الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَحْضَرَ كِتَابَ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ وَأَثْبَتَ صُدُورَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ مَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ وَلَا بِمُوجِبِهِ، لِأَنَّ الْوَاقِفَ قَدْ يَأْتِي مَثَلًا بِشُهُودٍ يَشْهَدُونَ عِنْدَ حَاكِمٍ آخَرَ أَنَّ الْحَاكِمَ الْأَوَّلَ حَكَمَ بِمُوجِبِ هَذَا الْوَقْفِ فَيَجْعَلُهُ الْحَاكِمُ الثَّانِي حُكْمًا مِنْ الْأَوَّلِ بِنَفَاذِ الْوَقْفِ، وَلَعَلَّهُ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ، فَعَلَى هَذَا لَا يُجِيبُهُ إلَى الْحُكْمِ بِمُوجِبِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ مِلْكُهُ حِينَ الْوَقْفِ، قَالَ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَيَزِيدُونَ: الْحِيَازَةَ، عَلَى مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَحَلِّهِ، وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ، فَيَنْبَغِي التَّنْبِيهُ لَهُ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِرَاضُ الْوَارِدُ عَلَى الْفَرْقِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفُرُوقِ الْعَشَرَةِ، قَالَ: وَهَذَا عِنْدَ الْحَاكِمِ فِيمَا يُثْبِتُهُ مِنْ صُدُورِ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ أَوْ بِصِيغَةِ اسْمِ الْمَفْعُولِ كَقَوْلِ الشُّهُودِ نَشْهَدُ أَنَّ هَذَا وَقْفٌ أَوْ هَذَا مَبِيعٌ مِنْ فُلَانٍ أَوْ هَذِهِ مَنْكُوحَةُ فُلَانٍ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِمُوجِبِ شَهَادَتِهِمْ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُتَضَمِّنًا لِلْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ وَنَحْوِهِ، فَلْيَعْرِفْ الْفَقِيهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّهَادَةِ بِالْمَصْدَرِ أَوْ بِاسْمِ الْمَفْعُولِ وَلْيَقِسْ عَلَى ذَلِكَ. اهـ.
وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ فِي الْأَمْرِ بِالتَّسْجِيلِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِمُوجَبِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ - أَعْلَمُ.
تَنْبِيهٌ: وَلَمْ أَقِفْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى هَذِهِ التَّفْرِقَةِ، وَظَاهِرُ قَوَاعِدِهِمْ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَنْ الْمَالِكِيَّةِ مَا ذَكَرْته قَبْلُ، وَاسْتَبْعَدَهُ، فَقَالَ: قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ حَتَّى يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْمِلْكُ وَالْحِيَازَةُ، يُرِيدُ إلَى حِينِ صُدُورِ الْوَقْفِ، قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ وَفِيهِ تَعْطِيلٌ لِلْحُقُوقِ، وَالْيَدُ يُكْتَفَى بِهَا فِي الْمُعَامَلَاتِ.
[فَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِمَضْمُونِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ]
ذَكَرَهَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ اسْتِطْرَادًا فِي كَلَامِهِ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ فَقَالَ: وَقَدْ عَرَضَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ بَحْثٌ فِي الْحُكْمِ بِالْمُوجِبِ وَشَغَفَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ، لَقِينَاهُمْ وَعَاصَرْنَاهُمْ وَبَحَثْنَا مَعَهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ أَنَّ الْمُوجِبَ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ مُبْهَمٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الصِّحَّةُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهَا، وَحُكْمُ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَيَّنَ، فَإِذَا لَمْ يُعَيَّنْ فَلَا يَصِحُّ وَلَا يُرْفَعُ الْخِلَافُ، وَلَا يُمْنَعُ الْحُكْمُ مِنْ قَاضٍ يَرَى خِلَافَ ذَلِكَ، وَنَقَضُوا بِهَذَا أَوْقَافًا كَثِيرَةً وَأَحْكَامًا كَثِيرَةً،
وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْهَرَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ عَنْهُ وَمَالَ إلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُكْتَبَ عَلَى ظُهُورِ الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ وَهُوَ صَحَّ وُرُودُ هَذَا الْكِتَابِ عَلَيَّ فَقَبِلْته قَبُولَ مِثْلِهِ، وَأُلْزِمْت الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ لَيْسَ بِحُكْمٍ؛ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ تَصْحِيحُ الْكِتَابِ وَإِثْبَاتُ الْحُجَّةِ، قَالَ وَاَلَّذِي وَقَفْت عَلَيْهِ فِي كِتَابِ أَبِي سَعِيدٍ وَأُلْزِمْت الْعَمَلَ بِمَضْمُونِهِ لَا بِمُوجِبِهِ.
