الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالشرطين المذكورين في أول كلامنا هذا، وهو أن يكون له إمام راتب ومؤذن راتب كما هو الشأن في صلاة الجمعة.
(رحلة النور: 35 ب/00: 37: 37)
الانتظار للجماعة الثانية
مداخلة: سئل شيخ الإسلام عن رجل ينتظر الجماعة الثانية، فأجاب رحمه الله: إذا تأكد من قيام جماعة ثانية، فلينتظر ليصلي معهم، فهل يُفهم من ذلك أن شيخ الإسلام يقول بجواز الجماعة الثانية في المسجد، وهل يصح قَوْلُه؟
الشيخ: لا شك أن الجواب، أن رأيه هذا ما نراه صواباً
…
فتجميع الجماعة الثانية، واللواتي بعدها يعود من الناحية العملية «بالمسخ» على تجميع الجماعة الأولى، كلما كثرت الجماعات بعد الجماعة الأولى، كلما تفرَّقت الجماعة الأولى وقَلَّ عددها، وهذا أمر مشاهد.
أما الأدلة التي توحي إلينا أن هذه الجماعة الثانية -فضلاً عما وراءها- لا تُشْرع، فهو أننا نرى الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم آمر رجالاً فيُحضروا حطباً، ثم أخلُف إلى أناس يُدْعَون إلى الصلاة ثم لا يجيبون، فأُحَرِّق عليهم بيوتَهم، والذي نفس محمد بيده لو يعلم أحدهم أن في المسجد مرماتين حسنتين لشهدها» يعني: صلاة العشاء، فهذا الحديث يشعرنا بأنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة أخرى، لأنها لو كانت موجودة، لم تكن حجته عليه السلام قائمة على أولئك المتخلفين عن صلاة الجماعة خلفه عليه السلام، لأنهم سيقولون: نحن نصلي مع الجماعة الثانية أو الثالثة أو غيرها، لكن الحديث يشعرنا شعوراً قوياً جداً، أنه لم يكن في عهد الرسول عليه السلام إلا جماعة واحدة، ولذلك تقوم الحجة على المتخلفين عنها.
يضاف إلى هذا الحديث: الأحاديث التي فيها الوعيد الشديد على المتخلفين عن صلاة الجماعة، منها: حديث ابن مسعود في صحيح مسلم، وهو حديث طويل، يقول فيه:«إنهم كانوا يرون المتخلف عن صلاة الجماعة، أنه منافق معلوم النفاق» ، فلا يشك واحد بأن هذا الحديث أو ذاك محمول على الجماعة الأولى، و-حينئذٍ-: لا تجوز الجماعة الثانية، ولا تحقق الغرض المنشود، من هذا الوعيد الشديد من الرسول عليه السلام بالنسبة للمتخلفين عن صلاة الجماعة.
كذلك -مثلاً- الحديث الذي يأمر المصلي، بأن ينطلق إلى المسجد حينما يسمع منادي الله يقول: «حَيّ على الصلاة، حي على الفلاح
…
» لما جاءه عمرو ابن أُم مكتوم ليسأله هل له رخصة في أن يتخلف عن صلاة الجماعة، فأجابه في أول الأمر بأنه له ذلك، حينما عرف أنه أعمى، وأنه تَضُرّه الأحجار والأشجار
…
إلى آخر ما ذكر من الأعذار في الحديث.
لكن الرسول عليه السلام، وكأنه أوحي إليه بوحي جبريل، قال له: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب.
فإذا كان هذا الضرير، ومع تلك الأعذار التي وصفها ببلاغته، لم يُعذر بعدم الاستجابة للمؤذن حين يقول: حَيَّ على الصلاة، فهل يُعْذَر المتخلفون عن الصلاة وهم أقوياء وأصحاء؟ لا شك أنهم لا يُعْذَرون.
فإذا قيل بشرعية الجماعة الثانية، فمعنى ذلك: أنها لهم باب وعذر، ليتداركوا ما فاتهم من التخلف عن صلاة الجماعة.
ثم في فتوى شيخ الإسلام رحمه الله مخالفة أخرى -في زعمي- لأن هناك حديثاً في سنن أبي داوود عن معاذ بن جبل أو في قصة معاذ بن جبل بأنه عليه السلام قال فيها: «اصْنَعوا ما يَصْنع الإمام» .
