الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَكْتُبَ لِأَحَدٍ مُبَايَعَةً إلَّا بَعْدَ أَنْ يُحْضِرَ كُتُبَهَا، فَإِنْ شَهِدَتْ بِصِحَّةِ مَا يَطْلُبُ كِتَابَتَهُ بِانْتِقَالِهَا إلَيْهِ بِشِرَاءٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَتَبَ، وَكَذَلِكَ كُتُبُ الْإِجَارَةِ، وَمَتَى لَمْ يُحْضِرْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَكْتُبْ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مَعْرُوفًا مَشْهُورًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا، وَادَّعَى أَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُهُ، وَإِنَّ كُتُبَهُ ضَاعَتْ فَلْيَحْتَرِزْ فَإِنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ، فَقَدْ يَبِيعُ الْإِنْسَانُ مِلْكَ غَيْرِهِ وَيَشْهَدُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَيَتَسَمَّى بِاسْمِ صَاحِبِ الْمِلْكِ وَيُؤَخِّرُ الْمُشْتَرِيَ بِالْقِيَامِ بِالشِّرَاءِ، حَتَّى يَطُولَ الزَّمَانُ قَلِيلًا، أَوْ يَمُوتَ صَاحِبُ الْمِلْكِ، فَيَدَّعِي عَلَى وَرَثَتِهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الضَّرَرِ.
فَيَنْبَغِي إذَا ادَّعَى ضَيَاعَ الْكُتُبِ أَنْ يُحْضِرَ جَمَاعَةً يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْمِلْكِ وَلَوْ عَمِلَ بِذَلِكَ مَحْضَرًا وَشَهِدَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَأَثْبَتَ عَلَى الْحَاكِمِ كَانَ أَجْوَدَ، وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ بِيعَتْ أَمْلَاكُ النَّاسِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ.
[فَصْلٌ كَاتِبُ الْوَثَائِقِ إذَا كَتَبَ الْمُبَايَعَةَ]
وَإِذَا كَتَبَ الْمُبَايَعَةَ فَلْيُحَدِّدْ الْمَكَانَ، وَلْيَذْكُرْ الْجُدْرَانَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ وَالْمُشْتَرَكَةَ، وَطُرُقَهُ وَمَدْخَلَهُ وَيَذْكُرْ مَحَلَّهُ مِنْ الْبَلَدِ، وَيَنْبَغِي لِلْكَاتِبِ إذَا سَافَرَ إلَى جِهَةٍ لَا يَعْرِفُ اصْطِلَاحَ أَهْلِهَا أَنْ لَا يَتَصَدَّى لِلْكِتَابَةِ بَيْنَ أَهْلِهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ سُنَّتَهُمْ وَمَذْهَبَهُمْ وَنَقُودَهُمْ وَمِكْيَالَهُمْ، وَأَسْمَاءَ الْأَصْقَاعِ وَالطُّرُقِ وَالشَّوَارِعِ، فَبِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ يَتِمُّ لَهُ الْأَمْرُ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ اسْمَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] .
[فَصْلٌ فِي أُجْرَةِ الْكَاتِبِ]
وَفِي التَّنْبِيهِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى كَتْبِ الْوَثَائِقِ، فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ، وَيَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] ؛ وَلِأَنَّ مَنْ اُسْتُبِيحَ عَمَلُهُ وَكَذَا خَاطِرُهُ، كُلَّمَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ إنْسَانٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ وَيَسْتَغْرِقُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا غَايَةُ الضَّرَرِ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْأَخْذِ عَلَى الْكِتَابَةِ فَالْأَوْلَى لِمَنْ قَدَرَ وَاسْتَغْنَى التَّنَزُّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَاحْتِسَابُ عَمَلِهِ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَخْذِ الْأُجْرَةِ، فَنَقُولُ: وَجْهُ الْإِجَارَةِ أَنْ تُسَمَّى الْأُجْرَةُ وَيُعَيَّنُ الْعَمَلُ، فَإِنْ وَافَقَ
الْكَاتِبُ الْمَكْتُوبَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَجَاءَ الْكِتَابُ عَلَى مَا اتَّفَقَ مَعَهُ عَلَيْهِ فَهِيَ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ.
