الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ لِلضَّرُورَةِ]
وَفِي الطُّرَرِ لِابْنِ عَاتٍ: قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْغَفُورِ فِي كِتَابِهِ الِاسْتِغْنَاءُ: حَكَى بَعْضُ شُيُوخِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الثِّقَاتِ: أَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ إذَا شَهِدُوا فِي حَقٍّ لِامْرَأَةٍ أَوْ غَيْرِهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَدْلٌ أَنْ يُسْتَكْثَرَ مِنْهُمْ وَيُقْضَى بِشَهَادَتِهِمْ.
تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ شَهَادَةَ التَّوَسُّمِ وَشَهَادَةَ الْمَجْهُولِ الْحَالِ، اتَّفَقُوا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ فِي ذَلِكَ، إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِعَدَالَةِ الشَّاهِدِ.
فَرْعٌ: وَسُئِلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْمُفْتِينَ عَنْ الْقُرَى الْبَعِيدَةِ مِنْ الْمُدُنِ عَلَى الثَّلَاثِينَ مِيلًا وَالْأَرْبَعِينَ، وَفِيهَا الثَّلَاثُونَ رَجُلًا وَالْأَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَالْأَقَلُّ، وَلَيْسَ فِيهِمْ عَدْلٌ مَشْهُورٌ بِالْعَدَالَةِ، وَفِيهِمْ مُؤَذِّنُونَ وَأَئِمَّةٌ وَقَوْمٌ مَوْسُومُونَ بِخَيْرٍ، غَيْرَ أَنَّ الْقُضَاةَ لَا يَعْرِفُونَهُمْ بِعَدَالَةٍ وَلَا يَجِدُونَ مَنْ يَعْرِفُهُمْ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ فِي الْأَمْلَاكِ وَالدُّيُونِ وَالْمُهُورِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يُخَالِفُ مِنْهُمْ أَحَدٌ هَلْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ؟ وَيُقْضَى بِهِمْ أَوْ يُتْرَكُونَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْظَرَ فِي أَمْرِهِمْ.
فَكَتَبَ فِي الْجَوَابِ لِكُلِّ قَوْمٍ عُدُولُهُمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْقَاضِي لَهُمْ بِنَفْسِهِ، يَعْنِي بِذَلِكَ التَّوَسُّمِ فِيهِمْ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، لِأَبِي إبْرَاهِيمَ صَاحِبِ النَّصَائِحِ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ مِنْهُمْ جَائِزَةٌ، وَيُسْتَكْثَرُ مِنْهُمْ مَا اسْتَطَاعَ وَيُقْضَى بِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَقَالَ غَيْرُهُ لَوْلَا ذَلِكَ مَا جَازَ لَهُمْ بَيْعٌ وَلَا تَمَّ لَهُمْ نِكَاحٌ وَلَا عَقْدٌ فِي شَيْءٍ.
فَرْعٌ: وَفِي الْحَاوِي فِي الْفَتَاوَى لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ.
وَسُئِلَ اللَّخْمِيُّ رحمه الله إذَا رَأَى الْهِلَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَمْ تَتَقَدَّمْ لَهُمْ شَهَادَةٌ، وَلَا تُرْجَى لَهُمْ تَزْكِيَةٌ فِي الْوَقْتِ، فَكَمْ قَدْرُ الْعَدَدِ الَّذِي يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِمْ؟ فَأَجَابَ لَيْسَ لِعَدَدِ مَنْ يُصَامُ لِشَهَادَتِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ عَدْلٍ أَمْرٌ مَحْصُورٌ لَا يَتَعَدَّى إلَّا أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الْعِلْمُ بِصِدْقِهِمْ صَامَ النَّاسُ مَا لَمْ يَكُونُوا دُونَ الْخَمْسَةِ.