لأن قبل تحكيم هذا الحكم في الإسلام، كان مما هو مشروع في السنة: أنه حين يدخل داخل المسجد ويقف في الصف، يسأل من كان في الصف يُصَلّي: أيُّ ركعة
هذه؟ يقول له المصلي: هذه الركعة الثانية، فهو يصلي الركعة الثالثة لوحده، ثم ينضم إلى الإمام ويُسَلِّم معهم، ثم نُسِخَ هذا الحكم بنصوص كثيرة، منها قوله تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، فلا يجوز لمن كان يصلي أن يتكلم، وهذا الحكم نُسِخَ بمناسبة مجيء معاذ بن جبل إلى المسجد، وجد الرسول عليه السلام في الصلاة، فدخل في الصلاة، وما سأل كما كان يسأل مَن كان قبله، لما سَلّم عليه الصلاة والسلام، وعرف ما فعل معاذ قال لهم:«اصنعوا ما يصنع الإمام، فإذا كان الإمام راكعاً فاركعوا، وإذا كان ساجداً فاسجدوا» .
ويضاف إليه الحديث المعروف في الصحيحين: «إذا أتيتم الصلاة فأتوها وعليكم السلام والوقار، ولا تأتوها وأنتم تسعون، فما أدركتم فَصَلُّوا وما فاتكم فأتمّوا» فإذا أدرك المسبوقُ الإمامَ في التشهد، فعليه بناء على هذا الحديث:«فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» أن يقتدي بالإمام وإن تأخّر عنه.
هذا لو كانت الجماعة الثانية مشروعة، أما وهي غير مشروعة، لما ذكرنا من أدلة ومن أدلة أخرى، فأولى وأولى أن لا يجوز لهذا المسبوق داخل المسجد، والإمام جالس في التشهد، أن ينتظر وأن لا يفعل، وأن لا ينضم إلى الإمام، لأن هذه فيها مخالفة صريحة للإمام.
ثم مما يشعرنا بأن الجماعة الثانية وما بعدها، لا تشرع في الإسلام، أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان قد أُوحي إليه بشرعية الجماعة الثانية، مع وجود الإمام الذي يسميه الفقهاء «بالإمام الراتب» لكان مجال هذا التشريع في صلاة الخوف أولى وأولى.
ونحن نلاحظ في كل الكيفيات التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، وفيها ما صح وما لم يصح، ومع ذلك فكلُّها وجميعها، تتفق على أن الإمام في صلاة الخوف واحد، وأنه لا يخفاكم أن صلاة الحرب، صلاة الخوف تتطلب شيئاً من التيسير على الناس، بينما نلاحظ أن صلاة الخوف كان يصليها الرسول عليه السلام في صور، منها: أنه إذا كان خارج المدينة، يصلي بالناس ركعتين قصراً، ويصلي
الناس خلفه جماعتين على التَتَابُع، كل جماعة تُصَلِّي خلفه ركعة.
فالرسول عليه السلام كان يقوم تُجاه العدو، فيُصَلِّي خلفه صف من الناس، ويبقى الصف الآخر حارساً، فإذا صلى الركعة الأولى، جلس الذين صَلُّوا خلفه هذه الركعة وسَلّموا، ثم انصرفوا، وبقي الرسول عليه السلام قائماً في الركعة الثانية، حتى تعود الجماعة التي كانت في الحراسة فتقتدي به عليه السلام فيُسَلِّم بهم، فيكون له ركعتان، ولكلٍ من الجماعتين ركعة ركعة.
أحياناً: كانوا يَصُفُّون جميعاً، إذا كان العدو في القبلة، بحيث يراه الرسول عليه السلام، لكن مع ذلك فيه حرص شديد على الحراسة، فإذا ركع الرسول عليه السلام وسجد، ركع معه الصف الأول وسجد، وبقي الصف الثاني قائماً يحرسه، فإذا قام الرسول عليه السلام إلى الركعة الثانية ركع هؤلاء وسجدوا، ثم قاموا واشتركوا مع الرسول عليه السلام في الركعة الثانية وسلم بهم جميعاً.
فنحن نقول بالتعبير الشامي: شو ها اللبكة هذه؟ من شان التضييق هذا والتشديد، خَليِّه يصلي الرسول عليه السلام مع جماعة وينصرف، ويأمر أبا بكر أو غيرَه يصلي بالجماعة الثانية
…
وهكذا، وما يكون فيه هذا التضييق وهذا التشديد، في المحافظة على وَحْدة الإمام.
