الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحويل لم يقع مع كثرة الفاعلين، لكن الحديث ليس فيه ما يدل على أن ذلك يقع ولا بد، وإنما يدل على كون فاعله متعرضاً لذلك، وكون فعله ممكناً لأن يقع فيه ذلك الوعيد، ولا يلزم من التعرض للشيء وقوع ذلك الشيء.
(الترغيب والترهيب 1/ 239)
هل الأمر بمتابعة الإمام في جلوسه في الصلاة منسوخ
؟
مداخلة: بالنسبة للحديث الذي ذكرناه آنفاً: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» بالنسبة
…
إذا صلى جالساً، يذكر الحميدي أن هذا منسوخ؟
الشيخ: وما الذي نسخه؟
مداخلة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى جالساً، وصلى الصحابة وقوفاً.
الشيخ: وهل يصح نسخ القول بالفعل؟ هذه دعوى مردودة، وذلك بأسباب كثيرة، فعل الرسول عليه السلام ليس فيه من القوة التشريعية ما في أقواله، فأفعاله المشروعة فضلاً عن أفعاله ما أقول غير المشروعة، وإنما أفعاله غير التعبدية، أفعاله المشروعة ليس لها من القوة ما لأقواله التشريعية، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء، حيث يقولون بأن أقواله عليه السلام شريعة عامة، أما أفعاله فقد وقد، فقد يمكن أن يكون فعل من أفعاله عليه السلام شريعة عامة، وعلى هذا جاء قوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، لكن قد لا يكون فعله عليه السلام شريعة عامة لسبب أو أكثر.
من ذلك -مثلاً- أن يفعل ما فعل بحكم حاجة أو ظرف أوجب ذلك عليه، أو فعله بحكم الإباحة المطلقة قبل مجيء قول من أقواله التي تعارض فعله، ولذلك ذكر بعض الأصوليين أنه إذا تعارض قوله عليه السلام مع فعله قُدِّم قوله على فعله، أي: إذا تعارضا تعارضاً متنافراً لا يمكن التوفيق بينهما.
أما إذا كان هناك مجال للتوفيق، فحينئذ نوفق بين قوله عليه السلام وبين فعله؛ فالآن هنا عندنا أمر من الرسول عليه السلام بأن يصلي المصلون خلف الإمام الجالس جالسين، وعندنا أن الرسول عليه السلام في مرض موته صلى بالناس جالساً، والناس يصلون خلفه قياماً، فالقاعدة أن لا نضرب أحد الحديثين بالآخر ما أمكن، وإنما نُوَفِّق بينهما، والآن لننظر هل هناك مجال للتوفيق أم لا؟
أول ما يبرز لنا الموضوع، هل الفعل يدل على الوجوب أم على الجواز، كل واحد منكم عنده شيء من الثقافة العلمية الشرعية، يستطيع أن يجاوب على هذا السؤال حتى نبنيه عليه، ففعله على وجوب ما فعل أم على الجواز، ما علمكم؟
مداخلة: على الجواز.
الشيخ: على الجواز، لكن «فصلّوا قياماً أجمعين» على ماذا يدل؟
مداخلة: الوجوب.
الشيخ: يدل على الوجوب.
حسناً، إذاً: الآن الفعل هنا أقوى دلالة أم القول؟ القول أقوى.
يمكن الجمع بينهما، يمكن إمكان ولا نقول أكيد، نقول: ما دام الرسول فعل فهو يدل على الجواز، لكنه قال، فيدل على المنع؛ إذاً: نعتبر فعله في آخر حياته قرينة على أن الأمر ليس بالوجوب. وهكذا خلصنا من دعوى النسخ؛ لأن هذا الفعل ليس معه قوة نسخ الأمر الذي هو قوله عليه السلام، لكن معه شيء من القوة يدل على أن هذا الأمر ليس للوجوب وإنما للاستحباب.
فنقول -حينئذ- على هذا الجمع -ولا أتبناه-: يجوز للناس أن يصلوا خلف الإمام الجالس قائمين، لكن الأفضل أن يصلوا جالسين، تنفيذاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً الرسول وصحابته ما نفذوه، بياناً للجواز؛ لأن الرسول في موقف كونه مبيناً لشرع الله، الأفضل له في أثناء قيامه بهذا الواجب التبليغي أفضل مما يفعله
المسلمون من الأمر المستحب بيانه.
هذا وجه من وجوه الجمع، نحن الآن مكرسين جهودنا كلها لإبطال دعوى النسخ، يعني: نقول أعوذ بالله، ما ينسخ قول الرسول عليه السلام، فعله؟
لا، فعله يبين أن الأمر ليس للوجوب.
لكن ما زال معنا أشياء أخرى تساعدنا على القضاء على قول النسخ قضاءً مبرماً.