فَرْعٌ: وَسُئِلَ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّائِغِ: عَنْ أَهْلِ مَدِينَةٍ الْتَمَسُوا هِلَالَ شَوَّالٍ لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ فِي الْغَيْمِ فَلَمْ يَرَوْهُ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَدِمَتْ رُفْقَةٌ كَبِيرَةٌ نَحْوُ الْأَرْبَعِمِائَةِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ بِالْقُرْبِ مِنْ هَذِهِ الْمَدِينَةِ نَحْوَ خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلًا رُؤْيَةً ظَاهِرَةً فَخَرَجَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُدُولِ وَغَيْرِهِمْ لِيَخْتَبِرُوا ذَلِكَ مِنْ الْوَاصِلِينَ قَبْلَ وُصُولِهِمْ الْمَدِينَةَ فَسَأَلُوا خَلْقًا مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ سَأَلْت مِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ رَجُلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ سَأَلْت مِنْ أَوَّلِ الرُّفْقَةِ إلَى آخِرِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ سَأَلْت خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، حَتَّى قَطَعُوا عَلَى ذَلِكَ وَعَلِمُوهُ يَقِينًا وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاقِلِينَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَاتَّفَقَتْ شَهَادَةُ الْكُلِّ عَلَى رُؤْيَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ رُؤْيَةً ظَاهِرَةً فَاشِيَةً، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ وَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ، فَهَلْ يُحْكَمُ بِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ وَيُفْطِرُ النَّاسُ وَيُصَلُّونَ صَلَاةَ الْعِيدِ أَمْ لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ وَيَتَمَادَى النَّاسُ عَلَى الصَّوْمِ؟
فَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِخَطِّ يَدِهِ قَدْ نَزَلَ مِثْلُ هَذَا السُّؤَالِ فِي الْقَيْرَوَانِ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ مَوْجُودُونَ وَالْمُحَقِّقُونَ، وَكَانَ الَّذِينَ أَخْبَرُوا مِنْ الرُّفْقَةِ الْقَادِمَةِ أَقَلَّ مِنْ الْعَدَدِ الَّذِي ذَكَرْت، فَاتَّفَقَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِمَّنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى إيجَابِ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِمْ، وَحَمَلُوا النَّاسَ عَلَى الصَّوْمِ إذْ كَانَ ذَلِكَ الَّذِي نَزَلَ فِي الْقَيْرَوَانِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ وَلَهَا مَدْخَلٌ فِي الْأُصُولِ، إذْ يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ بَابٌ كَبِيرٌ، فَإِذَا وَقَعَ الْعِلْمُ لِسَامِعِ قَوْلِهِمْ وَقَطَعَ لِمَا قَالُوهُ، لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إعْرَاضِ مَنْ أَعْرَضَ مِمَّنْ لَا يُحْكِمُ الْأَمْرَ، وَلَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يُمَيِّزُ بِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَشْبَاهَهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى ذَهَابِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ.
وَكَتَبَ فِي الْمَسْأَلَةِ جَوَابًا آخَرَ لِكَوْنِ الْجَوَابِ الْأَوَّلِ لَمْ يَصِلْ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ وَذَكَرْت لَك أَنَّ مِثْلَ هَذَا نَزَلَ بِالْقَيْرَوَانِ وَأَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَثِيرٌ، فَجَعَلُوا لِمَنْ سَمِعَ قَوْلَ أَهْلِ الرُّفْقَةِ مِمَّنْ يُمَيِّزُ الْعِلْمَ الْوَاقِعَ فِي النَّفْسِ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ وَالشَّكِّ، وَهُمَا رَجُلَانِ عَدْلَانِ، وَقَالَا: وَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِمَا قَالَهُ أَهْلُ الرُّفْقَةِ أَنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى مَا شَهِدَا بِهِ، هَذَا الصَّوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِقَوْلِ أَهْلِ الرُّفْقَةِ أَوْ بِقَوْلِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْبَعَةِ لَزِمَ الصَّوْمُ، هَذَا قَوْلُ مَنْ حَقَّقَ النَّظَرَ مِنْ شُيُوخِنَا.
وَسُئِلَ اللَّخْمِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَابَ بِصِحَّةِ الْجَوَابِ الْمُتَقَدِّمِ، ثُمَّ قَالَ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ
مِنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ بْنِ الطَّيِّبِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الْعِلْمُ مِنْ الْمُخْبِرِينَ لَا نُرَاعِي عَدَالَتَهُمْ.
وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيٌّ بْنُ مُحَمَّدٍ السُّوسِيِّ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْعَابِدِ فَأَجَابَ بِصِحَّةِ مَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَشْهَدُ لِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي أَهْلِ حِصْنٍ أَسْلَمُوا، فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ جَائِزَةٌ، وَأَنَّهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ.