هذا في صلاة الخوف، في صلاة الحرب! فكيف نحن نفرق الجماعة الأولى إلى جماعات وجماعات، ونرى بعض الجماعات تُصَلِّي صلاة العصر، وأذان المغرب يُؤَذَّن، هكذا كان عندنا في المسجد الأكبر في دمشق، وهو المعروف بالمسجد الأُمَويّ، أو مسجد بني أمية.
وهذا ينبغي أن يذكِّرنا بالحديث المعروف، وأن نفهمه فَهْماً جَيِّداً، ألا وهو قوله عليه السلام:«صلاة الجماعة تفضُل صلاةَ الفذ بخمس وعشرين درجة -وفي رواية أخرى- بسبع وعشرين» .
الذين يذهبون إلى شرعية الجماعة الثانية، هم في الحقيقة يستدلون ببعض الأدلة،
منها: هذا الحديث، فهم يفهمون «ال» الجماعة هنا «ال» هو ليس للعهد عندهم، وإنما هو للاستغراق والشمول، كأنهم يفهمون الحديث:«صلاة الجماعة أيَّ: صلاة كل جماعة» ، سواء كانت الأولى، أو الثانية أو العاشرة، فهي تَفْضُل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة.
لكن الصواب أن «ال» -هنا- الجماعة، هي للعهد، وليس للاستغراق والشمول، وهذه قاعدة مُهمة جداً، وهي أَن تُفَسّر النصوص والأقوال النبوية، بالتطبيق النبوي.
فإذا كان هناك في العهد النبوي جماعات متعددة، كانت تقع في مسجده عليه السلام، وهو يُقِرِّها ويشاهدها ولا ينكرها، -حينئذٍ- حُقَّ لأولئك الناس، أن يفهموا «أل هنا» في الجماعة للاستغراق والشمول، بحيث تشمل كل جماعة، سواء كانت الأولى أو الأخرى.
لكن ما دام أنّا نقطع بأنه عليه السلام، لم تَقُم في مسجده إلا جماعة واحدة، من الأدلة التي ذكرناها -آنفاً-.
وهناك أدلة أخرى تؤكد الأدلة الأولى، منها: -مثلاً- ما ذكره الإمام الشافعي في كتابه «الأم» ، -وهو كتاب قَيّم جداً- يتعرض لهذه المسألة، فيقول بلسان عربي مبين:«إذا دخل جماعةٌ المسجد فوجدوا الإمام قد صلى، صلوا فرادى، وإذا صَلّوا جماعة أجزأتهم صلاتهم، ولكني أكره ذلك، لأنه لم يكن من عمل السلف» هنا الشاهد.
ثم يقول في الصفحة الأخرى: «وأنا قد حفظنا: أن جماعة النبي صلى الله عليه وسلم فاتتهم الصلاة مع الجماعة، فصلوا فُرَادى، وقد كانوا قادرين على أن يُجَمِّعوا مرة أخرى، ولكنهم لم يفعلوا، لأنهم كرهوا أن يُجَمّعوا في المسجد مرتين» فأصحاب الرسول لابد فاتتهم الجماعة، لأن الإنسان له أعذارُه، فما كانوا يعقدون جماعة ثانية، وإنما كل فرد يُصَلِّي وحده، هذا نص الإمام الشافعي في «الأم» .
وما حكاه عن الصحابة تعليقاً بغير سند، قد أسنده «الحافظ ابن أبي شيبة» في «مُصَنّفه» ، عن الحسن البصري:«بأن الصحابة كانوا إذا فاتتهم الصلاة مع الجماعة، صلوا فُرَادى» .
ويؤكد هذا المعنى: أنه لو قيل بشرعية الجماعة الثانية، وأن لها تلك الفضيلة، التي للجماعة الأولى، لعادت الجماعة الثانية أفضل من الأولى، وكيف ذلك؟
روى الإمام «النسائي» في «سننه» بسند قوي «عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من توضأ في بيته، فأحسن وضوءَه، ثم أتى مسجد الجماعة، فوجد الناس قد صَلّوا، كَتَب الله له مثل أجر صلاتهم، دون أن يَنْقُصَ من أجورهم شيء» فإذا صلى هذا الجماعة الثانية، وكتبت له الجماعة الأولى، صار له ثوابين، وهذا لا يقول به عاقل.
