الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم قراءة الفاتحة لمن أدرك الإمام قبيل الركوع، والكلام على مسألة الصلاة خلف الإمام الجالس
السائل: دخلنا المسجد في صلاة سِرّية -الظهر أو العصر- أدركنا الإمام قائماً، ولكننا لم ننته من قراءة الفاتحة بعد الإمام، هل يجوز لنا أن نتم الفاتحة؟
الشيخ: إذا ركع الإمام وَلَمّا يكن المقتدي قد انتهى من قراءة الفاتحة، يقرأ منها ما غلب على ظنه أن الإمام سوف لا يرفع رأسه من الركوع، وإنما هو سيشاركه.
فلو غلب على ظن المقتدي بأنه باستطاعته أن يقرأ الفاتحة كُلَّها، ثم يشارك الإمام في الركوع أتمم، وإلا فيقرأ بالمقدار الذي لا يُفَرِّط به على نفسه إدراك الإمام راكعا.
وهذا -طبعا- ليس فيه نص، لكن فيه تَفَقُّه، لأنه -بلا شك- أن الذي أدرك شيئا من الفاتحة، هو خير من ذاك الذي أدرك الإمام راكعاً فكبر تكبيرة الإحرام ثم تكبيرة الركوع، هذا دون ذاك، فإذا كان ثبت -وهو ثابت في السنة- أن مدرك الركوع مدركٌ للركعة، فمن باب أولى أن من أدرك قسماً من الفاتحة مع الركوع مدرك للركعة من باب أولى.
فكنت قد خَرَّجْتُ الحديث الصريح بأن مدرك الركوع مدرك للركعة في «سلسلة الأحاديث الصحيحة» في ظني أنه في المجلد الثالث، والحديث يعرفه المشتغلون بعلم الحديث من «سنن أبي داوود» وإسناده في «سنن أبي داود» ليِّن ضعيف، لكنه في «سنن البيهقي الكبرى» بإسنادٍ ليس فيه ذلك الضَّعف، ويُمْكِن أن يُصَحَّح -يُمكن-، لكن هذا مع الاحتمال.
ذلك بأن الإمام البيهقي روى الحديث بإسناد صحيح عن عبد العزيز ابن رُفيع، عن رجل من الأنصار، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتيتم الإمام وهو راكع فاركعوا، واعتَدّوا بالركعة، وإذا أتيتم الإمام وهو ساجد فاسجدوا ولا تعتدوا
بالركعة.
عبد العزيز ابن رُفيع تابعي، وهو ثقة من رجال الشيخين، لكن لا خلاف في ذلك بينهم، يقول:«عن رجل من الأنصار» هذا الرجل من الأنصار إن كان صحابي صَحَّ السند لأنه من رواية تابعي عن صحابي، لكن ليس في السند التصريح بأنه صحابي، لذلك قلت: يُحتمل أن يكون صحيحاً، وهذا الاحتمال يأتي من هذا الذي بيَّنته، هذا الرجل من الأنصار: إن كان صحابي كان السند صحيحاً، وإن كان تابعيا كان مرسلاً.
لكن مثل هذا المرسل له قدر وله وزن عند الأئمة، لِمَا؟ لأنه يُفْتَرض أن يكون تابعياً كبيراً، هذا إن لم يكن صحابي، هكذا عالجنا هذا الإسناد، وهو غير إسناد الحديث في «سنن أبي داوود» ثم زال الإشكال وطاح الاحتمال، وثبت لدينا أن الرجل هو صحابي؛ لأنني وجدتُ الحديث بسند صحيح في «مسائل المروزي» عن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه -مخطوطة قديمة جدًّا ربما يعود تاريخها إلى القرن الثالث- محفوظة في «المكتبة الظاهرية» يروي المروزي بالسند الصحيح من طريق عبد العزيز بن رُفَيْع، قال: حدثني رجل من الأنصار قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فطاح الإشكال والتردُّد الذي كنا نتردد في تصحيح الحديث واتصل الإسناد.
ذلك: بأن الصحابة -عند أهل السنة- كلهم عدول ولا يضُرُّ جهل اسم الصحابي، فكان هذا السند الصحيح كافياً لإثبات أن من أدرك الإمام راكعاً فقد
أدرك الركعة، ويعتبر بالتوفيق بين الأحاديث، يُعتبر مخصِّصًا لعموم قوله عليه السلام:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» «فصلاته خِداج، فصلاته خداج، فصلاته خداج» فإذا انضم إلى ذلك طريق الإمام أبي داود في «سننه» وهو من روايته عن أبي هريرة صحابي آخر، إندعم أحدُهما بالآخر -لا سيما- إسناد أبي داود الذي فيه ذاك اللين، يتقوَّى بلا شك بإسناد المروزي الذي هو صحيح بذاته، هذا جواب ما سألت، أن من أدرك وراء الإمام شيئاً من الفاتحة، ثم أدرك الإمام راكعاً فقد صَحَّت صلاتُه.