قَالَ وَأَمَّا الْمُتَحَمِّلُونَ، فَإِنْ تَحَمَّلَ مِنْهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ فَشَهَادَتُهُمْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ جَائِزَةٌ إذَا أَسْلَمُوا، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغُ فِي الْعِشْرِينَ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَأَبَاهُ سَحْنُونٌ وَلَمْ يَنْظُرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْعَدَالَةِ.
قَالَ: وَأَمَّا الْعَدَدُ الْقَلِيلُ فَلَا إلَّا بِبَيِّنَةِ مُسْلِمَيْنِ، سِوَاهُمْ تَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ تُجَّارٍ أَوْ أَسَارَى كَانُوا عِنْدَهُمْ، فَيَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الَّذِينَ شَهِدُوا لَهُمْ عُدُولًا.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَرُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ مَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ فِي الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ.
فَرْعٌ: وَفِي الْمُقْنِعِ سُئِلَ مَرَّةً سَحْنُونٌ عَمَّنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بِدَمٍ، فَأَقَامَ شَاهِدًا لَيْسَ بِعَدْلٍ يُحْبَسُ الْمَطْلُوبُ. قَالَ يَتَوَثَّقُ مِنْهُ حَتَّى يَكْشِفَ اللَّطْخَ الَّذِي ادَّعَوْا عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ شَهَادَتِهِ، بَلْ أَوْجَبْت التَّوَثُّقَ وَالْكَشْفَ.
فَرْعٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيِّ فِي مُقَدِّمَةِ تَعْلِيقِهِ الْخِلَافَ: قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَاتِ يَجُوزُ قَبُولُ الْمَعْرُوفِ بِالْمَرْأَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ بَعْضُهُمْ: نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الِاسْتِذْكَارِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي الْعَدَالَةُ، يَعْنِي بِهِمَا الْمُلَازِمَيْنِ لِمَجْلِسِ حُكْمِهِ فَانْظُرْهُ، وَذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْعَطَّارِ فِي وَثَائِقِهِ، قَالَ إذَا أَقَرَّ الْخَصْمُ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِمَحْضَرِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ بِمَحْضَرِهِمَا، قَالَ غَيْرُهُ وَقَدْ اعْتَرَضَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ ثُمَّ حَكَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
فَرْعٌ: وَمِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِقَوْلِ الْمُتَرْجِمِ، قَالَ ابْنُ رَاشِدٍ: وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْكَافِرِ وَلَا الْعَبِيدِ وَلَا الْمَسْخُوطِينَ، قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ يُرِيدُ مَعَ وُجُودِ عَدْلٍ وَلَوْ اُضْطُرَّ إلَى تَرْجَمَةِ أَحَدِهِمْ يُعْمَلُ بِقَوْلِهِ، كَالْحُكْمِ بِقَوْلِ الطَّبِيبِ النَّصْرَانِيِّ فِيمَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ فِي اللَّوْثِ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعُدُولِ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ، وَيَقْسِمُ مَعَهُ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَذَلِكَ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَصِيَانَةِ الدِّمَاءِ.
فَرْعٌ: وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَحْمِلَ كِتَابَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ رَجُلَانِ، فَيَشْهَدَانِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي، وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا الْقَاضِي عِنْدَهُ بِخَيْرٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا بَيِّنًا، أَوْ زَكَّى أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُزَكِّ الْآخَرَ، أَوْ وَسَمَ فِيهِمَا الصَّلَاحَ، وَكَانَ الْخَطُّ وَالْخَتْمُ مَشْهُورَيْنِ عِنْدَ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ، فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ إجَازَةَ مِثْلَ هَذَا لِتَعَذُّرِ الْعُدُولِ، وَلِمَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي صَدْرِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ إجَازَةِ الْخَوَاتِمِ.
فَرْعٌ: وَفِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: وَإِذَا أَقَرَّ الشَّاهِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَسْخُوطٌ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِإِقْرَارِهِمَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْ عَلَيْهِمَا بِالسَّخْطَةِ لَمْ يُرَدَّ الْقَضَاءُ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِمَا، وَانْظُرْ أَبَدًا كُلَّ شَاهِدٍ شَهِدَ فَقَضَى بِشَهَادَتِهِ ثُمَّ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ، أَوْ مَسْخُوطٌ بِإِقْرَارٍ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ فَلَا غُرْمَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْخُوطُ الْبَيِّنُ الْفَسَادِ الظَّاهِرُ الشُّهْرَةِ الْمَارِقُ ذُو الْجَرَاءَةِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ مَا حُكِمَ بِشَهَادَتِهِ وَيُفْسَخُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَارِقِ الْبَيِّنِ الْفَسَادِ فَلَا يُرَدُّ مَا حُكِمَ بِشَهَادَتِهِ وَيَمْضِي.