وَتَجُوزُ بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، مَا لَمْ يَكُنْ الْمَكْتُوبُ لَهُ مُضْطَرًّا إلَى الْكَاتِبِ، إمَّا لِكَوْنِ ذَلِكَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ؛ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَقُومُ بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ الْمُسَامَحَةُ، وَلَا يَرْفَعُ عَلَى النَّاسِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّ لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَرُورَتِهِمْ إلَيْهِ، فَإِنْ فَعَلَ فَهِيَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ، أَمَّا إنْ لَمْ يُوَافِقْ الْكَاتِبُ الْمَكْتُوبَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ فَهَاهُنَا نَظَرٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَالِبُ كِتَابَاتِ النَّاسِ الْيَوْمَ، لِأَنَّ الْمُوَثِّقِينَ يَتَعَفَّفُونَ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْحَيَاءِ وَالْمُرُوءَةِ، وَلِئَلَّا يَتَنَزَّلُوا مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ فِي الْمُكَايَسَةِ وَالْمُشَاحَّةِ، وَهَذَا غَرَضٌ حَسَنٌ وَمَذْهَبٌ جَمِيلٌ، إنْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ يَقْنَعُ بِمَا أُعْطِيَ عَلَى عَمَلِهِ بَعْدَ إكْمَالِهِ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مِنْ الْمُشَاحَّةِ حِينَئِذٍ مَا هُوَ أَقْبَحُ حَالًا مِمَّا لَوْ ابْتَدَأَ الْمُشَارَطَةَ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يُسَمَّى إجَارَةً حَقِيقِيَّةً؛ لِأَنَّ مَا يُعَاوَضُ بِهِ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْكَاتِبِ؛ لِأَنَّ عَطَاءَ النَّاسِ مُخْتَلِفٌ بِحَسَبِ أَقْدَارِهِمْ وَمَبْلَغِ مُرُوآتِهِمْ.
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْكَاتِبِ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ الْمُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إلَّا الْمُعَاوَضَةَ عَلَى عَمَلِهِ، وَأَنْ يُثَابَ عَلَى ذَلِكَ فَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى طَلَبِ الثَّوَابِ مِنْ الْمَكْتُوبِ لَهُ بِحَسَبِ مَا أَدَّتْهُ مُرُوءَتُهُ إلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُكَارَمَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْمُكَايَسَةِ وَالْمُشَاحَّةِ، وَذَلِكَ أَصْلُ هِبَةِ الثَّوَابِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَكْتُوبُ لَهُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ لَزِمَهُ قَبُولُ ذَلِكَ. وَإِنْ أَعْطَاهُ أَقَلَّ فَالْكَاتِبُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقَبُولِ أَوْ اسْتِرْجَاعِ مَا عَمِلَهُ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ حَقٌّ لِلْمَكْتُوبِ لَهُ لَا يُمْكِنُ مَعَهُ اسْتِرْجَاعُ الْكِتَابِ؛ لِكَوْنِهِ تَضَمَّنَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ أَوْ ثَبَتَ فِيهِ حَقٌّ فَيَكُونُ ذَلِكَ فَوْتًا، وَيُجْبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أُجْرَةِ الْمِثْلِ كَمَا يُفْعَلُ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنَاصِفِ: وَعَلَى مِثْلِ هَذَا يَجْرِي الْأَمْرُ عِنْدِي فِي كُلِّ مَنْ تَبَرَّعَ مِنْ الْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ بِعَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ عَلَيْهِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَيُحْمَلُ مَحْمَلَ هِبَةِ الثَّوَابِ، وَإِلَّا بَطَلَ وَفَسَدَ. انْتَهَى. وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنَاصِفِ مِنْ اسْتِرْجَاعِ الْكِتَابِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْكَاتِبُ وَاحِدًا قَدْ قَصُرَتْ الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ فَالْمَكْتُوبُ لَهُ لَا يَجِدُ