضِي أَحْكَامَ غَيْرِهِ]
ِ. وَنَظَرُهُ فِي أَحْكَامِ غَيْرِهِ يَخْتَلِفُ، فَأَمَّا الْعَالِمُ الْعَدْلُ فَلَا يُتَعَرَّضُ لِأَحْكَامِهِ بِوَجْهٍ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّجْوِيزِ لَهَا إنْ عَرَضَ فِيهَا عَارِضٌ بِوَجْهِ خُصُومَةٍ فَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْكَشْفِ لَهَا وَالتَّعَقُّبِ فَلَا، وَإِنْ سَأَلَهُ الْخَصْمُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ خَطَأٌ، وَهَذَا فِيمَا جُهِلَ حَالُهُ مِنْ أَحْكَامِهِ هَلْ وَافَقَ الْحَقَّ أَوْ خَالَفَهُ؟ فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي نَفَى عَنْهُ الْكَشْفَ وَالتَّعَقُّبَ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ خَطَأٌ بَيِّنٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ وَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فَيَرُدُّهُ وَيَفْسَخُهُ عَنْ الْمَحْكُومِ بِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَذْكُرُ الْقَاضِي فِي حُكْمِهِ الْوَجْهَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ حُكْمَهُ، فَيُوجَدُ مُخَالِفًا لِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَيُوجِبُ فَسْخَهُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّهَا عَلِمَتْ قَصْدَهُ إلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ مَا وَقَعَ، وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَقَعَ مِنْهُ سَهْوًا أَوْ غَلَطًا فَيَنْقُضُهُ مَنْ بَعْدَهُ كَمَا يَنْقُضُهُ هُوَ.
وَأَمَّا الْقَاضِي الْعَدْلُ الْجَاهِلُ فَإِنَّ أَقْضِيَتَهُ تُكْشَفُ فَمَا كَانَ مِنْهَا صَوَابًا أُمْضِيَ وَمَا كَانَ مِنْهَا خَطَأً بَيِّنًا لَمْ يُخْتَلَفْ فِي رَدِّهِ.
قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ مِنْ أَحْكَامِهِ مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ حَدْسًا وَتَخْمِينًا، وَالْقَضَاءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كُلِّهِ بَاطِلٌ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ مُحْرِزٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَرَوَى بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ هَذَا مُقَيَّدًا بِمَا إذَا عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُشَاوِرُ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي أَحْكَامِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ لَا يُشَاوِرُهُمْ فَتُنْقَضُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ حِينَئِذٍ بِالْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ. وَهَذَا تَقْيِيدٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ اللَّخْمِيِّ، وَهَكَذَا هُوَ مَنْقُولٌ عَنْ اللَّخْمِيِّ، وَهَذَا قَدْ جَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيْنِ الْجَهْلِ وَالْجَوْرِ لِقِلَّةِ الْمُشَاوَرَةِ.
وَفِي (الْوَثَائِقِ الْمَجْمُوعَةِ) إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُشَاوِرُ فِي أَحْكَامِهِ فَإِنَّهَا تُتَصَفَّحُ، فَمَا كَانَ مِنْهَا مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ نَفَذَ وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ بَلَدِهِ، إلَّا أَنَّهُ وَافَقَ قَوْلَ قَائِلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ لَا يُعْمَلُ بِهِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِذَلِكَ، وَلَا يُفْسَخُ، وَيُفْسَخُ مِنْهَا مَا كَانَ خَطَأً بَيِّنًا.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَأَمَّا الْقَاضِي الْجَائِرُ فِي أَحْكَامِهِ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرَ عَدْلٍ فِي حَالِهِ وَسِيرَتِهِ عَالِمًا كَانَ أَوْ جَاهِلًا ظَهَرَ جَوْرُهُ أَوْ خَفِيَ فَإِنَّ أَقْضِيَتَهُ كُلَّهَا تُرَدُّ صَوَابًا كَانَتْ أَوْ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ حَيْفُهُ، وَأَنْ يَكُونَ
أَظْهَرَ الصَّوَابَ وَالْعَدْلَ فِي قَضَائِهِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَكُونُ بَاطِنُ أَمْرِهِ فِيهِ الْجَوْرُ وَالْحَيْفُ إلَّا مَا عُرِفَ مِنْ أَحْكَامِهِ أَنَّ حُكْمَهُ فِيهِ صَوَابٌ، وَبَاطِنُ أَمْرِهِ كَانَ صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا، وَشَهِدَ بِذَلِكَ مَنْ عَرَفَ الْقَضِيَّةَ وَعَرَفَ كَيْفَ شَهِدَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ يَمْضِي وَلَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّهُ إذَا رُدَّ وَقَدْ مَاتَتْ الْبَيِّنَةُ وَانْقَطَعَتْ الْحُجَّةُ كَانَ ذَلِكَ إبْطَالًا لِلْحَقِّ.
