الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما في السرية؛ فالإمام لا يقرأ إلا سراً، بحيث لا يقرع صِماخ المقتدين؛ فلا يمكن أن يحصل التدبر لهم فيها - وإن كانوا منصتين -؛ فلا يظهر لوجوب السكوت عليهم فيها وجه معتد به.
والقول بأن وجوب السكوت أمر تعبدي غير معقول: مطالب بالدليل المعقول، على أن كثيراً من أصحابنا وغيرهم أخذوا بعموم الآية المذكورة، وعدم اختصاصها بالموارد المأثورة؛ حتى فَرَّعوا عليه كون سماع القرآن مطلقاً - ولو خارج الصلاة - فرض عين أو كفاية، فلو كان المأمور فيها أمرين - الاستماع، والسكوت؛ الأول في الجهر، والثاني في السر -؛ لزم أن يقال بوجوب سكوت من يقرأ القرآن عنده خارج الصلاة سراً؛ كفاية أو عيناً، وهو خلاف الإجماع بلا نزاع. اهـ.
وإنما أمر تعالى بالاستماع بعد الأمر بالإنصات؛ لأنه قد يقول قائل: أقرأ وأسمع.
كما يفعله بعض المتزهدين في خطبة الجمعة؛ فإنك تراهم يذكرون الله بالسبحة، ولو سألتهم؛ لقالوا: نحن نسمع ونقرأ! و: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} .
فكان من الحكمة أن يُتْبعَ الأمرَ بالاستماعِ الأمرَ بالإنصات. هذا ما ظهر لي. والله أعلم.
[أصل صفة الصلاة (1/ 336)]
الإنصات لقراءة الإمام من تمام الائتمام به
وجعل الإنصات لقراءة الإمام من تمام الائتمام به؛ فقال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر؛ فكبروا، وإذا قرأ؛ فأنصتوا» .
كما جعل الاستماع له مُغْنِيَاً عن القراءة وراءه؛ فقال: «من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة» ، هذا في الجهرية.
وهذا الحديث كالآية المذكورة سابقاً في الدلالة على وجوب الاستماع لقراءة القرآن من الإمام، ولكنه أعم منها - كما لا يخفى -، وهو - كهي - يشمل بعمومه «الفَاتِحَة» وغيرها، وقد خصه الشافعية وغيرهم ممن سبق ذكرهم بما عدا «الفَاتِحَة» . وقالوا بوجوب قراءتها، وقد ذكرنا فيما سبق أن الحديث الذي احتجوا به على الوجوب لا يدل على ذلك؛ بل على الإباحةِ، والإباحةِ المرجوحة - كما سلف بيانه عن الكشميري -.
وحينئذٍ فإذا كان لا بد من المصير إلى التخصيص؛ فإنما يخصص بجواز قراءة «الفَاتِحَة» جوازاً مرجوحاً؛ لا بوجوبها، وحينئذٍ فالتباين بين هذا الجواز وبين النهي المستفاد من الآية والحديث يسيرٌ؛ لأن النتيجة ترك القراءة والاستماع للإمام، وهذا هو المطلوب.
هذا يقال؛ إن أردنا أن نذهب مذهب الجمع، ولكننا قد بينا أن حديث الجواز منسوخ بحديث أبي هريرة وبسبب نزول الآية، وبين أيضاً شيخ الإسلام أن الاعتبار يدل على بقاء الآية على عمومها؛ فيقال عن الحديث - الذي نحن في صدد الكلام عنه - ما قيل فيها.
وإليك الآن بقية كلام شيخ الإسلام المتعلق بالحديث؛ قال: «وهذا يبين حكمة سقوط القراءة عن المأموم، وأن متابعته لإمامه مقدمة على غيرها حتى في الأفعال، فإذا أدركه ساجداً؛ سجد معه، وإذا أدركه في وتر من صلاته؛ تشهد عقب الوتر، وهذا لو فعله منفرداً؛ لم يجز، وإنما فعله لأجل الائتمام؛ فدل على أن الائتمام يجب به ما لا يجب على المنفرد، [ويسقط به ما يجب على المنفرد]» .
وقال في موضع آخر «2/ 412» : فكيف لا يستمع لقراءته، مع أنه بالاستماع يحصل له مصلحة القراءة؟ ! فإن المستمع له مثل أجر القارئ.
