الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الجماعة الثانية في المسجد
السؤال: شيخنا: في مسألة تَكْرَار الجماعة الثانية في المسجد، يسأل أحد الإخوة عن أثر أنس الذي رواه البخاري في صحيحه، ما هو الرد عليه؟
الجواب: طبعاً، أنت تريد ما هو الجواب؟
السائل: نعم.
الشيخ: أما نحن لا نَرد عليه، أولاً: أُريد أن أُلْفِتَ النظر، أنّ هذا الأثر في صحيح البخاري معلق وليس بمسند، لكنه أُسْنِدَ في خارج الصحيح بالسَّند الصحيح، فهو ثابت عن أنس.
لكن ليس له علاقة بالموضوع الذي تبنيناه، اتباعاً لما كان عليه السلف من الناحية العملية، ثم اتباعاً لأكثر الأئمة الأربعة، الذين نَصُّوا على أنه لا تُشرع تكرار الجماعة في المسجد الواحد.
لكننا نقول تبعاً لهم -أيضاً-: هذا المسجد الذي لا تُشْرَع فيه تكرار الجماعة، ليس كل مسجد، وإنما له مواصفات، المسجد الذي لا تشرع فيه تكرار الجماعة هو مسجد له إمام راتب، وله مؤذن راتب.
هذا المسجد إذا دخل إليه جماعة ووجدوا الإمام قد صلى يصلون فرادى كما قال الإمام الشافعي في «كتاب الأم» .
إذا عرفنا هذين الشرطين اللذين فحواهما: أنه ليس كل مسجد تُكْره فيه صلاة الجماعة الثانية، وإنما مسجد بهذين الشرطين.
ورجعنا إلى أثر أنس بن مالك، ليس في هذا الأثر أن هذا المسجد كان له إمام راتب، ومؤذن راتب، وحينئذٍ: فليس له علاقة بالموضوع إطلاقاً.
لأننا لا نقول نحن بكراهة تكرار الجماعة في كل مسجد، وإنما في مسجد تَوفَّر
فيه الشرطان السابقان -ذكراً-: الإمام الراتب، والمؤذن الراتب، هذا من ناحية.
من ناحية أخرى: ممكن للإنسان أن يقيم جماعة في مسجد له إمام راتب، وله مؤذن راتب، لكن يكون له عذر، أنا أعرف من نفسي حينما كنت سائراً من دمشق إلى حلب، كانت تدركنا الصلاة في الطريق، فندخل مسجداً، نراقب المسجد، فيه أحد؟ لأن الناس صلوا وانتهوا، -والمسجد في قرية- بطبيعة الحال-، فإن وجدنا ناساً هناك صلينا فرادى، وإن لم نجد صَلّينا في زاوية من المسجد، لأن المحذور الذي يُخشى أن يقع من القول بتكرار الجماعة، هو أن يتحقق هذا الواقع المؤلم، الموجود اليوم في كثير من المساجد هنا وهناك.
مسجد بني أمية في دمشق، من أكبر المساجد في العالم الإسلامي كُلِّه، كنا ندخل بعد صلاة العصر قريباً من المغرب، ونجد أناساً جماعةً يُصَلّون صلاة عصر، -الله أعلم كم جماعة أُقِيمت ما بين العصر وما بين المغرب-، في هذا تفريق لجماعة المسلمين.
فالحِكْمَة من عدم شرعية الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب ومؤذن راتب، هو المحافظة على تكثير الجماعة الأولى، فإذا ما تساهل المسلمون -كما هو واقع اليوم، عَدَّدوا الجماعات-، قَلَّت الجماعة الأولى، ولذلك تجد المساجد لا تمتلئ بالمصلين في الجماعات بخلاف يوم الجمعة لأن كثيراً من المسلمين يصلون الجمعة فقط، لكن من أسباب كثرة الجماعة يوم الجمعة، وقِلَّتِها في الصلوات الخمس، هو أنهم يُصَلّون جماعات متعددة بعد الجماعة الأولى، فمن باب سد الذريعة، وسد تقليل الجماعة الأولى، مُنِعَ عقدُ جماعةٍ ثانية بعد الإمام الأول.
ففي مثل الصورة التي صَوَّرتُها آنفاً: إذا كنا مسافرين -مثلاً- ودخلنا مسجداً، نعلم أن له إماماً راتباً، ومؤذناً راتباً، لكن ما أحد يوجد في المسجد، فراح نصلي وننصرف، ولا نُبْقِي هناك أثراً لمثل هذه الجماعة الثانية، فممكن أن يكون وضع أنس في تلك الصلاة التي صلاها، لاحظ ما نلاحظه نحن، ويمكن أن يكون غير ذلك.
لكن الذي يمكن أن يقال -على أقلّ احتمال- أن هذا الأثر لا يوجد فيه وصف لذاك المسجد، وأنه كان له إمام راتب، ومؤذن راتب، ولذلك: فلا يُنْقَض بهذا الأثر، ما ثبت من تعامل المسلمين في القرون الأولى، في محافظتهم على الجماعة الأولى.
ثم نُذَكِّر بما يناقض هذا الأثر- لو فرضنا أن فيه دليلاً لشرعية الجماعة الثانية- يعارضه مع الفَرَضية المذكورة، أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه خرج مع صاحبين له إلى المسجد لصلاة الظهر فيما أذكر، وإذا بالناس يخرجون من المسجد، يعني: فاتت صلاة الجماعة، فما دخل بهم المسجد، وإنما رجع فصلى في الدار، وهو يعلم يقيناً قولَ الرسول عليه السلام:«أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة» ، فما الذي منعه أن يدخل المسجد ويصلي في المسجد جماعة؟ يعلم أنه لا تشرع الجماعة الثانية في مسجد صلى فيه الإمام، ولذلك آثر أن يصلي جماعةً في الدار، على أن يصلي جماعةً في المسجد، لأنه هكذا جرت سنة الرسول عليه السلام والصحابة، كما قال الحسن البصري:«كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلوا المسجد، ووجدوا الإمام قد صلى صلوا فرادى» ، وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة بسند قويّ عن الحسن البصري، وتَبنّاه الإمام الشافعي، فذكره بأنه قضية مُسَلَّمة، فقال: من الأدلة التي يُؤَيد بها قوله: «إذا دخل جماعةٌ المسجد فوجدوا الإمام قد صلى، صَلّوا فرادى» ، ثم ذكر السبب قال:«لأنه لم يكن من عمل السلف» ، قال: «وأَنَّا قد حفظنا: أن جماعةً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاتتهم الصلاة مع الجماعة، فصَلّوا فرادى، وقد كانوا قادرين على أن يُجَمِّعُوا في المسجد مرةً أخرى، ولكنهم لم يفعلوا؛ لأنهم كرهوا أن يُجَمِّعُوا في مسجدٍ مرتين، هذا كلام الإمام الشافعي، وهو صريح المعنى، وصريح الاستدلال بالأثر الذي رواه ابن أبي شيبه في المصنف.
(الهدى والنور/ 8/ 55: 53: .. )