الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَسْأَلَةٌ: وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ لِوَصِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُنَاوِلَ الْمِسْكِينَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِالْكِسْرَةِ وَخَلَقِ الثَّوْبِ وَالْفُلُوسِ، أَوْ يَمُرُّ بِهِ سَائِلٌ وَهُوَ فِي حَائِطِهِ أَوْ فِي حَرْثِهِ فَيُنَاوِلَهُ الثَّمَرَاتِ وَالْقَبْضَةَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرْبَةَ مِنْ اللَّبَنِ، هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ حَسَنٌ تُرْجَى بَرَكَةُ ذَلِكَ لِلْيَتِيمِ وَلِمَالِهِ مِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ لِفَضْلِ بْنِ سَلَمَةَ.
[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي سِيرَتِهِ مَعَ الْخُصُومِ]
وَيَنْبَغِي لَهُ أُمُورٌ: مِنْهَا أَنَّهُ إذَا حَضَرَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَهُمَا فِي النَّظَرِ إلَيْهِمَا وَالتَّكَلُّمِ مَعَهُمَا مَا لَمْ يَتَعَدَّ أَحَدُهُمَا، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسُوءَ نَظَرُهُ إلَيْهِ تَأْدِيبًا لَهُ وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ عَالِيًا لِمَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ اللَّدَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا إذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ فَعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَحُضُّهُمَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُحَاكَمَةِ عَلَى التُّؤَدَةِ وَالْوَقَارِ وَيُسَكِّنُ جَأْشَ الْمُضْطَرِبِ مِنْهُمَا، وَيُؤَمِّنُ رَوْعَ الْخَائِفِ وَالْحَصِرِ فِي الْكَلَامِ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ وَلْيُقْعِدْهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ضَعِيفَيْنِ كَانَا أَوْ قَوِيَّيْنِ أَوْ ضَعِيفًا مَعَ قَوِيٍّ، وَلَا يُقَرِّبُ أَحَدَهُمَا إلَيْهِ وَلَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ دُونَ خَصْمِهِ، وَلَا يَمِيلُ إلَى أَحَدِهِمَا بِالسَّلَامِ فَيَخُصُّهُ بِهِ وَلَا بِالتَّرْحِيبِ، وَلَا يَرْفَعُ مَجْلِسَهُ وَلَا يَسْأَلُ أَحَدَهُمَا عَنْ حَالِهِ وَلَا عَنْ خَبَرِهِ، وَلَا عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِمَا فِي مَجْلِسِهِمَا ذَلِكَ، وَلَا يُسَارِرْهُمَا جَمِيعًا وَلَا أَحَدَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجَرِّئُهُمَا عَلَيْهِ وَيُطْمِعُهُمَا فِيهِ، وَمَا جَرَّ إلَى التَّهَاوُنِ بِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَمْنُوعٌ، وَأَجَازَ أَشْهَبُ أَنْ يُسَارِرَهُمَا جَمِيعًا فِي السِّرِّ، وَلَا يَكْتُبَ إلَيْهِمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا مَا دَامَتْ الْخُصُومَةُ، إلَّا أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِي الْكِتَابِ، أَمَّا إذَا كَانَ السِّرُّ فِي خُصُومَتِهِمَا فَيُكْرَهُ عِنْدَ أَشْهَبَ أَيْضًا، وَلَوْ جَمَعَهُمَا فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِعْلَانِ وَذَلِكَ مِمَّا يُوهِنُ الْحُكْمَ وَيُضْعِفُ نَفْسَ الْآخَرِ وَيُوهِنُهُ وَيُوقِعُ الْمَظِنَّةَ بِالْقَاضِي، وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ خَصْمَانِ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ يَقُولَ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، فَإِنْ زَادَ أَحَدُهُمَا فِي ذَلِكَ لَمْ يَزِدْ الْقَاضِي عَلَى رَدِّ السَّلَامِ شَيْئًا مِنْ الطُّرَرِ.
قَالَ أَصْبَغُ فِي الْوَاضِحَةِ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا فَإِنْ أَبَى ذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَهُوَ الطَّالِبُ فَلَا يَحْكُمُ لَهُ وَلَا يَنْظُرُ فِي أَمْرِهِ حَتَّى يَتَسَاوَيَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَرْضَى بِالْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَطْلُوبُ قَالَ الْقَاضِي لِلْمُسْلِمِ إمَّا
تُسَاوِيهِ فِي الْمَجْلِسِ وَإِلَّا نَظَرْت لَهُ وَسَمِعْت مِنْهُ وَلَمْ أَلْتَفِتْ إلَيْك وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْك، فَإِنْ فَعَلَ نَظَرَ لَهُ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمُتَيْطِيُّ: وَقِيلَ لَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «لَا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجْلِسِ» قَالَ الْمَازِرِيُّ وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ أَشْيَاخِي تَمْيِيزَ رُتْبَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ «لِنَهْيِهِ عليه الصلاة والسلام أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي الْمَجَالِسِ» ، وَذَكَرَ أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه خَاصَمَ يَهُودِيًّا عِنْدَ الْقَاضِي شُرَيْحٍ فَجَلَسَ عَلِيٌّ رضي الله عنه فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ وَجَلَسَ شُرَيْحٌ وَالذِّمِّيُّ دُونَهُ.
