الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْقِسْمُ السَّابِعُ فِي ذِكْرِ الْبَيِّنَاتِ]
وَفِيهِ مُقَدِّمَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى عَشَرَةِ فُصُولٍ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَةِ الْبَيِّنَةِ.
الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي أَقْسَامِ مُسْتَنَدِ عِلْمِ الشَّاهِدِ.
الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي حَدِّ الشَّهَادَةِ وَحُكْمِهَا وَمَا تَجِبُ فِيهِ.
الْفَصْلُ الرَّابِعُ: فِي مَرَاتِبِ الشُّهُودِ.
الْفَصْلُ الْخَامِسُ: فِي صِفَاتِ الْحُقُوقِ وَمَرَاتِبِ الشَّهَادَاتِ.
الْفَصْلُ السَّادِسُ: فِي صِفَاتِ الشَّاهِدِ وَذِكْرِ مَوَانِعِ الْمَقْبُولِ.
الْفَصْلُ السَّابِعُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلشُّهُودِ التَّنَبُّهُ لَهُ فِي التَّحَمُّلِ وَالْأَدَاءِ.
الْفَصْلُ الثَّامِنُ: فِيمَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَنَبَّهَ لَهُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَاتِ.
الْفَصْلُ التَّاسِعُ: فِيمَا يُحْدِثُهُ الشَّاهِدُ بَعْدَ شَهَادَتِهِ فَتَبْطُلُ.
الْفَصْلُ الْعَاشِرُ: فِي صِفَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَاللَّفْظِ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ أَدَاؤُهَا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي التَّعْرِيفِ بِحَقِيقَتِهَا وَمَوْضِعِهَا شَرْعًا اعْلَمْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَسَمَّى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام الشُّهُودَ بَيِّنَةً لِوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِهِمْ وَارْتِفَاعِ الْإِشْكَالِ بِشَهَادَتِهِمْ، كَوُقُوعِ الْبَيَانِ بِقَوْلِ الرَّسُولِ عليه السلام قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ نَصْرٍ النَّحْوِيُّ، فِي كِتَابِ الْحِسْبَةِ.
وَقَالَ ابْنُ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ وَلَمْ تَأْتِ الْبَيِّنَةُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ مُرَادًا بِهَا الشُّهُودُ. وَإِنَّمَا أَتَتْ مُرَادًا بِهَا الْحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ وَالْبُرْهَانُ مُفْرَدَةً وَمَجْمُوعَةً.
وَنَقَلَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَنْ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ فِي مِثْلِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ؛ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، إلَّا الْمَوْضِعَ الَّذِي تُمْكِنُ فِيهِ الْبَيِّنَةُ وَإِلَى هَذَا
ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. فَمَتَى وُجِدَتْ الْقَرَائِنُ الَّتِي تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ عُمِلَ بِهَا. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: قِصَّةُ يُوسُفَ فِي قَدِّ الْقَمِيصِ، وَإِقَامَةِ ذَلِكَ مَقَامَ الشُّهُودِ. قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: هَذِهِ الْآيَةُ يَحْتَجُّ بِهَا الْعُلَمَاءُ مَنْ يَرَى الْحُكْمَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فِيمَا لَا تَحْضُرُهُ الْبَيِّنَاتُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] قَالَ عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ الْفَرَسِ: رُوِيَ أَنَّ إخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا أَتَوْا بِقَمِيصِهِ إلَى أَبِيهِمْ، تَأَمَّلَهُ فَلَمْ يَرَ فِيهِ خَرْقًا وَلَا أَثَرَ نَابٍ، فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى كَذِبِهِمْ.
وَقَالَ لَهُمْ: مَتَى كَانَ الذِّئْبُ حَلِيمًا يَأْكُلُ يُوسُفَ وَلَا يَخْرِقُ قَمِيصَهُ؟ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا الدَّمَ عَلَامَةَ صِدْقِهِمْ، قَرَنَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ عَلَامَةً تُكَذِّبُهَا: وَهِيَ سَلَامَةُ الْقَمِيصِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ يَعْقُوبَ اسْتَدَلَّ عَلَى كَذِبِهِمْ بِصِحَّةِ الْقَمِيصِ، فَاسْتَدَلَّ الْفُقَهَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إعْمَالِ الْأَمَارَاتِ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَأَقَامُوهَا مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ أُمُورٌ وَرَدَتْ فِي غَيْرِ شَرْعِنَا فَلَا تَلْزَمُنَا، فَالْجَوَابُ عَلَى ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ.
قَالَ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ كَبَاهْ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّيمَا، حَالٌ يَظْهَرُ عَلَى الشَّخْصِ، حَتَّى إذَا رَأَيْنَا مَيِّتًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ زُنَّارٌ وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ، فَإِنَّهُ لَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الدَّارِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ. فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ: فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي، ثُمَّ جَلَسْت ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ الثَّالِثَةَ، فَقُمْت فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَالَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ؟ فَاقْتَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي، فَأَرْضِهِ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: لَاهَا اللَّهِ إذْ لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ، يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَيُعْطِيك سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم: صَدَقَ فَأَعْطِهِ إيَّاهُ فَأَعْطَانِيهِ، فَبِعْتُ الدِّرْعَ فَاشْتَرَيْت بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلِمَةَ فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ» .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ السَّلَبَ إلَى أَبِي قَتَادَةَ، بِقَوْلٍ وَاحِدٍ دُونَ يَمِينٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِ الْوَاحِدُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ طَرِيقُهُ الْخَبَرُ لَا الشَّهَادَةُ.
قَالَ الْبَاجِيُّ وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ فِي ذَلِكَ قَبُولُ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَظَاهِرُ الْبَيِّنَةِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:(لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ يَقْتَضِي الشَّهَادَةَ) وَلَا تَكُونُ إلَّا بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ، وَلَكِنْ لَمَّا ظَهَرَ صِدْقُ أَبِي قَتَادَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ. وَذَكَرَ الْقِصَّةَ اكْتَفَى بِذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ «مَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ لِابْنَيْ عَفْرَاءَ، لَمَّا تَدَاعَيَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ فَقَالَا: لَا، فَقَالَ: أَرِيَانِي سَيْفَيْكُمَا فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِمَا قَالَ: هَذَا قَتَلَهُ، وَقَضَى لَهُ بِسَلَبِهِ» ، فَاعْتَمَدَ عَلَى الْأَثَرِ فِي السَّيْفِ.
وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، لَمَّا «دَخَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ لَيْلًا فَضَرَبُوهُ بِسُيُوفِهِمْ، وَغَرَزَ أَحَدُهُمْ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ، فَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى سُيُوفِهِمْ، وَجَدَ فِي ذَلِكَ السَّيْفِ أَثَرَ الطَّعَامِ فَقَالَ: هَذَا قَتَلَهُ، وَحَكَمَ صلى الله عليه وسلم بِمُوجِبِ اللَّوْثِ، وَنَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الشَّاهِدِ، وَجَعَلَ لِوُلَاةِ الدَّمِ أَنْ يَحْلِفُوا مَعَهُ» .
وَكَذَلِكَ جَعَلَ مَعْرِفَةَ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ قَائِمًا مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ «حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْقَافَةِ» وَجَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ. وَمِنْ ذَلِكَ حَكَمَ عُمَرُ رضي الله عنه بِرَجْمِ الْمَرْأَةِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمَلٌ، وَلَيْسَ لَهَا زَوْجٌ، وَجَعَلَ ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي أَنَّهَا زَانِيَةٌ، وَكَذَلِكَ إذَا قَاءَ الْخَمْرَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ، وَقَدْ اسْتَوْعَبْنَاهُ فِي بَابِ الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ، فَمَتَى ظَهَرَ الْحَقُّ وَأَسْفَرَتْ طَرِيقُ الْعَدْلِ، فَثَمَّ شَرْعُ اللَّهِ وَدِينُهُ، وَلَمَّا كَانَتْ الْبَيِّنَاتُ مُرَتَّبَةً بِحَسَبِ الْحُقُوقِ الْمَشْهُودِ فِيهَا، وَالْمُحْتَاجِ إلَى إقَامَتِهَا، وَمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ التَّوْسِعَةِ وَالتَّضْيِيقِ وَالتَّثْقِيلِ وَالتَّخْفِيفِ، وَإِمْكَانِ التَّوْثِيقِ