قَالَ: وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا فَنَقُولُ إذَا أَعَدْنَا الضَّمِيرَ عَلَى الْكِتَابِ صَحَّ مَا قَالَاهُ؛ لِأَنَّ مَضْمُونَ الْكِتَابِ وَمُوجِبَهُ مَعْنَاهُمَا صُدُورُ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ إنْشَاءٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْدٍ فَلِذَلِكَ صَوَّبَ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، إذَا أُرِيدَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ هَذَا الْمَعْنَى، أَوْ اُحْتُمِلَ أَنَّهَا مُرَادُ الْحَاكِمِ، أَمَّا إذَا حَكَمَ بِمُوجِبِ الْإِقْرَارِ أَوْ بِمُوجِبِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ مُوجِبُهُ إلَّا كَوْنَهُ وَقْفًا، وَكَوْنُ الْمُقِرِّ بِهِ لَازِمًا، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مُوجِبُهُ يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ حُكْمَهُ وَاللَّفْظَ الْفَاسِدَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ لَفْظٌ يَحْتَمِلُ مُوجِبَيْنِ فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُبَيِّنَ فِي حُكْمِهِ مَا أَرَادَهُ، وَإِبْهَامُ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، إلَّا أَنْ يَخْشَى مِنْ ظَالِمٍ وَنَحْوِهِ يُرِيدُهُ فَيَكْتُبَ لَهُ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِمُوجِبِهِ أَوْ مَضْمُونِهِ، وَمُرَادُهُ إعَادَةُ الضَّمِيرِ فِي مُوجِبِهِ وَمَضْمُونِهِ عَلَى الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَفْعَلُ ذَلِكَ مُدَافَعَةً لَهُ، فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ مُرَادِهِ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ، وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا يُحْمَلُ حُكْمُ الْقَاضِي إلَّا عَلَى الْبَيَانِ الْوَاضِحِ، وَمَتَى حَصَلَ التَّرَدُّدُ فِي مُوجِبِ اللَّفْظِ مِثْلُ الْهِبَةِ هَلْ مُجَرَّدُ الْقَوْلِ فِيهَا يَكْفِي فِي اللُّزُومِ وَنَقْلِ الْمِلْكِ أَوْ لَا يَكْفِي؟ . حَتَّى يَكُونَ الْوَاجِبُ صَحِيحًا حَائِزًا.
وَمِثْلُ التَّبَرُّعِ فِي الطَّاعُونِ هَلْ يَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَالَ الْقَاضِي حَكَمْت بِمُوجِبِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ هَذَا الْحُكْمُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ يُرْجَعُ إلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي فَيُحْمَلُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَصُونَ حُكْمَهُ عَنْ ذَلِكَ وَيُبَيِّنَ مَقْصُودَهُ، ثُمَّ قَالَ وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَكَلَامُنَا إذَا حَكَمَ بِمُوجِبِ وَقْفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إقْرَارٍ وَنَحْوِهِمَا فَهُوَ حُكْمٌ عَلَى الْعَاقِدِ بِمُقْتَضَى إقْرَارِهِ، وَلَيْسَ لِحَاكِمٍ آخَرَ نَقْضُهُ لِاقْتِضَاءِ مَذْهَبِهِ بُطْلَانَهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَقْضَ الِاجْتِهَادِ بِالِاجْتِهَادِ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ أَنْ يَحْكُمَ بِالثُّبُوتِ وَحَقِيقَتُهُ حُكْمٌ بِتَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ وَسَمَاعِهَا، وَفَائِدَتُهَا عَدَمُ احْتِيَاجِ حَاكِمٍ آخَرَ إلَى النَّظَرِ فِيهَا وَجَوَازِ التَّنْفِيذِ فِي الْبُلْدَانِ فَإِنَّ فِي تَنْفِيذِ الثُّبُوتِ فِي الْبَلَدِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِهِ بِحُكْمٍ خِلَافًا، فَإِذَا صَرَّحَ بِالْحُكْمِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ جَازَ التَّنْفِيذُ فَهُمَا فَائِدَتَانِ، قَالَ: وَقَدْ تَوَسَّعَ