وَقَالَ عَلِيٌّ لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ مُسَاوَمَتِهِمْ فِي الْمَجَالِسِ لَجَلَسْت مَعَهُ، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ وَأَرَى أَنْ يَجْلِسَا جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَتَقَدَّمَهُ الْمُسْلِمُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ اللَّخْمِيُّ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ مُطَرِّفُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ لَا فِي مَجْلِسِ قَضَائِهِ وَلَا فِي خَلْوَتِهِ وَلَا فِي جَمَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ خَاصًّا حَتَّى تَنْقَضِيَ خُصُومَتُهُمَا، إلَّا أَنْ يَجْلِسَ خَارِجًا فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يَجْلِسُ النَّاسُ مَعَهُ فِيهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ قَضَائِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْلِسَ فِيهِ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إنْ شَاءَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضِيفَ أَحَدَهُمَا أَوْ يَخْلُوَ مَعَهُ أَوْ يَقِفَ مَعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيْهِ سُوءَ الظَّنِّ بِهِ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْسَانَ إلَى أَحَدِهِمَا وَصَلَهُ حَيْثُ هُوَ إلَّا أَنْ يُضِيفَ الْخَصْمَيْنِ جَمِيعًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجِيبَ أَحَدَهُمَا فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ لَهُ اللَّدَدُ مِنْ الْخَصْمِ الْغَائِبِ أَوْ لَا يَعْرِفُ وَجْهَ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ قَالَهُ الْمُتَيْطِيُّ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يُلَقِّنَ أَحَدَهُمَا حُجَّةً عَمِيَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَهُ حُجَّةَ الْفُجُورِ. وَصُورَةُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ لِخَصْمِهِ يَلْزَمُك عَلَى قَوْلِك كَذَا وَكَذَا فَيَفْهَمُ خَصْمُهُ حُجَّتَهُ، وَلَا يَقُولُ لِمَنْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ: قُلْ لَهُ كَذَا.
وَقَالَ أَشْهَبُ لِلْقَاضِي أَنْ يَشُدَّ عَضُدَ أَحَدِهِمَا إذَا رَأَى مِنْهُ ضَعْفًا أَوْ يَرَاهُ يَخَافُهُ لِيَنْشَطَ وَيَنْبَسِطَ أَمَلُهُ فِي الْإِنْصَافِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْحَكَمِ: لَا بَأْسَ أَنْ يُلَقِّنَهُ حُجَّةً لَا يَعْرِفُهَا، وَخَالَفَ سَحْنُونٌ أَشْهَبَ وَابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ فِيمَا قَالَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي تَنْبِيهُ كُلِّ خَصْمٍ عَلَى تَقْيِيدِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ قَوْلِ خَصِيمِهِ إنْ غَفَلَ وَلَا يُنَبِّهُ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ مِنْ " مُفِيدِ الْحُكَّامِ "، وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ فَلْيَقُلْ لِخَصْمِهِ هَاتِ قِرْطَاسَكَ أَكْتُبُ لَك قَوْلَهُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ، وَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ بِجَمِيعِ الْخُصُومِ.
وَمِنْهَا فِي " مَعِينِ الْحُكَّامِ " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَارِثٍ فِي مُحَاضَرَةٍ: يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَقُولَ لِلطَّالِبِ: مِنْ أَيْنَ وَجَبَ لَك مَا ادَّعَيْت؟ ، فَإِنْ قَالَ مِنْ سَلَفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ ضَمَانٍ لَمْ يُكَلِّفْهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى، يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُكَلِّفُهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ كَيْفَ كَانَ عَقْدُ السَّلَفِ، وَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ، أَوْ كَيْفَ كَانَ عَقْدُ الْبَيْعِ، وَزَادَ ابْنُ رَاشِدٍ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْ ابْنِ حَارِثٍ قَالَ، وَإِذَا ذَكَرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ وَلَمْ يَكْشِفْ عَنْ وَجْهِ ذَلِكَ فَتِلْكَ غَفْلَةٌ مِنْهُ أَوْ جَهْلٌ يُوَجَّهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَبْهَمَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَجْهٍ لَا يَحِلُّ، فَيَكُونُ الْقَاضِي بِتَرْكِ ذَلِكَ كَالْخَابِطِ خَبْطَ عَشْوَاءَ يَعْنِي فِي الْأُمُورِ عَلَى رَأْيِ أَهْلِهَا وَهُمْ الْجُهَّالُ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ حَلَالًا وَلَا حَرَامًا، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لِلْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ الْمَطْلُوبَ.
وَفِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي ذِكْرِ الدَّعَاوَى فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ كَلَامِ الْمَازِرِيِّ فَتَأَمَّلْهُ مَعَ هَذَا، قَالَ ثُمَّ يَقُولُ الْقَاضِي لِلْمَطْلُوبِ أَجِبْهُ فَإِنْ أَبَى أَنْ يُجِيبَهُ جَوَابًا مُفَسَّرًا اضْطَرَّهُ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَ: دَعْنِي أَتَثَبَّتُ وَأَتَفَكَّرُ فَمَا تَفَكَّرْتَهُ أَجَبْت بِهِ، فَمِنْ حَقِّهِ أَنَّ الْقَاضِي يُمْهِلُهُ لِذَلِكَ وَيَضْرِبُ لَهُ فِيهِ أَجَلًا غَيْرَ بَعِيدٍ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَ الْخُصُومِ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيُقَدِّمُ الْمُسَافِرِينَ وَالْمَضْرُورِينَ وَمَنْ لَهُ مُهِمٌّ يَخَافُ فَوَاتَهُ، فَإِنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَأْمُرُ مَنْ يَكْتُبُ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى تَرْتِيبِ وُصُولِهِمْ وَيَدْعُو الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، قَالَ الْمَازِرِيُّ وَإِذَا قُلْنَا: إنَّهُ يَبْدَأُ بِالْأَسْبَقِ فَالْأَسْبَقِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْأَوَّلَ يُقَدَّمُ فِي خِصَامِهِ مَعَ وَاحِدٍ فَقَطْ لَا فِي سَائِرِ مَطَالِبِهِ مَعَ خُصُومِهِ. قَالَ: وَهَذَا عِنْدِي مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنْ سَبَقَ بِخَصْمَيْنِ سَائِرَ الْمُتَخَاصِمِينَ فَفَرَغَ مِنْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَ الْآخَرَ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَطُولُ وَلَا يَضُرُّ بِالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ خَاصَمَ الْأَوَّلَ وَطَالَ خِصَامُهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَقِّ الَّذِينَ أَتَوْا بَعْدَهُ أَنْ يَمْنَعُوهُ، وَرُبَّمَا كَانَ خِصَامُ الِاثْنَيْنِ كَخِصَامِ وَاحِدٍ تَطُولُ مَعَهُ مُخَاصَمَتُهُ.