فَرْعٌ: وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: قَالَ أَبُو عُمَرَ فِي كَافِيهِ: وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي شُهُودٌ لَا يَعْرِفُهُمْ، فَاعْتَرَفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِعَدَالَتِهِمْ جَازَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِهِمْ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُكَذِّبْهُمْ، وَلَا يَقْضِي بِهِمْ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَعْرِفَ عَدَالَتَهُمْ
وَقَالَ أَصْبَغُ: إذَا رَضِيَ الْخَصْمَانِ بِشَهَادَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْقَاضِي عَدَالَتَهُ وَلَا جُرْحَتَهُ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِذَا رَضِيَ الْمُسْلِمَانِ بِشَهَادَةِ الْمَسْخُوطَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لَزِمَهُمَا وَلَيْسَ لَهُمَا الرُّجُوعُ عَنْهُ، كَمَا لَوْ رَضِيَا بِغَيْرِ شَهَادَةٍ، وَلَوْ رَفَعَا ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ لَمْ يَحْكُمْ عَلَيْهِمَا بِشَهَادَتِهِمَا.
فَرْعٌ: وَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الْوَصِيَّةِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] فَقِيلَ: مِنْ غَيْرِ قِبْلَتِكُمْ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي الْمُسْلِمِ بِقَوْلِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ، وَقِيلَ إنَّمَا شُرِطَتْ الْعَدَالَةُ إذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي الْحَضَرِ.
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فِي الْوَقْفِ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ، وَالِابْتِدَاءِ {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [المائدة: 106] فَتَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ وَعَلَى هَذَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا.
فَرْعٌ: وَفِي الْحَاوِي لِابْنِ عَبْدِ النُّورِ.
وَسُئِلَ السُّيُورِيُّ عَنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهِمْ عَدْلٌ، سَكَنُوا قَفِصَةً وَيَشْهَدُونَ فِي الْأَمْرِ، لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ مِثْلُ شَأْنِ فَقِيرَةٍ يَتِيمَةٍ لَا وَلِيَّ لَهَا، تُرِيدُ النِّكَاحَ وَلَا يَعْرِفُهَا إلَّا أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى الْعِشْرِينَ، وَقَدْ يَغِيبُ أَحَدُهُمْ فَتَطُولُ غَيْبَتُهُ، وَتُرِيدُ زَوْجَتُهُ فِرَاقَهُ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ، وَلَا يَشْهَدُ لَهَا إلَّا أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَهُمْ قَرِيبُ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ عَمَلُهُمْ؟ وَهَلْ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي مَكَانِهِمْ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ عَدْلٌ؟
فَأَجَابَ إذَا لَمْ تَكُنْ تُهْمَةٌ تَلْحَقُهُمْ فِيمَا شَهِدُوا فِيهِ وَكَانُوا جَمَاعَةً فَيَحْضُرُونَ جَمَاعَتُهُمْ لِمَنْ يَحْضُرُ كَلَامَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ، فَإِنْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ سَاكِنَةً لَصَدَّقَهُمْ، وَلَسْت أَعْنِي بِسَاكِنَةٍ أَنَّهُمْ مَائِلُونَ عَنْ الْحَقِّ، أَمْ أَنَّهُمْ قَالُوا الْحَقَّ بَلْ يَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ فِي قُلُوبِهِمْ صِدْقَ ذَلِكَ، وَالْقَطْعَ بِهِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ ذَلِكَ وَيُشَاهِدُونَهُ، فَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ رَجُلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ حُكِمَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُمْ خَمْسَةً فَأَكْثَرَ، وَأَنْ يَتَّفِقَ ذَلِكَ فَعَسَى أَنْ يُكْثِرُوا مِمَّنْ يَشْهَدُ فِي ذَلِكَ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ عِنْدِي إذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ تُهْمَةٌ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ فَكُلَّمَا أُصِيبَ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ فَحَسَنٌ، فَكُلَّمَا كَثُرُوا كَانَ أَطْيَبُ لِلنَّفْسِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
