الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلاصة حكم القراءة خلف الإمام
ويجب على المقتدي أن يقرأها [أي الفاتحة] وراء الإمام في السرية، وفي الجهرية أيضا إن لم يسمع قراءة الإمام، أو سكت هذا بعد فراغه منها سكتة ليتمكن فيها المقتدي من قراءتها، وإن كنا نرى أن هذا السكوت لم يثبت في السنة.
[تلخيص الصفة فقرة 54].
نَسْخُ القراءةِ وراءَ الإمام في الجهرية
وكان صلى الله عليه وسلم قد أجاز للمؤتمين أن يقرؤوا بها وراء الإمام في الصلاة الجهرية؛ حيث كان في صلاة الفجر، فقرأ، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ؛ قال:«لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ » . قلنا: نعم؛ هذّاً يا رسول الله! قال: «لا تفعلوا؛ إلا [أن يقرأ أحدكم] بـ «فاتحة الكتاب» ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها».
هذًّا: بتشديد الذّال وتنوينها.
قال الخطابي «1/ 205» : «والهذّ: سرد القراءة، ومداركتها في سرعة واستعجال» .
والحديث حجة في القراءة خلف الإمام في الجهرية، ولكنه لا يدل على الوجوب؛ بل على الإباحة - كما يأتي بيانه قريباً -.
قال الخطابي في «المعالم» «1/ 205» : «هذا الحديث نص بأن قراءة «فاتحة الكتاب» واجبة على من صلى خلف الإمام، سواء جهر الإمام بالقراءة، أو خافت بها». ثم قال «206»: «وقد اختلف العلماء في هذه المسألة؛ فروي عن جماعة من الصحابة أنهم أوجبوا القراءة خلف الإمام. وروي عن آخرين أنهم كانوا لا يقرؤون. وافترق الفقهاء فيها على
ثلاثة أقاويل: فكان مكحول والأوزاعي والشافعي وأبو ثور يقولون: لا بد من أن يقرأ خلف الإمام فيما يجهر به، وفيما لا يجهر».
وقال الزهري ومالك وابن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق: يقرأ فيما أسر الإمام فيه، ولا يقرأ فيما جهر به (1).
وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي: لا يقرأ أحد خلف الإمام؛ جَهَرَ الإمام أو أَسَرَّ. واحتجوا بحديث رواه عبد الله بن شداد مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان له إمام؛ فقراءة الإمام له قراءة» . انتهى.
قلت: وهذا الحديث المرسل صحيح - كما سيأتي -؛ ولكنه لا يدل على المنع من القراءة كما صنع علماؤنا! وإنما يدل على أن قراءة الإمام تغني عن قراءة المؤتم، بحيث إنه لو لم يقرأ؛ جازت صلاته. وأما حكم قراءته هو؛ فإنما يؤخذ من أحاديث أخرى.
وأعدل هذه المذاهب الثلاثة، وأقربها إلى الصواب: أوسطها، وهو قول الإمام الشافعي رحمه الله في القديم - كما في «المهذب» و «شرحه» «3/ 313 - 314» وغيرهما -.
وليس مع القائلين بالوجوب دليل؛ إلا هذا الحديث، وإلا حديث عبادة بن الصامت:«لا صلاة لمن لم يقرأ بـ: «فاتحة الكتاب» . وقد مضى.
وفي الاستدلال على ذلك بهذا الحديث الذي نحن بصدده نظر بيِّن؛ وذلك لأنه قد تقرر في كتب الأصول: أن الاستثناء من حكم يدل على نقيضه فحسب، ولا دلالة له على زيادة حكم. فقوله صلى الله عليه وسلم:«لا تفعلوا» ؛ نهي عن القراءة خلف الإمام في الجهرية، واستثناؤه قراءة «الفَاتِحَة» يدل على عدم النهي عن قراءة «الفَاتِحَة» ، يعني: عدم كراهتها وحرمتِها. ولا دلالة فيه بوجه من الوجوه على ركنية «الفَاتِحَة» أو
(1)(فائدة): وقد ذهب إلى مشروعية القراءة خلف الإمام في السرية دون الجهرية الإمامُ الشافعي في القديم، ومحمدٌ تلميذ أبي حنيفة في رواية عنه اختارها الشيخ علي القاري وبعض مشايخ المذهب، وهو قول الإمام الزهري، ومالك، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وجماعة من المحدثين وغيرهم، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. [منه].