وَمِنْهَا: إذَا قَرَّرَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ أَلْزَمَهُ الْجَوَابَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ الْإِنْكَارِ بِأَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْجَوَابِ أَمَرَ الْقَاضِي بِضَرْبِهِ بِالدِّرَّةِ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى يُجِيبَ. وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي فَصْلٍ يَخْتَصُّ بِهِ.
وَمِنْهَا إذَا شَتَمَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ صَاحِبَهُ زَجَرَهُ، قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَمُطَرِّفٌ: وَإِذَا أَسْرَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ مِثْلُ قَوْلِهِ يَا ظَالِمُ يَا فَاجِرُ وَنَحْوُ ذَلِكَ زَجَرَهُ عَنْهُ، وَيَضْرِبُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا أَنْ تَكُونَ فَلْتَةً مِنْ ذِي مُرُوءَةٍ فَيَنْهَاهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّبَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إذَا أَسَاءَ عَلَى الْآخَرِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ، ظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْقِيَامَ وَالْحَقَّ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحِلُّ لِلْقَاضِي تَرْكُهُ؛ لِأَنَّ السِّبَابَ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَالْحُكْمِ، إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَا يُعِدُّونَ تَكْذِيبَ أَحَدِهِمْ لِلْآخَرِ مِنْ السِّبَابِ، وَلَوْ كَانَ بِصِيغَةِ " كَذَبْت " وَشِبْهِهَا مِنْ الصَّرِيحِ، وَفِي الْبَيَانِ خِلَافُهُ، وَقَدْ ذَكَرْته فِي بَابِ التَّعْذِيرِ.
وَمِنْهَا إذَا قَالَ الْخَصْمُ لِلشَّاهِدِ شَهِدْت عَلَيَّ بِالزُّورِ وَقَصَدَ أَذَاهُ نَكَلَ بِقَدْرِ حَالَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ عُنِيَ أَنَّ الَّذِي شَهِدْت عَلَيَّ بِهِ بَاطِلٌ لَمْ يُعَاقَبْ يَعْنِي أَنَّهُ بَاطِلٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ أَدَّى الدَّيْنَ الْمَشْهُودَ بِهِ عَلَيْهِ مَثَلًا، وَلَيْسَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى الْأَدَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ يُؤَدَّبُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ إذَا أَسَاءَ عَلَى الشُّهُودِ أَوْ أَهْلِ الْفَتْوَى أَوْ عَرَضَ لَهُمْ بِمَا يُؤَدِّبُهُمْ أَدَبًا مُوجِعًا، قَالَهُ ابْنُ لُبَابَةَ وَابْنُ غَالِبٍ وَابْنُ وَلِيدٍ وَغَيْرُهُمْ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْمُرَ الْخَصْمَيْنِ إذَا جَاءَ الشُّهُودُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا بِالسُّكُوتِ وَأَنْ لَا يَتَعَرَّضَا لِلشُّهُودِ بِتَوْبِيخٍ وَلَا تَعْنِيتٍ، فَإِنْ فَعَلَا ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ أَحَدُهُمَا بَعْدَ نَهْيٍ أُدِّبَ، وَالْعُقُوبَةُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ الْقَائِلِ وَالْمَقُولِ لَهُ وَالْقَوْلِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ مِنْ إثْبَاتِ الْقَدْحِ فِي شَهَادَتِهِ خَاصَّةً عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ وَفِي " مُفِيدِ الْحُكَّامِ " لِابْنِ هِشَامٍ أَنَّ مَنْ شَتَمَ رَجُلًا فِي مَجْلِسِ الْحَاكِمِ ضُرِبَ عَشْرَةَ أَسْوَاطٍ.
وَمِنْهَا إذَا نَهَى الْحَاكِمُ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَنْ الْكَلَامِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَأَتَى بِالْحُجَجِ لِيُخَلِّطَ عَلَى صَاحِبِهِ وَيَمْنَعَهُ مِنْ الْكَلَامِ وَيُكْثِرَ مُعَارَضَتَهُ فِي كَلَامِهِ أَمَرَ الْقَاضِي بِأَدَبِهِ مِنْ مُفِيدِ الْحُكَّامِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا غَلِطَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فِي نَصِّ الشَّهَادَةِ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَ الْخَصْمَيْنِ أَنْ لَا يَعْرِضَا لَهُ لَا الْمُدَّعَى بِتَلْقِينٍ وَلَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِتَوْبِيخٍ فَإِنْ فَعَلَ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ أَمَرَ بِأَدَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ: وَكَانَ سَحْنُونٌ إذَا غَلِطَ عِنْدَهُ الشَّاهِدُ فِي شَهَادَتِهِ أَعْرَضَ عَنْهُ وَأَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ لَا يَكْتُبَ وَرُبَّمَا قَالَ لَهُ: تَثَبَّتْ ثُمَّ يُرَدِّدُهُ، فَإِذَا ثَبَتَ عَلَى شَهَادَتِهِ أَمَرَ كَاتِبَهُ فَكَتَبَ لَفْظَ الشَّهَادَةِ وَلَا يَزِيدُ وَلَا يُنْقِصُ وَلَا يُحَسِّنُ الشَّهَادَةَ.