وأخيراً نقول: -كما أَلْمَحْنا في أول كلامنا في هذه المسألة- أننا نعرف عملياً أنا شخصياً وغيري- أنه إذا ما استقر في ذهن المسلم، أن هناك جماعةً ثانية مشروعة، فذلك يدفعه دفعاً إلى أن لا يتحمس للجماعة الأولى، واسأل به خبيراً؛ لأنني كنت أجلس في دكاني، وأنا معروف أنني نشأت ساعاتي المهنة، وكان المسجد بجانبي، فكنت أسمع الأذان والساعة بيدي، أُرَكِّب بُرغة، أُرَكِّب عقرب، أو أيَّ شيء، فأقول: لو أُرَكِّب هذا البرغة، لو أُرَكِّب هذا العقرب، وبعدُ العقل يُحَدِّث نفسي: إذا أتممت معك تصليح هذه، ورحت المسجد، ووجدت الجماعة انتهت، ترجع نفسي تقول: عقلي أين كان؟ تلاقي جماعة ثانية، لأنه كان في نفسي قبل أن ربي يُبَصِّرني بسنة نبيه أن فيه جماعة ثانية، وهذا هو المقرر في بطون كتب المذاهب تقريباً.
فتعود المناقشة بين العقل والنفس، طَيِّب، تذهب إلى المسجد، ربما لا تجد إماماً، طيب، أنت ما عاجبك نفسك، أنت طالب علم! أنت تصلي بالناس إماماً، وهكذا، فكثيراً ما فاتتني الصلاة، بهذه التَعَلُّلات وهذه المناقشات.
لكن لما قام في نفسي: أنه لا جماعة ثانية، فنادر جداً جداً جداً أن تفوتني هذه الجماعة، وإذا فاتتني، صليت وحدي لأشعر بأنني خاسر، راحت الجماعة الأولى.
وهذا مشاهد في صلاة الجمعة -مثلاً-، صلاة الجمعة لماذا يَغُصّ المسجد
بالمصلين، حتى لا يتسع لهم؟ لكن -لا شك- هناك سببان، لكن أحدهما: ما نحن فيه، السبب الآخر: أن الناس الذين لا يصلون الصلوات الخمس، يصلون صلاة الجمعة، هذا معروف.
لكن -أيضاً- من جملة الأسباب، أن الذين يحرصون على الصلوات الخمس مع الجماعة، وعلى صلاة الجمعة، قام في أنفسهم: أنه يجوز تكرار صلاة الجماعة، لكن لا يجوز تكرار صلاة الجمعة، من أجل ذلك يَغُصّ المسجد بالمصلين يوم الجمعة، لأنه قام في أنفسهم: أن لا تَكْرَار لهذه الجماعة.
وإذا عرفنا هذه الحقيقة، التي يشهد بها الواقع، ورجعنا إلى حديث آخر، يشبه حديث أبي هريرة الأول:«لقد هممت أن آمر رجلاً .. إلخ» فقد روى الإمام مسلم في صحيحه نحو هذا الحديث، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:«لقد هممت أن آمر رجلاً فيصلي بالناس صلاة الجُمعة، ثم أخالف إلى أناس يتأخرون عن صلاة الجمعة، فأُحَرِّق عليهم بيوتهم»
…
انتهى حديث ابن مسعود إلى هنا، خلافاً لحديث أبي هريرة، فنحن نجد هنا أن الوعيد يَنْصبّ على الجماعتين: جماعة الصلوات الخمس، وجماعة الجمعة.
فكما لا يجوز التَخَلّف عن صلاة الجمعة، كذلك لا يجوز التخلف عن صلاة الجماعة.
فنحن في النهاية، وهذا آخر الجواب عن ذاك السؤال، في النهاية: الذي يحرص على أداء صلاة الجماعة مع الجماعة الأولى، فالنتيجة العملية نادراً أن تفوته، وهذا كما وقع معي ومع غيري، فإذا فاتته كُتِبَ له أجرُه؛ لأنه كان نابهاً لصلاة الجماعة، فإما أن يكون هكذا، أو أن يكون غير مبالٍ بصلاة الجماعة، وحسبه أنه يؤدي هذه الفريضة، ولو في آخر الوقت وحده، فهذا ما له ولهذه الفضيلة، ليس له هذه الفضيلة، ولا يمكنه أن يدركها، ولو صلى عديد من الجماعات، هذا آخر الجواب.
مداخلة: في معرض الكلام على أثر الحسن البصري، يذكر «المباركفوري» في كتاب له اسمه:«تذكار الجنان» يقول: هناك زيادة لهذا الأثر، «أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك، خوفاً من السلطان» خوف الفتنة، فما كانوا يصلون جماعة لكي لا يظهر