تَنْبِيهٌ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو الْقَاسِمِ السُّيُورِيُّ يُخَالِفُهُ فِيهِ الْمَازِرِيُّ، وَقِيلَ: سُئِلَ الْمَازِرِيُّ رحمه الله عَنْ عَشَرَةِ رِجَالٍ مِنْ عَوَالِمِ النَّاسِ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلًا شَهِدُوا عِنْدَ عَدْلَيْنِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُدُودِ، فَيَقُولُ الْعُدُولُ تَحَقَّقَ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ صِحَّةُ الشَّهَادَةِ فَشَهِدَ بِهَا الْعُدُولُ، وَالْعُدُولُ غَيْرُ عَارِفِينَ بِالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَهَلْ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَقْبَلَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ وَيَحْكُمَ بِهَا عَلَى مَنْ حَضَرَ أَوْ غَابَ؟ وَالْعَوَامُّ وَالْعُدُولُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَاضِرُونَ فِي الْبَلَدِ، فَأَجَابَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إمْلَاءٌ لِمَا اسْتَفْتَيْنَا عَنْ حَاكِمٍ حَكَمَ بِمِثْلِ هَذِهِ
الشَّهَادَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ بِذَلِكَ يُنْقَضُ؛ لِأَنَّهُ عُوِّلَ فِيهِ مَعْنًى لَيْسَ بِهُنَالِكَ فِي النَّظَرِ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ تُحْكَى عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْقَاسِمِ السُّيُورِيِّ: أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ النَّظَرَ يَقْتَضِي قَبُولَ مِثْلَ هَذَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الشَّاهِدُونَ السَّامِعُونَ يَعْرِفُونَ طُرُقَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَأَمَّا إذَا كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَاَلَّذِي عِنْدَنَا أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ لَا مِنْ عَارِفٍ بِالْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَلَا مِنْ غَيْرِ عَارِفٍ بِهَا وَقَدْ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي الَّذِي أَمْلَيْنَاهُ، قَدِيمًا، وَكَشَفْنَا سِرَّ الْقَوْلِ فِيهِ وَحِكْمَةُ الشَّرْعِ نَتِيجَتُهَا الْمَنْعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لِمِثْلِ هَذَا، وَقَدْ وَقَفْنَا لِلطَّبَرِيِّ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى مَنْعِ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ فِي الْأَمْوَالِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَرْعٌ: وَفِي الطُّرَرِ لِأَبِي إبْرَاهِيمَ عَلَى التَّهْذِيبِ فِي بَابِ اللُّقَطَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِذَا شَهِدَ قَوْمٌ غُرَبَاءُ لَا يُعْرَفُونَ لَمْ يُقْبَلُوا، قَالَ ظَاهِرُهُ وَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَظَاهِرُهُ كَانَتْ الشَّهَادَةُ فِي الْأَمْوَالِ أَوْ فِي الْجِرَاحِ.
وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ إذَا قَدِمَتْ الرُّفْقَةُ فَشَهِدَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فِي الْإِجَارَاتِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ، إذَا تُوُسِّمَتْ فِيهِمْ الْمُرُوءَةُ فِي الْعَقْلِ وَالْقَوْلِ. قَالَ اللَّهُ عز وجل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] ، وَقَوْلُهُ فِي الْإِجَارَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِي الْجِرَاحِ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي الْوَاضِحَةِ عَلَى الْمُحَارِبِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ بِالتَّوَسُّمِ، وَفِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ أَنَّ شَهَادَةَ الْغُرَبَاءِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْأَمْوَالِ لَا فِي الْجِرَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفُوا بِعَدَالَةٍ، وَيَقْبَلُهُمْ الْحَاكِمُ بِالتَّوَسُّمِ إذَا لَمْ يَسْتَرِبْ مِنْهُمْ شَيْئًا قَطْعَ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ مَضْرُوبٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْمَعُ فِيهِمْ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ تَجْرِيحٌ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ إنَّمَا جَازَتْ لِلضَّرُورَةِ يَعْنِي لَا يَجْرَحُهُمْ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ، وَأَمَّا جُرْحُهُمْ بِالْعَدَاوَةِ أَوْ لِأَجْلِ الْقَرَابَةِ فَيَسْمَعُ ذَلِكَ فِيهِمْ، فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ يَعْرِفُهُمْ الْحَاكِمُ؟ قِيلَ لَهُ: وَرَدَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُعْرَفُ الرَّجُلُ مِنْ سَاعَتِهِ إذَا تَكَلَّمَ، وَمِنْ يَوْمِهِ إذَا لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَقَوْلُهُ فِي التَّهْذِيبِ يَعْنِي لَمْ يُقْبَلُوا. يَعْنِي لَيْسَ كَوْنُهُمْ غُرَبَاءَ بِاَلَّذِي يُبِيحُ شَهَادَتَهُمْ، وَظَاهِرُهُ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا، وَمَعْنَاهُ مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الِاسْتِفَاضَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَظَاهِرُهُ كَانَ فِي الْبَلَدِ عُدُولٌ أَمْ لَا.