وَمِنْهَا قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْحَاكِمِ يَكْتُبُ الشَّهَادَةَ أَوْ الْأَمْرَ يُرِيدُهُ مِنْ الْخَصْمَيْنِ فِي كِتَابٍ وَيَخْتِمُهُ وَيَدْفَعُهُ إلَى صَاحِبِهِ ثُمَّ يُؤْتَى بِهِ فَيُعَرِّفُهُ بِخَاتَمِهِ أَتُرَى أَنْ يُجِيزَ مَا فِيهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَاتَمُهُ، فَقَدْ تُمَثَّلُ الْخَوَاتِمُ. قَالَ: هُوَ أَعْلَمُ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ عِنْدَهُ، قَالَ أَصْبَغُ يُجِيزُهُ إذَا عَرَفَهُ وَعَرَفَ خَاتَمَهُ مِنْ " مُفِيدِ الْحُكَّامِ ". وَمِنْهَا أَنَّهُ يَمْنَعُ ذَاتَ الْجَمَالِ وَالْمَنْطِقِ الرَّخِيمِ أَنْ تُبَاشِرَ الْخُصُومَةَ وَيَأْمُرُهَا أَنْ تُوَكِّلَ وَكِيلًا.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى امْرَأَةٍ شَابَّةٍ ذَاتِ جَمَالٍ وَخَافَ عَلَيْهَا إنْ تَكَلَّمَتْ أَنْ يُؤَدِّيَ سَمَاعُ كَلَامِهَا إلَى الشَّغَفِ بِهَا، فَإِنَّهَا تُؤْمَرُ أَنْ تُوَكِّلَ، وَلَا يَكُونُ مِنْ حَقِّ الْخَصْمِ أَنْ يُؤْتِيَ بِهَا إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهَا وَهِيَ بِدَارِهَا تُخَاطِبُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرِهَا مَنْ بَعَثَهُ الْقَاضِي إلَيْهَا مِمَّنْ يُؤْمَنُ فِي دِينِهِ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيُكَلِّفُ الْقَاضِي مَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَوَرَعِهِ النَّظَرَ فِي أَمْرِهَا وَسَمَاعِ حُكُومَتِهَا، «وَقَدْ أُحْضِرَتْ الْغَامِدِيَّةُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَقَرَّتْ بِالزِّنَا فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَلَمْ يَأْمُرْ بِإِحْضَارِهَا لِسَمَاعِ ذَلِكَ مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا كَانَتْ عَلَى حَالٍ لَا يَحْسُنُ إحْضَارُهَا وَخِطَابُهَا بِمَحْضَرِ النَّاسِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُجِيبُ الْغَرِيمَ إذَا سَأَلَهُ رَفْعَ غَرِيمِهِ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا لَمْ يَأْمُرْ بِرَفْعِهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْحَقُّ عِنْدَهُ وَلَوْ بِشَاهِدٍ، وَالْقُرْبُ قِيلَ قَدْرُ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ وَتَحْدِيدُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي بَابِ الْعُقُوبَةِ بِالسَّجْنِ.
وَفِي " تَنْبِيهِ الْحُكَّامِ عَلَى مَآخِذِ الْأَحْكَامِ " قَالَ: وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَأَلَهُ الطَّالِبُ رَفْعَ غَرِيمِهِ أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ بِهِ رَفْعَهُ، فَإِنْ أَظْهَرَ حُجَّةً أَوْ قَوْلًا يُوجِبُ ذَلِكَ أَجَابَهُ وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يَبْعَثُ لِذَلِكَ أَحَدًا، لَا سِيَّمَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَبْعُدُ، وَلِأَنَّ حُضُورَ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ يُزْرِي بِبَعْضِ النَّاسِ، فَقَدْ يَكُونُ لَهُ غَرَضٌ فِي إذَايَتِهِ مَذْكُورٌ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، قَالَ وَإِذَا كَانَ عَلَى خَصْمِهِ كَلَّفَهُ فِي ارْتِفَاعِهِ إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ فَلَا يَبْعَثُ لَهُ إلَّا بَعْدَ التَّوَثُّقِ، وَقَدْ كَانَ سَحْنُونٌ لَا يَكْتُبُ بِجَلْبِ أَحَدٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُقِيمَ الطَّالِبُ عِنْدَهُ شَاهِدًا عَدْلًا أَوْ مَنْ يُزَكِّي، فَإِذَا تَعَيَّنَ عِنْدَ الْقَاضِي رَفْعُ الْمَطْلُوبِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ أَوْ بِقُرْبِهِ عَلَى أَمْيَالٍ يَسِيرَةٍ كَالثَّلَاثَةِ وَنَحْوِهَا دَفَعَ إلَى الطَّالِبِ طَابَعًا وَأَشْخَصَ مَعَهُ عَوِينًا وَأُجْرَتُهُ تَقَدَّمَ حُكْمُهَا فِي