السائل: قالوا إنهم ممكن يتأخروا عن الإمام في عدة أركان؟
الشيخ: هذا فيه مخالفة لنصوص عديدة كثيرة منها: قوله عليه السلام «إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» ومنها: قوله عليه السلام في حديث أنس ابن مالك: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قائماً فصلُّوا قياماً، وإذا صلَّى جالساً فصلُّوا جلوساً أجمعين» .
لا يجوز للمقتدي أن يخالف الإمام، حتى لو صلَّى الإمام جالساً لمرضٍ ألمَّ به علماً بأن القيام بالنسبة للصحيح السليم ركن من أركان الصلاة لا تصحُّ الصلاة إلا به.
فنحن نرى في هذا الحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسقط هذا الركنَ عن جميع المصلين السليمين من خلفه، لكي يشاركوه في هيئته ولا يخالفوه في صورة صلاته، فكيف يتعلَّل الإنسان الذي يصلي خلف الإمام بأنه لم يستطع أن يقرأ الفاتحة، نقول هذا ركن والقيام ركن، وأسقطه عليه السلام لتحقيق المتابعة، كذلك هنا.
في المسألة التي كنا فيها -آنفا- يقرأ من الفاتحة ما يستطيع ولا [يقطع] متابعة الإمام، لأنه يقع في مخالفة أخرى، وهنا حينما يقرأ ما يستطيع
ويشارك الإمام في في الركوع ولا يخالف شيئاً على النحو الذي سبق ذِكْرُه من أن «مدرك الركوع مدرك للركعة، ومن الحديث الذي ذكرته آنفا «إنما جعل الإمام ليؤتم به» إلى قوله «فإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى جالساً أو قاعداً فصلوا جلوسا أو قعوداً أجمعين» .
السائل: يا شيخ، يقولون: إنه كان منسوخا بفعله في آخر حياته، حين مرض صلى جالساً وهم قياماً؟
الشيخ: هذا فعلاً يقوله بعض العلماء، ولكنه لا ينهض الدليل على صحته، ذلك بأن القول لا يُنْسَخ بالفعل، القول دائما أقوى من الفعل، ولهذا يقول علماء الأصول:
إنه إذا تعارض نَصَّان صحيحان، أحدهما من فعله عليه السلام، والآخر من قوله، ولم يُمْكِن التوفيق بوجه من وجوه التوفيق بينهما، صير إلى القول، واعتُمد عليه، وتُرك الفعل، لأنه يحتمل وُجُوهًا منها: أن يكون ذلك لعذر، أو أن يكون قبل تشريع ما جاء في القول، في الحديث القولي أو يكون ذلك خصوصية من خصوصيات الرسول.
فأفعاله عليه السلام يعتريها ويحيط بها من الاحتمالات ما لا يحيط بالقول، لأن قوله عليه السلام تشريع عام للأمة.
وهذا إذا ثبت أن الفعل كان متأخرا عن القول، وإذا لم يثبت ذلك فهيهات أن يُمْكِن نسخ القول بالفعل.
وهناك شيء آخر: لا يمكن نسخ قول بفعل، لو تأخر فعلُه عليه السلام عن قوله، ما دام ذلك القول مُعَلَّلٌ بعلةٍ لا تَقْبَل النسخ.
قوله عليه السلام -السابق الذكر- «وإذا صلى جالسا، فصلُّوا جلوساً أجمعين» جاء تعليلُه في «صحيح مسلم» من روايةِ جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان راكباً يوماً دابتَه فجحشت به، فأُصِيب في أكحله، فحضرت صلاة الظهر وصلى جالساً، فصلى الناس خلفه قياماً، فأشار إليهم: أن اجلسوا فجلسوا، ثم قال عليه السلام بعد أن قضى صلاته «إن كدتم آنفا تفعلون فعلَ فارسَ بعظمائها، يقومون على رؤوس ملوكهم، إنما جُعِلَ الإمام ليؤتم به» وذكر الحديث إلى نهايته: «وإذا صلَّى جالسا فصلُّوا جلوساً أجمعين» .
في هذا الحديث فائدة هامة، وهي أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر القائمين خلفه والمؤتمين به أن يجلسوا، لإطفاء هذه الظاهرة الوثنية، التي تظهر من بعض كفرة الملوك المشركين، علماً: أن ثمة فارقاً كبيراً جداً بين تلك الظاهرة وبين هذه الهيئة التي وقعت للصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أمر واضح -إن شاء الله-.