وَقَالَ صَاحِبُ الِاسْتِغْنَاءِ إذَا كَانَ الْبَلَدُ لَا عُدُولَ فِيهِ، فَإِنَّهُ يُكْتَفَى فِيهِ بِالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، وَيَسْتَكْثِرُ بِحَسَبِ خَطَرِ الْحُقُوقِ، قَالَ وَظَاهِرُ مَا قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُزَادُ مِنْهُمْ عَلَى النِّصَابِ.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ فِي شَهَادَةِ الْمَسْلُوبِينَ عَلَى الْمُحَارِبِينَ، أَنَّهَا تَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِي قَطْعِ السَّبِيلِ دُونَ مَا ادَّعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ الْمَالِ إلَّا أَنْ يَقِلَّ فَيَجُوزَ.
وَفِي مُفِيدِ الْحُكَّامِ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَسْلُوبِ لِغَيْرِهِ وَقِيلَ تَجُوزُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ فِيمَا قَلَّ.
وَقَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ حَبِيبٍ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُحَارِبِ فِي الْمَالِ جَائِزَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقَا بَيْنَ قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ.
فَرْعٌ: وَفِي الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِيِّ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ تَجُوزُ إذَا كَانُوا عُدُولًا، فَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا أَوْ نَصَارَى أَوْ غَيْرَ عُدُولٍ لَمْ يُقْبَلُوا، وَلَكِنْ إذَا اسْتَفَاضَ ذَلِكَ مِنْ الذِّكْرِ وَكَثُرَ الْقَوْلُ أَدَبَهُمْ الْإِمَامُ أَوْ نَفَاهُمْ.
فَرْعٌ: وَمِمَّا أُجِيزَتْ فِيهِ الشَّهَادَةُ لِلضَّرُورَةِ، شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ الْبَدْوِيِّ عَلَى الْقَرَوِيِّ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ تَأَوَّلَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الشَّهَادَةُ فِي الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ، وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الشَّهَادَاتِ فِي الدِّمَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا، مِمَّا تُطْلَبُ بِهِ الْخَلَوَاتُ مِنْ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُقْصَدُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ يَجُوزُ فِي الْمَالِ وَالنِّكَاحِ، إذَا قَالَ مَرَرْت بِهِمَا أَوْ كُنْت جَالِسًا فَسَمِعْته يَقُولُ بِكَذَا، أَوْ بَاعَ مِنْهُ كَذَا أَوْ تَنَازَعَا فِي النِّكَاحِ فَأَقَرَّا بِالْعَقْدِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْوَثَائِقِ وَالصَّدَقَاتِ وَلَا فِيمَا يُقْصَدُ فِيهِ الِاسْتِعْدَادُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ، وَشَهَادَتُهُمْ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَالْعُدُولُ عَنْ أَهْلِ الْعَدْلِ إلَيْهِمْ رِيبَةٌ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ مُخَالَطَتُهُ لَهُمْ أَوْ يَجْمَعُهُمْ وَإِيَّاهُ سَفَرٌ فَتَجُوزُ.