الْفَصْلُ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعُهُ بَعِيدًا فَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فَقِيلَ يَكْتُبُ بِرَفْعِهِ: وَالْبَعِيدُ مَا زَادَ عَلَى مَحَلِّ الْقُرْبِ، فَقِيلَ إنْ كَانَ بَعِيدًا نَائِيًا فَلَا يَبْعَثُ إلَيْهِ بِالْقُدُومِ وَلْيَكْتُبْ إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْأَمَانَةِ بِمَوْضِعِهِ فَيَأْمُرُ مَنْ يَكْتُبُ إلَيْهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ وَيَأْمُرَهُمَا بِالتَّنَاصُفِ، فَإِنْ أَبَيَا فَلْيَنْظُرْ فِي دَعْوَى الطَّالِبِ، فَإِنْ رَأَى لَهَا وَجْهًا وَلَمْ يَتَّهِمْهُ بِإِرَادَةِ تَعْنِيَتِهِ فَيَلْزَمُ الْمَطْلُوبُ الشُّخُوصَ مَعَ الطَّالِبِ، وَإِلَّا لَمْ يُكَلِّفْهُ الشُّخُوصَ مَعَهُ ذَلِكَ حُكِيَ عَنْ أَصْبَغُ قَالَ: وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَوْضُوعُ الَّذِي يَشْخَصُ إلَيْهِ لَا مُؤْنَةَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَلَا عَلَى الطَّالِبِ وَلَا عَلَى الْبَيِّنَةِ، فَأَمَّا الْمَكَانُ الْبَعِيدُ مِنْ مَوْضِعِ الْقَاضِي فَلَا يَكْتُبُ بِرَفْعِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلْيَكْتُبْ إلَى مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي فَهْمِهِ وَدِينِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا يَدَّعِي الطَّالِبُ وَيَسْمَعُ مِنْ بَيِّنَتِهِ وَيَنْظُرُ فِي مَنَافِعِهِمَا وَجَمِيعِ أُمُورِهِمَا ثُمَّ يَرْفَعُ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي وَيُخْبِرُهُ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ أَوْ رَآهُ فِي قَضِيَّتِهِمَا لِيَنْظُرَ فِيهِ فَإِذَا نَظَرَ الْقَاضِي فِيمَا جَاءَهُ مِنْ الَّذِي كُتِبَ إلَيْهِ وَرَأَى أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ بِإِنْفَاذِ الْحُكْمِ فَعَلَ وَإِنْ رَأَى أَمْرًا يُوجِبُ رَفْعَ الْخَصْمَيْنِ فَعَلَ، فَإِنْ امْتَنَعَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الشُّخُوصِ مَعَ الطَّالِبِ كَتَبَ أُمَنَاءُ الْقَاضِي إلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإِذَا بَلَغَهُ ذَلِكَ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى أُمَنَائِهِ يَأْمُرُهُمْ بِسَدِّ بَابِهِ وَتُعْقَلُ عَلَيْهِ ضِيَاعُهُ وَيُمْنَعُ مِنْ مَنَافِعِهِ حَتَّى يَحْضُرَ مَعَ غَرِيمِهِ قَالَ: وَلَا تَشْخَصُ الْبَيِّنَاتُ وَالْخُصُومُ مَعَ الْبُعْدِ كَسِتِّينَ مِيلًا وَنَحْوِهَا.
وَمِنْهَا أَنَّ مَنْ قَامَ بِشَكِيَّةٍ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ ادَّعَى بَاطِلًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَدَّبَ وَأَقَلُّ ذَلِكَ بِالْحَبْسِ، لِيَنْدَفِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْبَاطِلِ وَاللَّدَدِ عَنْ ذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ سَهْلٍ فِي شَهَادَةِ السَّمَاعِ فِي الْأَحْبَاسِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا لَمَزَهُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِمَا يَكْرَهُ فَقَالَ لَهُ ظَلَمْتنِي وَأَرَادَ آذَاهُ فَلْيُعَزِّرْهُ إذَا كَانَ الْقَاضِي مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَالْعُقُوبَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَمْثَلُ مِنْ الْعَفْوِ، وَهَذَا فِي اللَّمْزِ، وَأَمَّا إذَا صَرَّحَ بِالْإِسَاءَةِ عَلَى الْقَاضِي فَظَاهِرُ كَلَامِ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ يَجِبُ فِيهَا تَأْدِيبُ الْقَائِلِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَزَّزَ لِنَفْسِهِ لِئَلَّا يُسْتَهَانُ بِهِ وَلِيُخِفْ النَّاسَ بِلُزُومِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ.