وَقَالَ لِي أَصْبَغُ فِي ذَلِكَ: هَكَذَا سَمِعْت ابْنَ الْقَاسِمِ وَأَصْحَابَنَا يَقُولُونَ، غَيْرَ أَنِّي أَرَى أَقْضِيَةَ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَقُضَاةِ السُّوءِ جَائِزَةً مَا عَدَلَ فِيهِ مِنْهَا وَيُنْقَضُ مِنْهَا مَا تَبَيَّنَ فِيهِ جَوْرُهُ وَاسْتُرِيبَ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِالْكَشْفِ، كَمَا يُصْنَعُ بِأَقْضِيَةِ الْجَاهِلِ، إلَّا أَنْ يُعْرَفَ الْقَاضِي بِالْجَوْرِ وَالْحَيْفِ فِي أَحْكَامِهِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا، فَتُرَدُّ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا مَا عُرِفَ بِالْجَوْرِ فِيهَا أَوْ جَهِلَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ أَصْبَغَ حَيْثُ يَقُولُ: وَتُنْبَذُ أَحْكَامُ الْجَائِرِ.
وَقَالَ أَصْبَغُ: هُوَ كَالْجَاهِلِ؛ لِأَنَّ أَصْبَغَ مُوَافِقٌ عَلَى نَبْذِ أَحْكَامِ الْجَاهِلِ، وَيُفْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقْضِيَةِ الْخُلَفَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَقُضَاةِ السُّوءِ، كَأَنَّهُمْ عِنْدَهُ أَخَفُّ مِنْهُ حَالًا؛ لِأَنَّ الْجَوْرَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَلَا مَعْرُوفٍ، وَلَوْ عُرِفَ لَكَانَ الْحُكْمُ وَاحِدًا.
وَحَكَى ابْنُ رَاشِدٍ فِي غَيْرِ الْعَدْلِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: فَسْخُ أَحْكَامِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُسْتَخْرَجَةِ، وَعَدَمُهُ مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ فِي أَقْضِيَةِ غَيْرِهِ. قِيلَ: فَإِنْ قَامَ عِنْدَهُ قَائِمٌ فَقَالَ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي قَدْ حَكَمَ فِيهِ بِجَوْرٍ بَيِّنٍ، قَالَ: أَرَى أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ حَكَمَ بِجَوْرٍ بَيِّنٍ وَوَجَدَهُ فِي الْقَضَاءِ مُفَسَّرًا مِثْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَقْضِيَ لِلْجَارِ بِالشُّفْعَةِ أَوْ بِالْمِيرَاثِ لِلْعَمَّةِ أَوْ لِلْخَالَةِ، فَأَرَى أَنْ يَفْسَخَهُ، وَأَمَّا إنْ وُجِدَ الْقَضَاءُ مُبْهَمًا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهِ الْجَوْرُ وَالْخَطَأُ الصُّرَاحُ مِثْلُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ شَهِدَتْ عِنْدِي بَيِّنَةٌ فَقَبِلْتهَا، وَرَأَيْت أَنَّ الْحَقَّ لِفُلَانٍ فَقَضَيْت لَهُ بِمَا تَبَيَّنَ لِي، فَلَا أَرَى لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ.
قَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: وَيُحْمَلُ الْقَضَاءُ عَلَى الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْجَوْرُ، وَفِي التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ ضَرَرٌ بِالنَّاسِ وَوَهْنٌ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَخْلُو مِنْ أَعْدَاءٍ يَرْمُونَهُ بِالْجَوْرِ، فَإِذَا مَاتَ أَوْ عُزِلَ قَامُوا يُرِيدُونَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ بِنَقْضِ أَحْكَامِهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَمَا قَالُوهُ بَيِّنٌ إلَّا قَوْلَهُ شَهِدَتْ عِنْدِي بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَقَبِلْتهَا، فَفِيهِ نَظَرٌ.