ومما يبين هذا اتفاقُهُم كلهم على أنه لا يقرأ معه فيما زاد على «الفَاتِحَة» ؛ إذا جهر، فلولا أنه يحصل له أجر القراءة بإنصاته له؛ لكانت قراءته لنفسه أفضل من استماعه
للإمام، وإذا كان يحصل له بالإنصات أجر القارئ؛ لم يَحْتَجْ إلى قراءته، فلا يكون فيها منفعة، بل فيها مضرة شغلته عن الاستماع المأمور به.
وقد تنازعوا إذا لم يسمع الإمام؛ لكون الصلاة صلاة مخافتة، أو لبعد المأموم، أو لطرشه، أو نحو ذلك؛ هل الأولى له أن يقرأ، أو يسكت؟ والصحيح: أن الأولى أن يقرأ في نفسه، وأنه أنفع؛ لأنه لا يستمع قراءة يحصل له بها مقصود القراءة. فإذا قرأ لنفسه؛ حصل له أجر القراءة، وإلا؛ بقي ساكتاً، لا قارئاً ولا مستمعاً، ومن سكت غير مستمع ولا قارئ في الصلاة؛ لم يكن مأجوراً بذلك ولا محموداً؛ بل جميع أفعال الصلاة لا بد فيها من ذكر الله تعالى؛ كالقراءة والتسبيح والدعاء أو الاستماع للذكر، وإذا قيل بأن الإمام يحمل عنه فرض القراءة؛ فقراءته لنفسه أكمل له، وأنفع له، وأصلح لقلبه، وأرفع له عند ربه. والإنصات لا يؤمر به إلا حال الجهر، فأما حال المخافتة؛ فليس فيه صوت مسموع حتى ينصت له. اهـ.
[فائدة]: والذي يتبادر من الحديث أن معناه: إن قراءة الإمام تكفيه، وتنوب عن قراءته؛ أي: المؤتم؛ فلا تجب عليه. وشرحه الشيخ علي القاري في «شرح مسند أبي حنيفة» «ص 150» بقوله: «أي: فلا يجب على المأموم قراءة، ولا يجوز له أن يقرأ وراءه، وظاهره الإطلاق، يعني: سواء كان في الصلاة السرية أو الجهرية» . اهـ.
وفي دلالة الحديث على أنه لا يجوز القراءة وراءه بُعْدٌ ظاهر، وقد وجهه الشيخ ابن الهُمَام بقوله «239»:«إن القراءة ثابتة من المقتدي شرعاً؛ فإن قراءة الإمام قراءة له، فلو قرأ؛ لكان له قراءتان في صلاة واحدة، وهو غير مشروع» . وقد رد عليه أبو الحسنات بقوله «148» : «إن قراءة الإمام ليست بقراءة المأموم حقيقة؛ لا عرفاً ولا شرعاً، وإنما هي قراءة له حكماً، فلو قرأ المؤتم؛ لا يلزم إلا أن تكون له قراءتان: إحداهما حقيقية، وثانيهما حكمية. ولا عائبة في اجتماعهما، ولا دليل يدل على قبح اجتماعهما» .
وقد أوضح ذلك في حاشيته المسماة: «غيث الغمام» ، فراجعه؛ فإنه - كما قال: -
من النفائس.
واعلم أن علماءنا قد اختلفوا في القراءة خلف الإمام على أقوال: الأول: أنهم اختاروا ترك القراءة، لا أنهم لم يجيزوه؛ بأن كرهوه أو حرموه.
الثاني: أنها مكروهة كراهة تحريم. وهو الذي اختاره ابن الهمام، وتبعه كثيرٌ ممن بعده، وبه صرح جمعٌ ممن قبله.
الثالث: أن قراءة الفَاتِحَة مستحبة في السرية، ومكروهة في الجهرية في رواية عن محمد - كما ذكره صاحب «الهداية» و «الذخيرة» وغيرهما -، وهو رواية عن أبي حنيفة - كما ذكره الزاهدي في «المجتبى» -، وهو الذي اختاره أبو حفص الكبير - من كبار تلامذة الإمام محمد -، وغيره من الحنفية.