وَمِنْهَا إذَا تَوَجَّهَ الْحَقُّ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَتَغَيَّبَ خَصْمُهُ فَطَلَبَ مِنْ الْحَاكِمِ رَسُولًا يُعِينُهُ عَلَى طَلَبِهِ فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ الْخَصْمَيْنِ إذَا دَخَلَا عَلَيْهِ مَنْ الْمُدَّعِي مِنْهُمَا بَلْ يَسْكُتُ حَتَّى يَبْدَأَ أَحَدُهُمَا بِالْكَلَامِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَسْأَلُهَا قَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ وَهُوَ شَأْنُ حُكَّامِ الْعَدْلِ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَكَتَ عَنْهُمَا حَتَّى يَنْطِقَ أَحَدُهُمَا وَيَسْتَدْعِي مِنْ الْقَاضِي الْجَوَابَ. وَإِنْ شَاءَ سَأَلَهُمَا جَمِيعًا بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ فَقَالَ: مَا لَكُمَا وَمَا حَاجَتُكُمَا، وَلَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِسُؤَالٍ؛ لِأَنَّ سُؤَالَ أَحَدِهِمَا يُشْعِرُ بِعِنَايَةِ الْقَاضِي بِهِ وَقَبُولِهِ عَلَيْهِ دُونَ خَصْمِهِ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ بَيْنَهُمَا فِي مَدْخَلِهِمَا إلَيْهِ، فَلَا يَأْذَنُ لِأَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَفِي مَخْرَجِهِمَا عَنْهُ فَلَا يَصْرِفُ أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ، وَفِي لَحْظِهِ وَقَبُولِهِ بِوَجْهِهِ عَلَيْهِمَا وَفِي كَلَامِهِ لَهُمَا، وَقَدْ نَزَلَ ضَيْفٌ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَخُوصِمَ عِنْدَهُ فَأَمَرَ ضَيْفَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُ مِنْ مَنْزِلِهِ. وَإِذَا قُلْنَا أَنَّهُ يَبْدَؤُهُمَا بِالسُّؤَالِ فَإِنْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَسْت مُدَّعِيًا أَقَامَهُمَا حَتَّى يَأْتِيَ أَحَدُهُمَا بِخَصْمِهِ فَيَكُونُ هُوَ الطَّالِبُ، فَإِنْ تَنَازَعَا فِيمَنْ هُوَ الْمُدَّعَى نَظَرَ إلَى الطَّلَبِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ أَوْ لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا أَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَعَا صَاحِبَهُ إلَى الْحَاكِمِ أَمَرَهُمَا بِالِانْصِرَافِ، فَمَنْ أَبَى إلَّا الْمُحَاكَمَةَ فَهُوَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ تَنَازَعَا مَعًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا وَعَلَى الْقَوْلِ أَنَّ الْقَاضِيَ بِالْخِيَارِ فِيمَنْ يَبْدَأُ مِنْهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، فَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مَعَ هَذَا التَّخْيِيرِ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَبْدَأُ بِأَضْعَفِهِمَا، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ قَوْلَيْنِ آخَرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُتْرَكَا إلَى أَنْ يَصْطَلِحَا، وَالْآخَرُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، وَاسْتَضْعَفَ الْمَازِرِيُّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهُمَا قَدْ لَا يَصْطَلِحَانِ وَبِأَنَّهُمَا قَدْ يَتَنَازَعَانِ فِيمَنْ يَبْدَأُ مِنْهُمَا بِالْيَمِينِ.
وَفِي الْمَجْمُوعَةِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إذَا قَالَ أَنَا الْمُدَّعِي وَسَكَتَ الْآخَرُ فَإِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا سَكَتَ الْآخَرُ عَنْ إنْكَارِ قَوْلِهِ إنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي، قَالَ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَسْأَلَهُ الْقَاضِي حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ الْآخَرُ نُطْقًا.
وَمِنْهَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ إلَّا بِإِذْنِ الْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ شَاهِدِ الْحَالِ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ مِنْ الْقَاضِي، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الْقُضَاةِ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى آخَرَ ثَلَاثِينَ دِينَارًا فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَاسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَقَالَ الطَّالِبُ لَمْ آذَنْ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَلَمْ أَرْضَ بِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ تُعَادَ الْيَمِينُ، فَأَمَرَ الْقَاضِي غُلَامَهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ الْمَطْلُوبِ مِنْ مَالِهِ ثَلَاثِينَ دِينَارًا كَرَاهَةَ أَنْ يُكَلِّفَهُ إعَادَةَ الْيَمِينِ الَّتِي قَضَى عَلَيْهِ بِهَا، وَإِذَا اسْتَحْلَفَهُ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْمَحْلُوفِ لَهُ أَوْ وَكِيلِهِ فَإِنْ تَغَيَّبَ وَثَبَتَ تَغَيُّبُهُ عِنْدَ الْقَاضِي أَقَامَ مَنْ يَقْتَضِيهَا.
وَمِنْهَا فِي " مُعِينِ الْحُكَّامِ "، إذَا ذَكَرَ الْمُدَّعِي دَعْوَاهُ كُلِّفَ الْخَصْمُ الْجَوَابَ عَنْهَا مَكَانَهُ إنْ فَهِمَهَا وَأَحَاطَ بِهَا عِلْمًا وَإِنْ كَانَ فِيهَا إشْكَالٌ أَوْ طُولٌ أُمْهِلَ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فَإِنْ امْتَنَعَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْجَوَابِ أُكْرِهَ بِالسَّجْنِ وَالْأَدَبِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ اسْتَلَجَّ فِي الْإِبَايَةِ وَالتَّمَادِي عَلَيْهَا عُدَّ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهُ إقْرَارًا بِحَقِّ الطَّالِبِ وَقَضَى لَهُ بِلَا يَمِينٍ.