بَعْضُ قُضَاةِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَعَمَدَ إلَى أَوْقَافٍ وَقَفَهَا وَاقِفُونَ وَاسْتَمَرَّتْ فِي أَيْدِيهِمْ يَصْرِفُونَهَا عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ ثُمَّ بِأَيْدِي نُظَّارِهَا بَعْدَهُمْ كَذَلِكَ مُدَّةَ مِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَأَبْطَلَهَا، وَرَدَّهَا إلَى مِلْكِ وَرَثَةِ الْوَاقِفِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى الْيَدِ الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى حُكْمِ الْوَقْفِ، وَلَا إلَى سُكُوتِ الْوَارِثِينَ وَوَارِثِيهِمْ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِذَلِكَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْحَوْزِ إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ وَامْتِنَاعُ الدَّعْوَى مَعْرُوفٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا هُنَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ تِلْكَ الْأَوْقَافُ قَدْ ثَبَتَتْ عِنْدَ حَاكِمٍ فَيَتَعَلَّقُ فِي إبْطَالِهَا بِعَدَمِ الْحَوْزِ، وَبِأَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ بِحُكْمٍ وَرُبَّمَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ الثُّبُوتِ حُكْمٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَقُلْ:" حَكَمْت بِصِحَّتِهِ " فَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْإِبْطَالِ إلَّا حُكْمُ حَاكِمٍ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ، قَالَ: وَأَنَا أَذْكُرُهَا هُنَا قَاعِدَةً فَأَقُولُ: الْقَاضِي الْمُعْتَبَرُ حُكْمُهُ تَارَةً يَقْتَصِرُ عَلَى الثُّبُوتِ وَتَارَةً يُضِيفُ إلَيْهِ حُكْمًا أَوْ يَذْكُرُ الْحُكْمَ مُجَرَّدًا، وَمِنْ لَوَازِمِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَقَدَّمَهُ ثُبُوتٌ. فَالْحَالَةُ الْأُولَى، وَهِيَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى الثُّبُوتِ فَتَارَةً يُضِيفُ الثُّبُوتَ إلَى السَّبَبِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْحُكْمُ، وَتَارَةً يُضِيفُ الثُّبُوتَ إلَى الْحُكْمِ نَفْسِهِ فَهُمَا قِسْمَانِ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى السَّبَبِ كَإِثْبَاتِ جَرَيَانِ عَقْدِ الْوَقْفِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ أَوْ النِّكَاحِ وَنَحْوِهَا هَذَا غَالِبُ مَا يَقَعُ مِنْ الثُّبُوتِ، وَقَدْ يَقُولُ الْقَاضِي: ثَبَتَ عِنْدِي قِيَامُ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الْعُقُودِ أَوْ ثَبَتَ عِنْدِي الْإِقْرَارُ بِهَا أَوْ بِالدَّيْنِ مَثَلًا، فَالْبَيِّنَةُ وَالْإِقْرَارُ لَيْسَا بِسَبَبَيْنِ لِلْحُكْمِ، بَلْ لِأَسْبَابِهِ، يَعْنِي أَنَّهُمَا سَبَبَانِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ لَا لِلْحَاكِمِ بِحَقِيقَةِ ثُبُوتِ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ تَزْكِيَتُهَا وَقَبُولُهَا، وَقَدْ تَرَدَّدَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ أَوْ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ حُكْمٌ، وَلَا يُتَّجَهُ فِي مَعْنَى كَوْنِهِ إلَّا أَنَّهُ حُكْمٌ بِتَعْدِيلِ الْبَيِّنَةِ وَقَبُولِهَا وَجَرَيَانِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَأَمَّا صِحَّتُهُ أَوْ الْإِلْزَامُ بِشَيْءٍ فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِلْزَامُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ سِرَاجُ الدِّينِ فَقَالَ: وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ، قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الثُّبُوتَ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُثْبِتَ بَاطِلًا لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «إنِّي لَا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ قَدْ يُثْبِتُ الشَّيْءَ؛ لِيَنْظُرَ كَوْنَهُ صَحِيحًا أَوْ بَاطِلًا، وَقَدْ يُثْبِتُ الشَّيْءَ الْبَاطِلَ.
وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: إنَّهُ قَدْ يُثْبِتُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ؛ لِيَنْظُرَ غَيْرَهُ فِيهِ. أَمَّا إثْبَاتُ مَا يَعْتَقِدُ بُطْلَانَهُ لَا لِقَصْدِ الْإِبْطَالِ وَلَا لِيَنْظُرَ غَيْرَهُ فِيهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: وَالْحَقُّ الصَّحِيحُ أَنَّ الثُّبُوتَ لَيْسَ حُكْمًا بِالثَّابِتِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا بِثُبُوتِهِ يَعْنِي لِجَرَيَانِ الْعَقْدِ وَصُدُورِهِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي (الْفَرْقِ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْحُكْمِ) وَقَدْ يَقَعُ فِي لَفْظِ الْحُكَّامِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِمَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ (فَمَا) إنْ كَانَتْ مَصْدَرِيَّةً فَهُوَ كَقَوْلِهِ بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً وَهُوَ الظَّاهِرُ فَهُوَ كَإِثْبَاتِ جَرَيَانِ الْعُقُودِ الْمَشْهُودِ بِهَا، وَجَعَلَ الثُّبُوتَ حُكْمًا فِيمَا إذَا كَانَ الثَّابِتُ هُوَ الْمَعْقُودَ أَقْوَى مِنْهُ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّابِتُ قِيَامَ الْبَيِّنَةِ، وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: ثَبَتَ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ، وَقَدْ يُرَجَّحُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الثُّبُوتَ إلَى الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ وَقْفٌ أَوْ مِلْكُ فُلَانٍ، أَوْ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ زَوْجَةُ فُلَانٍ، فَهَذَا مِثْلُ الْحُكْمِ، فَلَا يُمْكِنُ التَّعَرُّضُ لِنَقْضِهِ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ جَرَيَانُ عَقْدٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، كَقَوْلِ الْحَنَفِيِّ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّ هَذِهِ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الثُّبُوتَ حُكْمٌ أَوْ لَا، وَيَقْوَى جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ. فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ حُكْمٌ امْتَنَعَ عَلَى حَاكِمٍ آخَرَ إبْطَالُهُ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ لَا يَمْتَنِعُ، وَمَنْ يَقُولُ بِنَقْضِ حُكْمِ الْقَاضِي بِلَا وَلِيٍّ لَمْ يَمْتَنِعْ عِنْدَهُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ الْقَاضِي بِبَيَانِ السَّبَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ ثَبَتَ عِنْدِي أَنَّهَا زَوْجَةٌ وَعَلِمَ بِبَيِّنَةٍ أُخْرَى أَنَّ مُسْتَنَدَهُ تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ صَعْبٌ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ جَاءَ وَلِيُّهَا فَجَدَّدَ عَقْدَهَا بِحُضُورِهِ فِي غَيْبَةِ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِالثُّبُوتِ الْمُطْلَقِ، وَبِتَزْوِيجِهِ نَفْسَهَا وَإِنْ كَانَ احْتِمَالًا بَعِيدًا.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقْتَرِنَ بِالثُّبُوتِ حُكْمٌ وَأَلْفَاظُ الْحُكْمِ مُتَعَدِّدَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهَا وَسَيَأْتِي ذِكْرُ مَا بَقِيَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ لَا سَبِيلَ إلَى نَقْضِهِ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ، فَمَتَى كَانَ فِي مَحَلٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ اخْتِلَافًا قَرِيبًا لَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي، وَلَمْ يَكُنْ بَنَاهُ عَلَى سَبَبٍ بَاطِلٍ لَمْ يُنْقَضُ بِحَالٍ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ فِي ذَلِكَ إذَا صَرَّحَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ، هَذَا فِيمَا إذَا حَكَمَ بِالصِّحَّةِ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْمُوجِبِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ، فَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثُّبُوتِ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحُكْمِ بِالثُّبُوتِ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الثَّابِتِ عِنْدَهُ فَهُوَ مَاضٍ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا يُحْكَمُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ مِنْ إيجَابٍ أَوْ مَنْعٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَإِذَا قَالَ: حَكَمْت بِأَنَّ هَذَا بَاعَ أَوْ وَهَبَ أَوْ وَقَفَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَمَعْنَاهُ حَكَمْت بِأَنَّهُ ثَبَتَ