لكن لا بأس من التذكير: كسرى -وأمثالُه من الجبابرة- حينما يجلس ويقوم
الوزراء والعظماء من حَوْلِه قياما، فهو يجلس طَلبًا لتعظيمه، وأولئك يقومون من حوله تحقيقاً لرغبته، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس مضطراً، وهو الذي أنزل الله عليه عز وجل:«وقوموا لله قانتين» فهو أول العالمين بفرضية القيام، لكن «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» .
فهو إذاً: جَلَس مضطراً، لم يجلس جلوس كسرى وأمثاله؛ أما الصحابة فأيضاً قاموا خلفه تحقيقاً للآية السابقة:«وقوموا لله قانتين» ما قاموا -ولا يخطر في بال أحدهم وخاصةً في الصلاة أن يقوم- تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما هو قام لله ربِّ العالمين، ما كان ليخطر في بالهم أن يقوموا له عليه السلام خارج الصلاة، فكيف بهم يقومون له في وَسَطِ الصلاة؟ ! وهم يعلمون كما حدثنا خادمه أنس ابن مالك رضي الله عنه في حديثه الشهير الصحيح والمروي في «الأدب المفرد» للإمام البخاري و «سنن الترمذي» بالسند الصحيح على شرط مسلم عن أنس ابن مالك: ما كان شخص أحبّ إليه من رسول صلى الله عليه وسلم، وكان في رواية «ما كان شخص أَحَبّ إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيةً، وكانوا لا يقومون له، لِمَا يعلمون من كراهيته لذلك» .
إذا دخل المجلس كان من أدبه عليه السلام وخُلُقه وتواضعه المعروف أنه يجلس حيث انتهى به المجلس، ولا يقوم له أحدٌ، لماذا؟ لأنهم -لا يعظمونه- لتعزروه وتوقروه في نص القران الكريم، فهم أشد الناسِ تعظيماً لنبيهم، وأعرف الناس جميعاً بِقدِره عليه السلام ولكن في حدود ما شرع الله، لأنه عليه السلام: رَبَّاهم وأَدَّبهم على خير تأديب يمكن أن يكون على وجه الأرض.
فإذا كان هؤلاء الصحابة لا يخطر في بالهم أن يقوموا له تعظيما إذا دخل عليهم في المجلس ليس في الصلاة، فلن يخطر ولم يخطر في بال أحدهم أن يقوم خلف النبي وهو يصلي جالسا تعظيمًا له، مع هذه المفارقة بين الصورة من النبي والصحابة، وتلك الصورة من كسرى وأصحابه: «إن كدتم -آنفا- تفعلون فعل فارس
بعظمائها، يقومون على رؤوس ملوكهم».
وهذا الحديث يدلُّنا على شيء هام، نرى كثيراً من الشباب المسلم، وفيهم بعض طلبة العلم، أنهم يتوهمون أن التشبه المحظور والممنوع في الشرع: هو الذي يتقصد المسلم التشبه بالكافر، ليس الأمر كذلك، التشبه هي ظاهرة -صورة- لا يُنْظَر فيها إلى ما في قلب هذا المتشبه، وإنما إلى عمله.
وأكبر دليل على ذلك ما نحن الآن في صدده، هم في الصلاة {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} لا يخطر في بال أحدهم أن يُعَظِّم الرسول بهذا القيام، مع ذلك قال لهم:«إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس بعظمائها، يقومون على رؤوس ملوكهم» .
فهل يجوز لهم أن يقوموا بعد ذلك خلف الرسول عليه السلام إذا مرض وصلى جالساً، لا يفعلون ذلك، لذلك قال:«إذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين» .
الشاهد أن هذا حكم مُعَلّل بعلة، ممكن نسخ حكم لكن لا يمكن نسخ حكم مُعَلّل بعلة معلل بعلة، وهذه العلة مستمرة إلى يوم القيامة، وهذا من هذا القبيل.
لذلك: إِنْ ثَبَتَ أَنَّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته -الحقيقة في أحاديث هذه الصلاة، فرائق كثيرة جدًا يعترض فيها علماء الحديث، في بعض الروايات الصحيحة سنداً أن الإمام كان هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه والنبي كان يصلي خلفه هذا في آخر صلاة صلاها، وفي رواية أخرى أيضاً صحيحة، أن الإمام كان الرسول عليه السلام وأن أبا بكر كان يُسْمِع تكبيره من قام خلفه ...... مع هذا الافتراض إن سُلِّم- وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إماماً، وأن الناس صلوا خلفه قائمين، فهناك جوابان اثنان.
الجواب الأول: مروي عن الإمام أحمد، توفيقاً بين هذه الحادثة وبين حديث «صلوا جلوسا أجمعين» وهذا التوفيق قائم على أساسِ: أن هذه الحادثة -صلاة الرسول عليه السلام جالساً والناس خلفه قياماً- كانت بعد قوله: «صلوا جلوسا