والرابع: أن الإنصات واجب؛ كما ذكره الكيداني.
وذكر في بحث المحرمات: أن ترك كل واجب في الصلاة حرام. فيعلم منه أنه قائل بحرمة القراءة خلف الإمام.
والخامس: أن الصلاة تفسد بالقراءة خلف الإمام، ويكون فاسقاً - كما نقله في «الدر» «1/ 508 - بحاشية ابن عابدين» -.
وقد ذكر هذه الأقوال أبو الحسنات اللكنوي في «الإمام» «ص 21 - 29» معزوة إلى مصادرها المشهورة من كتب الحنفية، ثم قال:«فهذه خمسة أقوال لأصحابنا، أضعفها وأوهنها؛ بل أوهن جميع الأقوال الواقعة في هذه المسألة: القول الخامس. وهو نظير رواية مكحول الدمشقي الشاذة المروية عن أبي حنيفة: أن رفع اليدين عند الركوع وغيره مفسد للصلاة، وبناءُ بعض مشايخنا عليها عَدَمَ جواز الاقتداء بالشافعية، وكلاهما من الأقوال المردودة التي لا يحل ذكرها إلا للقدح فيها؛ وإن ذُكرا في كثير من الكتب الفقهية لأصحابنا الحنفية، وقد أوضحت ذلك في رسالتي «الفوائد البهية في تراجم الحنفية» ؛ فلتطالع، وليت شعري هل يقول عاقل بفساد الصلاة بما ثبت فعله عن النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من أكابر أصحابه؟ ! ولو فرضنا
أنه لم يثبت؛ لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من أصحابه، أو ثبت وصار منسوخاً؛ فغايته أن يكون خلاف السنة، أو مكروهاً تنزيهاً، أو تحريماً، وهو لا يستلزم فساد الصلاة به، بل لو فرضنا أنه حرام حرمة قطعية؛ لا يلزم منه فساد الصلاة أيضاً؛ فليس ارتكاب كل حرام في الصلاة مفسداً لها، ما لم يكن منافياً للصلاة، ومن المعلوم أن قراءة القرآن في نفسها ليست بمنافية للصلاة؛ بل الصلاة ليست إلا الذكر والتسبيح والقراءة».
قال: «فكيف يصح الحكم بفساد الصلاة بها، وكون ذلك مكروهاً أو حراماً بما لاح من الدلائل لا يستلزم ذلك؟ ! وإني - والله - لفي تعجب شديد من صنيع الذين نقلوا هذا القول في كتبهم ساكتين عليه، ولم يحكموا بكونه غلطاً مردوداً، وغاية ما قالوا: إن عدم الفساد أصح.
ولم يحكموا بكونه صحيحاً، وكون ما يخالفه غلطاً صريحاً، وغاية ما استدل أصحاب هذا القول الواهي بعض آثار الصحابة؛ كأثر:«من قرأ خلف الإمام؛ فلا صلاة له» (1).
وستعرف أنه مما لاُ يحتج به، ولا يستقيم الاستدلال به. وما ذكره السَّرَخْسِي ومن تبعه: أن فساد الصلاة مذهبُ عدة من الصحابة (2).
يقال له: أي صحابي قال
(1) أخرجه ابن حبان في «الضعفاء» ، وابن الجوزي من طريقه، واتهم فيه أحمد بن علي بنسليمان. كذا في «الدراية» (95)، وقال البخاري (6):«لا يصح» . [منه]
(2)
ومثل هذه المبالغة قول صاحب «الهداية» : «ولا يقرأ المؤتم خلف الإمام، وعليه إجماع الصحابة» . وإن العاقل المنصف ليعجب كل العجب من مثل هذَه العبارات والمبالغات! فإنها تدل على أحد شيئين: الأول: التعصب الذي يعمي ويصم. والثاني: الجهل بكتب الحديث، وعدم الاشتغال بمطالعتها، حتى ولو كانت من كتب الحديث المذهبية؛ ككتاب «شرح معاني الآثار» للطحاوي؛ فإنه قد ذكر فيه الخلاف بين الصحابة في هذه المسألة! ولعل ذلك هو منشأ قول بعض مشايخنا: علم الحديث صنعة المفاليس!