وجوبها، فإن ثبت بدليل آخر؛ فذاك، وإلا؛ فلا دلالة فيه على ما راموا منه من إثبات الوجوب أو الركنية.
قال بعض المتأخرين من المحققين الحنفيين: ونظيره: قوله تعالى: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا} ؛ فنهى الله عز وجل عن تصريح المواعدة في العِدَّة، واستثنى منه التعريض والكناية. فالتعريض والكناية بالاستثناء لم يبق حراماً؛ لا أنه صار فرضاً أو واجباً، ولا يبعد أن يكون قريباً من الكراهة.
قال تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} ؛ فهل هذا الإغماض والمسامحة واجب عند أحد؟ ! إنما هو إغضاء على القذى وسحب الذيل على الأذى.
فثبت من هذا الاستثناء: أن الاستثناء بعد النهي لا يفيد الوجوب والركنية، وإنما يفيد الإباحة؛ لا سيما إذا وردت هذه الإباحة على سببٍ حادثٍ؛ لا ابتداءً؛ فلا يبقى ريبة في أنها إباحة مرجوحة غير مستحسنة ولا مرضية، ويدل على ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة مرسلاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «هل تقرؤون خلف إمامكم؟ » .
قال بعض: نعم. وقال بعض: لا. فقال: «إن كنتم لا بدَّ فاعلين؛ فليقرأ أحدكم بـ: «فاتحة الكتاب» في نفسه».
فمن قال: لا؛ لم يأمره بالإعادة. ثم قال: «إن كنتم فاعلين» - ووزانه وزان قول الله عز وجل: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} -، ثم قال:«فليقرأ أحدكم» ؛ فلفظُ: «أحدكم» ، لغير الاستغراق.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» ؛ فهو بيان وصف في «الفَاتِحَة» ، وأنها من وصفها كذا، لا حكم به الآن ها هنا، والوصف لا يستلزم الحكم ما لم يحكم، ولم يحكم إلا بالإباحة.
نعم؛ يكون حكماً سابقاً، وهو إذن لغير المقتدي، ثم سبق هنا ثانياً لغير المقتدي
على أنه بيان وصف في «الفَاتِحَة» ، فجعلوه حكماً الآن، وليس كما ينبغي! وهو كقولنا لابن سَبْعٍ: صلِّ؛ فإنه لا دين لمن لا صلاة له. فالصلاة ليست بواجبة على ابن سبع بالإجماع؛ ولكن علله بقوله: فإنه لا دين لمن لا صلاة له. يعني: لما كان شأن الصلاة هكذا - بأنه لا دين لمن لا صلاة له -؛ صح أن يقال لابن سبع: صل. من غير وجوب ولا افتراض.
فكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفعلوا إلا بـ: أم القرآن» ؛ حكم بالإباحة، ثم علل لاستثناء «الفَاتِحَة» بقوله:«فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» ، يعني: لما كان شأن «الفَاتِحَة» هكذا - وهو أنه لا صلاة إلا بها -؛ صح استثناؤها من النهي، ولعل ضمير الشأن في قوله: «فإنه لا صلاة
…
». إلخ. أليق بهذا اهـ. كلام هذا المحقق.
وهو غاية في التحقيق، لا يدع مجالاً لأحد بعد هذا البيان أن يحتج به على الوجوب.