مَسْأَلَةٌ: وَفِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَضْدَادِ لِأَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَكُلُّ مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ فِيهِ حُضُورُ الشُّهُودِ مِنْ الْمَلَاهِي وَغَيْرِهَا، فَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ جَائِزَةٌ بِلَا مُرَاعَاةِ عَدَالَةٍ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ، قَالَ وَمِثْلُهُ فِي مُنْتَخَبِ الْأَحْكَامِ يُرِيدُ لِابْنِ أَبِي زَمَنِينَ فَانْظُرْهُ.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: إذَا كَانَتْ قَرْيَةٌ لَيْسَ فِيهَا عُدُولٌ وَبَعِدُوا عَنْ الْعُدُولِ، فَهَلْ تَجُوزُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْأَمْوَالِ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَا يُعْرَفُ لِلْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمْ فِيهِ خِلَافٌ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَة وَنَقَلَهُ الْبَاجِيُّ، وَرَأَيْت قَوْمًا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَحْكُونَ عَنْ أَشْيَاخِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ بِجَوَازِ
الشَّهَادَةِ مِمَّنْ ذَكَرْنَاهُ، وَيُعْمِلُونَهَا لِلضَّرُورَةِ كَشَهَادَةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ مَعَ التَّوَسُّمِ، وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ يَحْتَجُّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف: 82] يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ رَاشِدٍ فِي كِتَابِ الْمَذْهَبِ - إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ لَا عُدُولَ فِيهِ قُبِلَتْ شَهَادَةُ أَمْثَلِهِمْ.
مَسْأَلَةٌ: قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ فِي بَابِ السِّيَاسَةِ: نَصَّ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي النَّوَادِرِ عَلَى أَنَّا إذَا لَمْ نَجِدْ فِي جِهَةٍ إلَّا غَيْرَ الْعُدُولِ أَقَمْنَا أَصْلَحَهُمْ وَأَقَلَّهُمْ فُجُورًا لِلشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ وَيَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا نُضَيِّعُ الْمَصَالِحَ. قَالَ وَمَا أَظُنُّ أَحَدًا يُخَالِفُهُ فِي هَذَا، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ شَرْطٌ فِي الْإِمْكَانِ وَهَذَا كُلُّهُ لِلضَّرُورَةِ، لِئَلَّا تَنْهَدِرَ الدِّمَاءُ وَتَضِيعَ الْحُقُوقُ وَتَتَعَطَّلَ الْحُدُودُ، وَلِذَلِكَ أَجَازُوا شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْمَأْتَمِ وَالْأَعْرَاسِ وَالْحَمَّامِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُنَّ مِنْ الْجِرَاحِ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَأَجَازُوا شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَأَوْجَبُوا الْقَسَامَةَ بِشَهَادَةِ غَيْرِ الْعَدْلِ عَلَى رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ، وَأَجَازُوا تَرْجَمَةَ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْمَسْخُوطِ إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَأَجَازُوا الْحُكْمَ بِقَوْلِ الطَّبِيبِ النَّصْرَانِيِّ فِي الْعُيُوبِ وَفِي مَقَادِيرِ الْجِرَاحِ وَتَسْمِيَتِهَا، وَأَجَازُوا إشْهَادَ النِّسَاءِ فِي قِيَاسِهِنَّ الْجِرَاحَ حَيْثُ يَجُوزُ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ وَغَيْرُ ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، وَأَجَازُوا شَهَادَةَ السَّمَاعِ فِي الضَّرَرِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَشَهَادَةَ اللَّفِيفِ مِنْ النَّاسِ وَالْجِيرَانِ وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ عُدُولٍ، قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَجَازُوا فِي الشَّهَادَةِ فِي الرَّضَاعِ أَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى لَفِيفِ الْقَرَابَةِ وَالْأَهْلِينَ وَالْجِيرَانِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا كَالنِّسَاءِ وَالْخَدَمِ، أَنَّهُ اتَّصَلَ عِنْدَهُمْ أَنَّ فُلَانًا أَرْضَعَتْهُ فُلَانَةُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْضُرُهُ الرِّجَالُ فِي الْأَغْلَبِ وَلَا يَعْتَنِي الْأَهْلُونَ بِإِحْضَارِ عُدُولِ النِّسَاءِ لَهُ.
وَلِابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ السَّمَاعَ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ الثِّقَاتِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، مِنْ الْمُتَيْطِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ، وَمَعْنَى قَوْلُهُ أَنْ يَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى لَفِيفِ الْقَرَابَةِ، يُرِيدُ أَنَّ الْحَاكِمَ أَرْسَلَهُمْ لِيَشْهَدُوا وَيَكْشِفُوا عَنْ ذَلِكَ.