وَمِنْهَا إذَا تَوَجَّهَ الْحَقُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَسَأَلَ تَأْخِيرَهُ أَيَّامًا لِيَنْظُرَ فِي ذَلِكَ أَنْظَرَهُ الْقَاضِي بِمَا يَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ اجْتِهَادِهِ. هَذَا مَذْهَبُ سَحْنُونٍ فِي تَأْخِيرِ الْغَرِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْحَقِّ، وَهُوَ دَلِيلُ مَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ فِي تَأْخِيرِ ثَمَنِ الشِّقْصِ الْمُسْتَشْفَعِ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَسَيَأْتِي هَذَا.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا حُبِسَ الْغَرِيمُ الْمَجْهُولُ الْحَالِ فَادَّعَى الْفَقْرَ فَلَا يُكَلِّفُهُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْهُ أَهْلَ الْخِبْرَةِ بِهِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ مَالًا حَلَّفَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي " الْبَيَانِ " قَالَ: وَهَذَا فِي مَجْهُولِ الْحَالِ وَأَمَّا إنْ حَبَسَهُ لِلتُّهْمَةِ أَنَّهُ أَخْفَى مَالَهُ لَهُ فَلَا يَكْتَفِي إلَّا بِالْبَيِّنَةِ انْتَهَى، وَأَمَّا مَعْلُومُ الْمَلَاءِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ بَيِّنَةٌ إلَّا بِذَهَابِ مَا بِيَدِهِ ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي أَنْ يُرَاقِبَ أَحْوَالَ الْخُصُومِ عِنْدَ الْإِدْلَاءِ بِالْحُجَجِ وَدَعْوَى الْحُقُوقِ، فَإِنْ تَوَسَّمَ فِي أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ أَنَّهُ أَبْطَنَ شُبْهَةً أَوْ اتَّهَمَهُ بِدَعْوَى الْبَاطِلِ إلَّا أَنَّ حُجَّتَهُ فِي الظَّاهِرِ مُتَّجِهَةٌ، وَكِتَابَ الْحَقِّ الَّذِي بِيَدِهِ مُوَافِقٌ لِظَاهِرِ دَعْوَاهُ، فَلْيَتَلَطَّفْ الْقَاضِي فِي الْفَحْصِ وَالْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ مَا تَوَهَّمَ فِيهِ، فَإِنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ كَثُرَتْ مُخَادَعَتُهُمْ وَاتُّهِمَتْ أَمَانَتُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْكَشِفْ لَهُ مَا يَقْدَحُ فِي دَعْوَاهُ فَحَسَنٌ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ بِالْمَوْعِظَةِ إنْ رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا وَيُخَوِّفَهُ اللَّهَ سبحانه وتعالى وَيُذَكِّرَهُ قَوْلَهُ:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] فَإِنْ أَنَابَ وَإِلَّا أَمْضَى الْحُكْمَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَإِنْ تَزَايَدَتْ عِنْدَهُ بِسَبَبِ الْفَحْصِ عَنْ ذَلِكَ شُبْهَةٌ فَلْيَقِفْ وَيُوَالِي الْكَشْفَ وَيُرَدِّدُهُ الْأَيَّامَ وَنَحْوَهَا وَلَا يَعْجَلُ فِي الْحُكْمِ مَعَ قُوَّةِ الشُّبْهَةِ، وَلْيَجْتَهِدْ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ حَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى أَوْ تَنْتَفِي عَنْهُ الشُّبْهَةُ مِنْ " تَنْبِيهِ الْحَاكِمِ عَلَى مَآخِذِ الْأَحْكَامِ " لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَصْبَغَ الْأَزْدِيِّ الشَّهِيرِ بِابْنِ الْمُنَاصِفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَمِنْهَا قَالَ الْمُتَيْطِيُّ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي مَوْعِظَةُ الْخَصْمَيْنِ وَتَعْرِيفُهُمَا بِأَنَّ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ فَإِنَّهُ خَائِضٌ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ حَلَفَ لِيَقْطَعَ مَالَ
أَخِيهِ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَيَعِظُ الشُّهُودَ أَيْضًا كَمَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِمَنْ يَشْهَدُ عِنْدَهُ: إنَّمَا يَقْضِي عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ أَنْتُمَا بِشَهَادَتِكُمَا وَإِنِّي مُتَّقٍ بِكُمَا مِنْ النَّارِ فَاتَّقِيَا اللَّهَ وَالنَّارَ. .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَهِّلَ إذْنَ الْبَيِّنَاتِ وَلَا يَمْطُلَهُمْ فَيَتَفَرَّقُوا فَيَعْسُرُ جَمْعَهُمْ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى ضَجَرِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ أَوْ بَعْضَهُ بِالْمُصَالَحَةِ عَنْهُ لِمَا يُدْرِكُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ. قَالَ ابْنُ سَهْلٍ وَلِهَذَا رَأَيْت بَعْضَ الْقُضَاةِ يَأْمُرُ أَوَّلَ جُلُوسِهِ بِإِدْخَالِ الْبَيِّنَةِ وَيَسْمَعُ مِنْهَا قَالَ وَقَدْ قَالَ مَنْ حَضَرَنِي مِمَّنْ عُنِيَ بِالْعِلْمِ كَانَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ مِمَّنْ اُمْتُحِنَ بِالْخُصُومَةِ وَكَانَ يَقُولُ نَقْلُ الْجِبَالِ عِنْدَهُ أَيْسَرُ مِنْ نَقْلِ الْبَيِّنَةِ، يَعْنِي إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا حَضَرُوا آنَسَهُمْ وَقَرَّبَهُمْ وَبَسَطَهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَإِذَا كَانَتْ تَامَّةً قَيَّدَهَا وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً سَأَلَهُمْ عَنْ بَقِيَّتِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُجْمَلَةً سَأَلَهُمْ عَنْ تَفْسِيرِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ عَامِلَةٍ أَعْرَضَ عَنْهَا إعْرَاضًا جَمِيلًا، فَأَعْلَمَ الْمُدَّعِيَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى فِي الْأَشْيَاءِ التَّافِهَةِ الْحَقِيرَةِ الَّتِي لَا يَتَشَاحُّ الْعُقَلَاءُ فِيهَا كَعُشْرِ سِمْسِمَةٍ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ.