وأي الأمرين كان؛ فهو عظيم بالنسبة لهؤلاء الأئمة الذين هم القدوة لمن بعدهم. ومثل ذلك في الغرابة قول صاحب «العناية شرح الهداية» : «وقوله: «وعليه إجماع الصحابة» . قيل: فيه نظر؛ لأن منهم من يقول بوجوب قراءة {الفَاتِحَة} . وأُجِيبَ بأن المراد به إجماع أكثر الصحابة؛ فإنه روي عن ثمانين نفراً من كبار الصحابة منع المقتدي عن القراءة خلف الإمام «. ثم قال: «وليس بشيء؛ لأن هذا المقدار =
قال: «وهذا هو مذهب جماعة من المحدثين - جزاهم الله يوم الدين -، ومن نظر بنظر الإنصاف، وغاص في بحار الفقه والأصول، متجنباً الاعتساف؛ يُسلِّم تسليماً يقينياً أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف العلماء فيها، فمذهب
= ليس أكثر الصحابة. وموضع الغرابة تعيين هذا العدد بما ليس له مستند؛ فأين النص بذلك؟ ! ومن الذي اتصل بهذا العدد من الصحابة فأخبروه عن رأيهم في ذلك؟ ! ».
وقد نقل هذا القول أيضاً العيني وغيره. قال أبو الحسنات (160): «وهذا وأمثاله، وإن ذكره كبار الفقهاء؛ لكن أكثرهم ليسوا بمحدثين، ولم يسندوها بأسانيد معتبرة في الدين، ولا عَزَوْها إلى المخرجين المعتبرين؛ فكيف يطمئن به في إثبات أمر من أمور الدين؟ ! » . اهـ.
وفي أمثال هؤلاء الفقهاء قال الشيخ علي القاري في «موضوعاته» (ص 85): «حديث: «من قضى صلاة من الفرائض في آخر جمعة من شهر رمضان؛ كان ذلك جابراً لكل صلاة فاتته في عمره إلى سبعين سنة» . باطل قاطعاً؛ لأنه مناقض للإجماع، على أن شيئاً من
العبادات لا يقوم مقام فائتة سنوات. ثم لا عبرة بنقل «النهاية» ، ولا بقية شراح «الهداية» . فإنهم ليسوا من المحدثين، ولا أسندوا الحديث إلى أحد من المخرِّجين».
وأي مخرِّج خرَّج هذا؟ ! وأي راوٍ روى هذا؟ ! ومجرد نسبته إليهم - حاشاهم عنه - من دون سند مسلسل محتج برواته مما لا يعتد به! وقريب من هذا القول: قول الحرمة، ووجوب ترك القراءة؛ فإنه مجرد دعوى لا بد من دليل وتعليل، ولا يختاره - بل ولا يذكره - إلا مثل الكيداني الذي عد الإشارة في التشهد من المحرمات! وقد رد عليه علي القاري المكي في رسالته: «تزيين العبارة
بتحسين الإشارة» ورسالة: «التزيين بالتدهين» رداً بليغاً، وحقق ثبوت الإشارة - بل سنيتها - بالدلائل الواضحات.
وأما القول بالكراهة التحريمية؛ فهو الذي ذهبت إليه جماعة غفيرة من الحنفية، واستدلوا عليها بدلائل سيأتي ذكرها، مع ما لها وما عليها؛ بحيث يتنبّه الجاهل، وَيَنْشَطُ الفاضل الكامل.
وأحسن هذه الأقوال: هو القول الثالث، وهو - وإن كان ضعيفاً رواية؛ لكنه - قوي دراية - كما ستقف عليه -».
ثم ذكر أدلتهم في ذلك (ص 74 - 159)، وناقشها، وبين ما لها وما عليها، وأقواها
سنداً - بعد الآية الكريمة: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} حديثُ أبي هريرة في المنازعة، ثم حديثه:«وإذا قرأ؛ فأنصتوا» ، ثم هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه - وقد بينا ونقلنا عنه أيضاً أن كل ذلك لا يدل على المنع من القراءة في السرية؛ إلا
إن كان فيها تخليط وتشويش -، ثم بقية الأحاديث - وأكثرها ضعيفة الأسانيد؛ مع أنها كلَّها لا تدل على الحرام -. ثم قال: