الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قراءة الإمام بقراءات مختلفة في الصلوات وحكم التلفيق بين القراءات المختلفة في الصلاة الواحدة
السؤال: شيخنا لو تكرمت بَيِّن لنا بالتفصيل: هل يجوز لقارئ القرآن أن يقرأ باختلاف الرواية سواء كان إماماً داخل الصلاة أو خارج الصلاة، والدليل على الإيجاز، بارك الله فيك؟
الشيخ: إذا كانت الرواية التي يَقْرأ بها قد تلقاها من أهل العلم المُتَخَصِّصين بالقراءات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجوز له أن يقرأ بها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أُنزل القرآن على سبعة أحرفٍ» وقد فَسَّر كثير من العلماء أن الأحرف هي أوجه القراءة التي كان يقرأ الرسول عليه السلام بها في حياته، وجاءت أحاديث كثيرة تُبَيِّن أن بعض الصحابة حينما كان يسمع من آخر قراءةً لم يسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم وكان يبادر إلى إنكارها، ولكنه يتثبت ويذهب مع صاحبه المخالف له في القراءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيعرض عليه ما سمع من صاحبه من القراءة التي هو كان لا يعرفها من قبل، فيقول الرسول عليه السلام: هكذا أنزلت.
فإذا كانت القراءة التي يقرؤها هذا الإمام أو ذاك من القراءات الصحيحة، والمتلقاة من أهل الاختصاص بالقراءات، فهو أمر جائز ومشروع.
ولكن عندي ملاحظة شخصية بأن هذه القراءة الصحيحة، إذا لم تكن مشهورة بين بعض الناس، فلا ينبغي للإمام أن يفجأهم بها، لأن من جهل شيئاً عاداه، أما إذا كان في مجلس خاصٍ أو كان يؤم ناساً يعرفونه ويعرفهم، ويعرفون أنه يقرأ بقراءة أخرى صحيحة، ولو أنها كانت غير معروفة لديهم، لكنهم بحكم مصاحبتهم لهذا الإمام أو لهذا القارئ عرفوا منه أنه يقرأ بقراءة صحيحة، وإن كانت غير مشهورة سابقاً لديهم، في هذه الحالة له أن يقرأ ذلك، أما إذا أمَّ الناس وفيهم أشكال وألوان، فلا ينبغي أن يفجأهم بالقراءة التي لا يعرفونها، وهذا من باب الأدب الذي تلقيناه
من بعض الصحابة الذين كانوا يقولون: «خاطبوا الناس على قدر عقولهم» أو نحو ذلك من المعنى، «أتريدون أن يكذب الله ورسوله» .
فما ينبغي للعالم أو للإمام أن يفجأ الناس بشيء يستنكرونه، ولابد من أن يقدم إليهم مقدمة، وهذه المقدمة قد تتيسر في بعض الأحيان وقد لا تتيسر.
وأنا أذكر لكم بهذه المناسبة أنني كثيراً ما كنت أسافر إلى الحج والعمرة، فأنزل في بعض البلاد أو القرى ممن نعرف هناك من بعض إخواننا، فيُقَدِّمونني إماماً، فأقول للمقدم لي، أقول: يا أخي أنت تعرف أني أنا مسافر، وأن المسافر عليه أن يقصر وجوباً، فأنا سأصلي وأقصر، والناس غير معتادين، هؤلاء مقيمين يريدون يصلون العصر -مثلاً- خلفي يصلوا أربع ركعات أنا أريد أصلي ركعتين، فيقول لي وهو على شيء من العلم: ما عليكم يا أخي، خَلِّيهُم يتعلموا، وهذا كلام صحيح، وفعلاً الذي خشيت وقع بالرغم من أني ما كبَّرت إلا بعد أن عملت محاضرة وأنا واقف، وبينت لهم السنة، وأني أنا إمام الآن يقترح علي أن أؤمكم وأنا أقتدي بسنة الرسول عليه السلام، ولذلك فسأصلي ركعتين، وأنا سوف لا أسلم عن يميني تسليماً تسمعونه، سأسلم سراً حتى ما تسلموا معي، أسلم سراً، وأخاطبكم بلسان عربي مبين فأقول لكم:«أتموا صلاتكم فإنا قومٌ سفر» ، ثم ألتفت يساراً وأقول: السلام عليكم.
بالرغم من المحاضرة الطويلة العريضة بعد ما سلمت، ناس أخطؤوا وسَلَّموا معي، وناس أصابوا وقاموا، لكن ماذا فعلوا؟ قاموا للذي قدَّمني: يا أخي! لماذا قدمت لنا هذا الرجل عمل علينا شوشرة وو .. إلخ.
فالناس -الحقيقة- مثل هذه الصلاة يجب أن تطرق مسامعهم المرة بعد المرة والكَرَّة بعد الكَرَّة حتى يرسخ في أذهانهم أن الإمام المسافر يصلي ركعتين، فإذا سلم عرفوا أن عليهم أن يتموا صلاتهم، فلا ينبغي للعالم الحكيم أن يفجأ الناس ويضربهم هكذا ضرباً بالأمور ولو كانت حقاً، وإنما يجب أن يُمَهِّد لها تمهيداً، وهذا من آداب الرسول عليه السلام التي ظهرت في كثير من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا في الواقع يفتح لنا باباً من العلم يجب أن نُذَكِّر به، وهو أن العالم يجب عليه فعلاً أن ينصح الناس وأن يُرْشدهم وأن يُذَكِّرهم، كما قال تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] ولكن عليه أن يُمَهِّد لذلك.
لقد جاء في «الصحيحين» البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة فاتحاً دخل جوف الكعبة وصلى فيها ركعتين ثم خرج، فأرادت السيدة عائشة أُمُّ المؤمنين رضي الله عنها أن تقتدي بزوجها ونبيها صلى الله عليه وسلم، وتصلي في جوف الكعبة، وتعلمون أن الكعبة الآن كما كان في ذاك الزمان لا يمكن الدخول إلى جوف الكعبة إلا بسُلَّم، وهكذا ورث المسلمون الكعبة بهذا الباب العالي، فلو أرادت امرأة بل لو أراد رجل أن يدخل الكعبة فيجب أن يُجْهد نفسه ويُتْعِبَها حتى يستطيع أن يصعد، فقال للسيدة عائشة: يا عائشة! صَلِّي في الحِجر فإنه من الكعبة، وإن قومَك لما بنوا الكعبة قصرت بهم النفقة، أي: أخرَجُوا الحجر عن الكعبة، وما استطاعوا أن يبنوا الكعبة ويكون في جوفها الحجر، والشاهد أن الرسول عليه السلام قال في تمام حديثه:«ولولا أن قومك حديثو عهد بالشرك لهدمت الكعبة، ولبنيتها على أساس إبراهيم عليه السلام» . -أي: لأدخل الحجر إلى الكعبة- «ولجعلت له بابين مع الأرض، باباً يدخلون منه، وباباً يخرجون منه» .
ما فعل الرسول عليه السلام هذا، لماذا؟ خشي أن يُحْدِث هَدْمُ الكعبةِ ضَعْضَعةً في قلوب بعض الناس الذين كانوا بحاجة إلى تقوية إيمانهم، فأخَّر الرسول عليه السلام هذا الأمر إلى أمر وإلى وقت يريده الله تبارك وتعالى.
وللقصة تتمة -مع الأسف- حيث قيَّض الله لهذا البيت الحرام، ولهذه الكعبة المشرفة من نَفَّذ رغبة الرسول عليه السلام في زمنه، ألا وهو عبد الله بن الزبير، ولكن السياسة الغاشمة أعادت البيت إلى ما كان عليه، بحُجَّة أن هذا الذي فعل وأحدث هذا الأمر خلف البيت الذي تركه الرسول عليه السلام عليه، لم يكن قد بلغه حديث عائشة، والذي نفذ حديث عائشة هو ابن أختها عبد الله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر أخت السيدة عائشة، فعبد الله بن الزبير لما تمكن من هذا الإصلاح نفذه فعلاً، لكن كان ذلك في فتنة قامت بينه وبين الأمويين، وبصورة
خاصة عبد الملك بن مروان، وكان نهاية الفتنة مع الأسف أنه قتل وصلبه الحجاج .. إلخ ما هنالك.
فلما استوطن الأمر لعبد الملك أمر بإعادة الكعبة إلى ما كانت عليه في زمن الجاهلية.
وفي مجلس هادئ -في مجلسه- تعرَّض لهذه القضية، فأحد الحاضرين تبليغاً للأمانة العلمية قال له: يا أمير المؤمنين! إن ما فعله عبد الله بن الزبير هو ما حَدَّث به النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وذكر هذه القصة، فقال عبد الملك: لو علمت ذلك لتركته كما فعل -مع الأسف الشديد-.
الشاهد: أن من السياسة الشرعية أن يتلطف الإنسان في إرشاد الناس وفي هدايتهم بما يستطيع من أساليب، ولا نعني بهذا -أبداً- مسايرة الناس بكتمان العلم وكتمان الحقيقة، هذا شيء آخر، فالواقع أن الناس كل الناس ما بين إفراط وتفريط، والتفريط أكثر وهو إضاعة العلم وإضاعة النصيحة، والمغالون الذين لا يتخذون الأساليب الحكيمة في تعليم الناس وفي تبليغهم، ولذلك الحق كما قال تعالى:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، يعني: لا يكتم العلم باسم السياسة الشرعية، ولا ينفذ العلم بالقوة باسم «بلغوا الناس -مثلاً- ولو آية» لا، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
فإذاً: إذا قرأ الإمام قراءة ثابتة ومتلقاة من أهل العلم المتخصصين، الأصل أنه لا شيء في ذلك، ولكن يجب أن لا يفاجئ الناس بما لا يعلمون، وأن يُمَهِّد لما يريد أن يُعْلِمَهم به.
(الهدى والنور / 260/ 53: 29: 00)
السؤال: نفس الموضوع يعني، هناك من يقول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الصحابة الكرام رضي الله عنهم لم يُنْقَل لنا عنهم بأنهم قرؤوا بخلط الرواية.
الشيخ: خلط الرواية؟
السائل: خلط الرواية، فيعتبروا أن هذا الأمر بدعة، خلط الرواية، أو قراءة
الرواية من باب آخر في غيرها ملاحظة أخرى مثلاً البلاد العربية هنا تقرأ لحفص، فإذا قرأت لهم بورش في رواية كاملة دون الخلط أيضاً ينكرون هذا.
الشيخ: هذا الذي أجبت عنه، أما الآن ففي كلامك سؤال ثاني، وهو الخلط بين قراءتين في آن واحد.
السائل: يقولوا: إن هذه بدعة، وما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بالخلط أو الصحابة الكرام.
الشيخ: نعم، هذا ينبغي الجواب عنه: الحقيقة أن هذه الشُّبهة أو هذا الاعتراض سمعته من بعضهم من قديم، الذين يقولون: هذا بدعة، هم شأنهم شأن المُقَلِّدة في المذاهب الأربعة، أي: كما أن المقلدين للمذاهب اليوم، عامة أهل العلم والمشايخ المعروفين يوجبون على عامة المسلمين أن يتمذهبوا بمذهب واحد من هذه المذاهب الأربعة، فإذا المسلم عاش -مثلاً- بين أقوام يتمذهبون بمذهب أبي حنيفة، ثم ثبت لديه مسألة ليست مُقَرَّرة في مذهبه وإنما في مذهب غيره كالشافعي أو مالك مثلاً، فهم يوجبون عليه التزام المذهب ولا يجيزون له أن يعمل بما ثبت في المذهب الآخر، وهذا نحن نراه خطأ أحياناً، ونراه صواباً أحياناً أخرى، أي: هذا الإنكار تارة يكون خطأ وتارة يكون صواباً، يكون خطأ إذا كان المتمذهب بالمذهب المعين اتبع رأياً في مذهب آخر اتباعاً لهواه، وكما يقول العلماء والفقهاء: تتبعاً للرخص، هذا يُنْكَر عليه، أما إذا أخذ برأيٍ في مذهب آخَر لأنه اقتنع به وبدليله، فهذا هو الواجب عليه، ومن ينكر عليه يكون مخطئاً.
هذا -طبعاً- خلاصة الجواب، وهذا يحتاج إلى بحث طويل، ولكن أمَهِّد به للإجابة عن الخلط بين القراءات، فأقول: كما أن المذاهب الأربعة كل إمام يأخذ بما ترجح عنده من العلم، كذلك القراء السبعة أو العشرة كل منهم يأخذ بما ثبت لديه، علماً بأن مجال الخطأ في المسائل الفقهية أكثر من الخطأ في القراءات المتوارثة أو المتواترة كما يقولون، ذلك لأن
المسائل الفقهية يدخلها الاجتهاد، يدخلها القياس، فيمكن أن يقع المجتهد في خطأ فيؤجر عليه، أما القراءات فهي مستندة على النقل فقط.
إذا كان هذا معروفاً -فحينئذٍ- إذا كان هذا القارئ على قراءة حفص، ثبت لديه قراءة ورش في آية ما، فجمع في قراءة واحدة بين قراءة حفص في آية وقراءة ورش في آية أخرى، هذا كالذي جمع بين التمذهب بالمذهب الحنفي والتمذهب في مسألة واحدة أو أخرى في المذهب الشافعي؛ لأن ذلك ثبت لديه، فقولهم أن هذا بدعة هو في الواقع -حسب وجهة نظري- غفلة عن أن منبع أئمة القراء هو كمنبع أئمة المذاهب الأربعة، هو الرسول عليه السلام، مع الفارق الكبير الذي ذكرته آنفاً أن الأئمة في الفقة يمكن أن يقولوا قولاً بالاجتهاد والرأي، أما في القراءة ما فيه إلا التلقي والنقل، فيكون هنا الأمر أن الرسول قرأ بقراءة حفص أكيد، وقرأ بقراءة ورش أكيد، فما المانع أن يقرأ الإنسان بهذه وبهذه، وليس عند القراء -أبداً- دليل، وهذا مستحيل أن يكون أن الرسول قرأ بقراءة حفص أحياناً، وتارة أخرى قرأ بقراءة ورش، وإلى آخر ما هنالك من القراءات المعروفة، لا يوجد شيء من هذا، لكن كل واحد أخذ بما ثبت لديه، أي: أن الرسول كان يقرأ بهذا، وكان يقرأ بهذا، وكان يقرأ بهذا.
من أشهر الأشياء التي ممكن يفهمها الناس كلهم: الفاتحة، فيها قراءتان متواترتان فيما يتعلق ب {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} و {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، فالرسول عليه السلام كان يقرأ مرة مالك ومرة ملك، لكن ما كان يلتزم أنه إذا قرأ مالك فهو يقرأ ما بعده على مذهب حفص؛ لأنه حينئذٍ نقول -كما يتوهم بعض الجهلة- أن الرسول كان حنفياً أو كان شافعياً، هذا ما يقوله إنسان؛ لأن المذاهب متأخرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يتلقون منه ليس العكس تماماً، لذلك: المهم إذا ثبت قراءة من القراءات، فيجوز للقارئ أن يقرأ بهذه وأن يقرأ بهذه، ولا مانع من ذلك، والذي يقول هذا بدعة، حسبنا أن نقول له: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ولا يستطيع إلى ذلك سبيلاً.
(الهدى والنور / 260/ 05: 45: 00)