عِنْدِي ذَلِكَ، فَيَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحُكْمِ بِالثُّبُوتِ، وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحُكْمِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ. قَالَ: وَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ فِي إسْجَالَاتِ الْحُكَّامِ لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ، وَالْحُكْمِ بِهِ وَالضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهُوَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْهَا، وَمِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ غَيْرِ الْفَائِدَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحُكْمِ بِالثُّبُوتِ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَمْتَنِعُ عَلَى حَاكِمٍ آخَرَ نَقْضُهُ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ تِلْكَ التَّصَرُّفَاتِ إنْشَاءً كَانَ أَوْ إقْرَارًا، أَوْ لَا يَمْتَنِعُ النَّقْضُ؟ . فِيهِ تَفْصِيلٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَطْلَقَ الْبَيْعَ أَوْ نَحْوَهُ أَوْ ذَكَرَ صِيغَتَهُ وَشُرُوطَهُ وَكَيْفَ وَقَعَ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْكُتُبِ فَيُمْنَعُ نَقْضُهُ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِوُقُوعِ ذَلِكَ الْإِنْشَاءِ أَوْ الْإِقْرَارِ، وَالْأَلْفَاظُ الشَّرْعِيَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ تُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا قَيَّدْت بِقَوْلِي: " لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ " احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يُنْقَضَ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْعَاقِدِ أَوْ لِعَدَمِ شُرُوطِ مَحَلِّهِ حَيْثُ لَا يُطْلَقُ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى التَّصَرُّفِ الْمَعْهُودِ، كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي الْكُتُبِ الْحُكْمِيَّةِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ إذَا قَالَ ثَبَتَ عِنْدِي الْبَيْعُ أَوْ الْوَقْفُ وَنَحْوُهُمَا، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا قَالَ " لِيُسَجِّلَ بِثُبُوتِهِ وَالْحُكْمِ بِهِ، فَالْمُرَادُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ الْمَشْرُوحُ فِي الْكِتَابِ، فَقَدْ يَكُونُ صَحِيحًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخْتَلَفًا فِيهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُهُ فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَيْسَ لِلْقَاضِي إثْبَاتُهُ، إلَّا إذَا قَصَدَ إبْطَالَهُ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ كَوْنُهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ، فَإِنَّ لِمَنْ يَرَى صِحَّتَهُ أَنْ يُثْبِتَهُ وَيَحْكُمَ بِثُبُوتِهِ وَبِصِحَّتِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، فَإِنْ حَكَمَ بِالثُّبُوتِ فَلَا يُنْقَضُ، وَإِنْ أَثْبَتَ ثُبُوتًا مُجَرَّدًا فَلِغَيْرِهِ نَقْضُهُ، وَكَذَا إنْ حَكَمَ بِالثُّبُوتِ فَلَيْسَ لِمَنْ يَرَى فَسَادَهُ أَنْ يُثْبِتَهُ إلَّا لِغَرَضِ إبْطَالِهِ يُرِيدُ أَوْ لِيَنْظُرَ غَيْرُهُ فِيهِ، كَمَا لَوْ مَاتَتْ شُهُودُ الْكِتَابِ فَأَثْبَتَهُ الْمَالِكِيُّ بِالْخَطِّ لِيَنْظُرَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ قَالَ: وَإِذَا رَأَيْنَا حَاكِمًا أَثْبَتَهُ أَوْ حَكَمَ بِثُبُوتِهِ وَلَمْ نَعْلَمْ قَصْدَهُ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَّضِحْ لَهُ حُكْمٌ.