شيء ثاني: دعوى النسخ يستلزم كل صورة من صور صلاة المقتدين بالإمام الجالس، بينما الصورة التي وقعت بزمن الرسول عليه السلام وجعلها الحميدي دليل نسخ، صورة قد لا تتكرر، وإن تكررت فنادر جداً، والنادر لا حكم له، أعني: الصورة: أن الرسول وَكَّل أبا بكر بأن يصلي بالناس إماماً، وفعلاً صلى أبو بكر بالناس إماماً، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه نشاطاً، فخرج ليقتدي بأبي بكر، فأبو بكر لما رأى الرسول خرج طار عقله فرحاً، هذا من جهة، من جهة أخرى شعر بأن الوكالة تبعه انتهت مدتها لأن الرسول وكله؛ لأنه ما يستطيع أن يصلي، وهذا جاء يصلي والحمد لله، تأخر، والرسول عليه السلام استلم نيابة عن وكيله، أي رجع الحكم إلى أصله، هنا هذه الصورة الضيقة، هذه نادرة أن تتحقق، لأن الصورة نقدر نلخصها، إمام ابتدأ الصلاة قائماً، ثم عرض له ما يقعده، في هذه الحالة الناس اقتدوا به وهو قائم، الآن يستمروا في صلاتهم قياماً؛ لأنه افتتحت الصلاة بإمام قائم، حضر الرسول عليه السلام ولا يقدر أن يصلي قائماً، صلى الناس خلفه قياماً، هذا جمع الإمام أحمد بن حنبل، فَيُفَرِّق بين إمام يبتدئ الصلاة من قعود، لا بد أن يقعدوا معه، أما إذا ابتدأ الصلاة وهو قائم، ثم عرض له ما يقعده فَيُتِمُّون هم قياماً، هذه الصورة لا تنسخ الحكم، لكن تقيده، نقول إن هذه الصورة إذا تكررت نعمل مثلما عمل الرسول والصحابة، أما المبدأ
…
«فصلوا جلوساً أجمعين» هذا رقم اثنين.
رقم ثلاثة: لا يمكن القول بنسخ هذا الحكم الشرعي، «فصلوا جلوساً أجمعين» ؛ لأن الحكم جاء في الشرع معلَّلاً بعلة قائمة أبد الدهر، لم تُنْسَخ، فالحكم
الذي رُبِط بهذه العلة لا يمكن أن يُنْسخ، ما هي العلة؟ التشبه بالكفار، حيث جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رمته دابته فأُصِيب في أكحله -عرق في العضد- وحضرت صلاة الظهر فلم يستطع الصلاة قياماً، فصلى قاعداً، فأشار إلى أصحابه أن اجلسوا، هذه الصورة التي لا تنسخ، لأنه ابتدأ الصلاة قاعداً، والجماعة قال لهم: اقعدوا، قال لهم:«كدتم أن تفعلوا -آنفاً- فعل فارس بعظمائها، يقومون على رؤوس ملوكهم، إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قائماً فصلوا قياماً، وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين» .
هذا الحديث واضح جداً أن أمره عليه السلام المقتدين خلفه من قيام هو لكي لا تظهر المشابهة بين الرسول الجالس من جهة وأصحابه القائمين خلفه، وبين ملوك فارس والذين يقفون خلفهم معظمين لهم، إبطالاً لهذه الظاهرة الوثنية، قال لهم: اقعدوا.
فادعاء أن هذا الحكم منسوخ لا يتماشي مع بقاء هذا الحكم الشرعي، وهو النهي عن التشبه بالكفار.
إذاً: ادِّعاء نسخ هذا الحديث أبعد ما يكون عن الصواب.
ثالثاً وأخيراً: هذا التخريج كله، أو هذا التوجيه كله قائم على أساس أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة كان إماماً، وأن أبا بكر كان مقتدياً به مع الجمهور المصلين خلفه، لكن هناك روايات أخرى؛ بأن الإمام كان أبو بكر نفسه، والرسول اقتدى به، الأمر الذي حمل كثيراً من علماء الحديث مع كون الحديث في الصحيحين، على القول بأن الحديث مضطرب، أي ما عُرف بعدُ هل كان مأموماً، لأنه في بعض الروايات هكذا وبعض الروايات هكذا.
فالراجح أن القصة تَكَرَّرت، فمرة كان هو الإمام، ومرة كان هو المأموم.
ويرجح أخيراً أنه لا نسخ في ذلك أنه هناك رواية في مصنف ابن أبي شيبة بسند صحيح عن طاووس مرسلاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم، في هذه الحادثة التي صلى بالناس إماماً جالساً، والناس خلفه قياماً، قال لهم:«إنما جعل الإمام ليؤتم به .. » إلى آخر
الحديث: «وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين» .
الآن هنا ينقلب الموضوع، فيقال: حكم صلاة المقتدي قائماً خلف الإمام الجالس هو المنسوخ؛ لأنه آخر ما صدر من الرسول في رواية طاوس المرسلة، أنه في هذه الحادثة في آخر حياته، قال لهم: لا تفعلوا هكذا، وإنما إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين.
طبعاً: هنا يوجد من بعض إخواننا من له مشاركة معنا في علم الحديث، فقد يخطر في البال أنت تقول أن هذا من رواية طاوس، والحديث مرسل، والحديث المرسل من أنواع الحديث الضعيف، لماذا تحتج فيه؟
نقول لا: نحن لا نحتج به، إنما نستأنس به استئناساً، يعني محينا حديث طاوس من الوجود بالمَرَّة ما خسرنا شيئاً، لأن حجتنا ليست قائمة عليه، حجتنا قائمة على الأحاديث الصحيحة الثابتة في البخاري ومسلم:«وإذا صلى جالساً، فصلوا جلوساً أجمعين» لكننا في صدد رد قول من يقول إن هذا الحديث منسوخ بفعل الرسول، أجبنا بالعديد من الأجوبة، ومن جملتها أن الرسول في هذه الحادثة قال:«وإذا صلى جالساً، فصلوا جلوساً أجمعين» ، ولسنا بحاجة أن نصحح الرواية بهذه المناسبة، وإنما نكتفي بالاستشهاد بها، لا الاستدلال بها، وفيما اتُّفِق عليه بين الشيخين من صحة الحديث الذي ذكرناه في أول هذا الكلام، وفيه:«وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين» .
فإذاً: ادعاء الحميدي رحمه الله نسخ هذا الحديث أبعد ما يكون عن القواعد العلمية، ولكل جواد كبوة؛ بل كبوات.
(الهدى والنور /250/ 51: 49: 00)