ولذلك؛ فقد تنبه لهذا المعنى الصحيح المحقِّقُ السندي، فقال: ظاهر هذه الرواية إباحة القراءة بـ: {الفَاتِحَة} ، ولو جهر الإمام. فلعل من يمنع عنها يقول: إن النهي مقدم على الإباحة عند التعارض. ولا يخفى أن المعارضة حال السر مفقودة؛ فالمنع حينئذٍ غير ظاهر؛ ولهذا مال محمد وبعض المشايخ وغيرهم إلى قراءة «الفَاتِحَة» حال السر، ورجحه علي القاري في «شرح موطأ محمد» ، ورأى أنه الأحوط. اهـ.
وإذ ثبت أن الحديث لا يدل على الوجوب - بل على الإباحة؛ بل الإباحة المرجوحة -؛ دل هو بعد ذلك على أن حديث عبادة - وهو حجتهم الثانية والأخيرة على الوجوب - لا يشمل المقتدي؛ بل هو خاص بغيره - الإمام والمنفرد -؛ لأنه قد استثنى المؤتم من إيجاب «الفَاتِحَة» عليه؛ مع الرخصة له بقراءتها، وإنما يبقى النظر في هذه الرخصة؛ هل ظلت باقية أم ارتفعت؟ والظاهر لنا أنها ارتفعت؛ بدليل الحديث الذي بعد هذا في الكتاب، ونحن وإن كنا نعترف أنه لا نص لدينا يدل على أنه متأخر الورود عن هذا الحديث الذي نحن بصدد التعليق عليه؛ فإن النظر الصحيح، والرأي الرجيح يقتضي ذلك؛ لأنه ليس من المعقول أن يكون عليه الصلاة والسلام نهى الصحابة عن القراءة وراءه في ابتداء الأمر، ثم يخالفونه؛
فيقرؤون وراءه «الفَاتِحَة» وغيرها! هذا بعيد جداً أن يصدر من الصحابة، وهم يتلون قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
فثبت بذلك أن النهي كان بعد الرخصة، ولعل هذا هو وجه قول علمائنا بنسخ هذا الحديث - وإن كنت لم أقف على شيء من كلامهم في توجيه نسخه -، ويكون عليه الصلاة والسلام قد تدرج في النهي، ولم يفاجئهم بذلك؛ فنهاهم أولاً عن القراءة وراءه إلا بـ:«الفَاتِحَة» ، ثم نهاهم عن القراءة كلها، وذلك بمقتضى قوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
قال الشافعي في القديم: «فهذا عندنا على القراءة التي تسمع خاصة» . ويؤيد ذلك سبب نزول الآية؛ كما قال مجاهد: كان رسول الله يقرأ في الصلاة، فسمع قراءة فتى من الأنصار؛ فنزلت:{وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} .
أخرجه البيهقي «2/ 155» وغيره.
وقد قيل في سبب نزولها غير ذلك من الأقوال، ولكن ما ذكرنا أرجحُها؛ كما بينه أبو الحسنات اللكنوي في «إمام الكلام» «ص 77 - 101» . وقد بسط القول في هذا الكتاب على هذا الحديث تخريجاً، وتحقيقاً لفقهه، مع إنصاف؛ بما لا تجده في كتاب. فراجعه «187 - 211» .
وقد استفدنا منه بعض ما ذكرنا في هذا البحث. ومثله في التحقيق من الناحية الفقهية العلامة الشيخ محمد أنور الكشميري في كتابه «فيض الباري على صحيح البخاري» «2/ 271 - 280» ، ولولا أن يطول البحث؛ لنقلت كلامه؛ فإنه غاية في التحقيق، وفيه شيء جديد لا تراه في الكتب المعروفة، لكن فيما ذكرناه عن ذلك المحقق كفاية، وكلامه كان خلاصة كلام الكشميري هذا، وأظنه هو الكشميري نفسه، لكني وجدت كلامه معلقاً عندي في بعض التعليقات منسوباً إليه غير مسمى، ولا أذكر الآن مصدره، وغالب ظني أنه في كتابه هذا المذكور. والله أعلم. وأما المذاهب الأخرى؛ فيأتي قريباً ذكر أدلتها.
[أصل صفة الصلاة (1/ 327)]