وَمِنْهَا قَالَ ابْنُ سَهْلٍ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي إذَا حَضَرَ عِنْدَهُ الْخَصْمَانِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ عَنْ دَعْوَاهُ وَيَفْهَمَهَا عَنْهُ، وَإِذَا كَانَتْ دَعْوًى لَا يَجِبُ بِهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَتَّى أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَسْأَلْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ شَيْءِ وَأَمَرَهُمَا بِالْخُرُوجِ عَنْهُ، وَإِنْ نَقَصَ مِنْ دَعْوَاهُ مَا فِيهِ بَيَانُ مَطْلَبِهِ أَمَرَهُ بِتَمَامِهِ وَإِنْ أَتَى بِإِشْكَالِ أَمْرِهِ بِبَيَانِهِ، فَإِنْ صَحَّتْ الدَّعْوَى سَأَلَ الْمَطْلُوبَ عَنْهَا فَإِنْ أَقَرَّ أَوْ أَنْكَرَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ أَبْهَمَ جَوَابَهُ أَمَرَهُ بِتَفْسِيرِهِ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْإِشْكَالُ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ عَنْهُمَا إنْ كَانَ فِيهِ طُولٌ وَالْتِبَاسٌ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا قَرِيبًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَقْيِيدِهِ، وَلَا يَدَعُ الْحُكَّامُ أَخْذَ الْخُصُومِ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: إذَا صَدَرَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُدَّعِي فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْجَوَابِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمُدَّعِي فِي ذَلِكَ أَمْ لَا، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ عِيسَى بْنَ أَبَانَ لَمَّا وَلِيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَهُوَ مِمَّنْ عَاصَرَ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَصَدَهُ أَخَوَانِ كَانَا مِمَّنْ يَتَوَكَّلُونَ فِي أَبْوَابِ الْقُضَاةِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ عَلَى آخَرَ فَقَالَ الْقَاضِي لِلْآخَرِ أَجِبْهُ فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: وَمَنْ أَذِنَ لَك أَنْ تَسْتَدْعِيَ الْجَوَابَ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ الْمُدَّعِي: لَمْ آذَنْ لَك فِي ذَلِكَ فَوَجَمَ الْقَاضِي فَقَالَ لَهُ:
إنَّمَا أَرَدْنَا أَنْ نُعْلِمَك مَكَانَنَا مِنْ الْعِلْمِ، قَالَ الْمَازِرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَهَذِهِ مُنَاقَشَةٌ لَيْسَ تَحْتَهَا كَبِيرُ فَائِدَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ جِهَةِ الْعَوَائِدِ وَشَوَاهِدِ الْحَالِ أَنَّ إحْضَارَ الْخَصْمِ وَالدَّعْوَى عَلَيْهِ يُغْنِيهِ عَنْ النُّطْقِ بِسُؤَالِ الْقَاضِي، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي اسْتِعْلَامُ مَا عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ إذْنٍ مِنْ الْمُدَّعِي، لَكِنَّ الْعَادَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَقُومُ مَقَامَ سُؤَالِ الْقَاضِي، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَاتِ، وَأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمُدَّعِي لِلْقَاضِي اسْأَلْهُ لِي الْجَوَابَ اكْتِفَاءً بِشَهَادَةِ الْحَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ الْمُدَّعِي وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا دَعَا غَرِيمَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ أَدَّبَهُ وَجَرَّحَهُ إنْ كَانَ عَدْلًا، فَإِنْ تَغَيَّبَ شَدَّدَ الْقَاضِي عَلَيْهِ فِي الطَّلَبِ، وَأُجْرَةُ الرَّسُولِ عَلَى الطَّالِبِ، فَإِنْ تَغَيَّبَ الْمَطْلُوبُ وَتَبَيَّنَ لَدَدُهُ فَالْإِجَارَةُ عَلَيْهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ لِلَّخْمِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ: لَا يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَالْمَرْجِعُ عِنْدَهُمْ الْأَوَّلُ اُنْظُرْ " أَحْكَامَ ابْنِ سَهْلٍ ". وَالْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةٌ فِي بَابِ " الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ " عَنْ مَجْلِسِ الْحَاكِمِ " وَفِي " مُفِيدِ الْحُكَّامِ " لِابْنِ هِشَامٍ. مَنْ اسْتَهَانَ بِدَعْوَةِ الْقَاضِي أَوْ الْحَاكِمِ وَلَمْ يُجِبْ ضُرِبَ أَرْبَعِينَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي دَعْوَى الْمُدَّعِي فَإِنْ كَانَتْ مَسْمُوعَةً أَمَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ وَإِنْ كَانَ فِي دَعْوَاهُ طُولٌ أَمَرَهُ بِتَقْيِيدِ مَقَالَتِهِ ثُمَّ يَأْمُرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَدِّ الْجَوَابِ فِي الْحَالِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَفْهَمُهَا وَإِلَّا أَنْظَرَهُ بِقَدْرِ مَا يَرَى أَنَّهُ يَفْهَمُهَا، وَإِنْ كَانَتْ طَوِيلَةً مُشْتَمِلَةً عَلَى فُصُولٍ وَسَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهَا نُسْخَةً لِيَفْهَمَهَا أُجِيبَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ أَلْفَاظُهَا يَسِيرَةً مَفْهُومَةً لَمْ يُجَبْ إلَى ذَلِكَ. وَمِنْهَا قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَإِنْ سَأَلَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنْ تُنْسَخَ لَهُ شَهَادَاتُ الشُّهُودِ فَذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَسْأَلَهُمْ وَيُذَكِّرَهُمْ، فَإِنْ ذَكَرُوا مَا ذَكَّرَهُمْ فَعَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَرْجِعُوا وَلَا يَضُرَّ ذَلِكَ شَهَادَتَهُمْ الْأُولَى إلَّا أَنْ يَرْجِعُوا عَنْ شَيْءٍ فِيهَا فَيُقْبَلُ مِنْهُمْ رُجُوعُهُمْ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِهَا (مِنْ رِسَالَةِ الْقَضَاءِ) .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُبْرِمُهُ وَيُضْجِرُهُ وَيُحَيِّرُهُ.