الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكرت صورة متفق عليها بين العلماء وهي: إذا دخل المسجد، ووجد الإمام راكعاً اقتدى فيه وركع معه، فصلاته صحيحة مع أنه لم يقرأ الفاتحة.
إذاً: هذا الحديث لم يبق على عمومه وشموله وإطلاقه.
هنا بقى الآن يأتي جواب سؤالك الأخير، وهو كان سيأتيك -عفواً- بدون طلب منك: إذا تعارض حديثان عامان، كل منهما عام، فأيُّهما يُسَلَّط على الآخر ويخصصه؟
قال العلماء: إذا كان أحد النَصَّين العامين، دخله تقييد أو تخصيص، بحيث ضَعُف عمومُه وإطلاقه، فهو الذي يُسَلَّط عليه النص العام، الذي بقي على عمومه وشموله ولم يدخله تخصيص ولا تَقيّيد، هذه قاعدة مهمة جداً جداً من الناحية الفقهية، .... الآن وَضَحت:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، هل هناك حالة من الحالات لا يسمع الإنسان، ويجوز أن يلهو والقرآن يتلى؟ أبداً.
كذلك قوله عليه السلام، في الحديث السابق:«إنما جُعِلَ الإمامُ ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» ، ما دخله تقييد؛ لأنه ماشي مع الآية تماماً.
إذاً: هنا عمومان تعارضا، عموم:«لا صلاة» ، وعموم:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204]، فيُقَيّد العام المقيد، بالعام غير المُقَيّد.
(الهدى والنور / 53/ 44: 24: .. )
قراءة الفاتحة خلف الإمام
مداخلة: حديث: [فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب]؟
الشيخ: متنه لا يدل على وجوب قراءة الفاتحة بالنسبة للمقتدين؛ ذلك لأن الأمر بالشيء بعد النهي عنه لا يستلزم وجوبه وإنما الأمر بالشيء بعد النهي عنه يفيد
فقط جوازه وليس وجوبه والأمثلة على ذلك في القرآن معروفة ومذكورة في علوم الأصول .. علم الأصول على اختلاف المذاهب.
مثلاً قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] فأمره بالصيد هنا هو رفع للمحظور السابق بالنسبة للمحرم أنه لا يصطاد، كذلك قوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] فهذا الأمر بالانتشار بعد انقضاء الصلاة لا يعني وجوبه وإنما يعني جوازه؛ لأنه مسبوق بقوله عز وجل: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فهذا الأمر الذي يفيد ترك العمل جاء رفعه بقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] فإذا استخدمنا هذه القاعدة الأصولية ورجعنا إلى الحديث على فرض صحته بذاك اللفظ فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، فلا تفعلوا نهي إلا بفاتحة الكتاب استثناء من النهي يفيد الإباحة ولا يفيد الوجوب.
أما الجملة التي بعد ذلك وهي قوله عليه الصلاة والسلام: «فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» هي جملة تعليلية لهذا الحكم فإن كان الحكم واجباً فهو تعليل لهذا الحكم الواجب، وإن كان الحكم مستحباً فهو تعليل لهذا الحكم المستحب، وإن كان الحكم الجواز فهو أيضاً تعليل لهذا الحكم الجائز، فإذا عرف هذا كان واضحاً جداً أن الحديث لا يدل على وجوب القراءة للمقتدي وراء الإمام في الصلاة الجهرية.
فإن مما يؤكد هذا أمور أوضحها أن هذا الحديث الذي فيه ما سبق من العلة قد جاء في مسند الإمام أحمد بلفظ يؤكد أن هذا الأمر لا يعني الوجوب بل الجواز المرجوح، حيث كان لفظه:«فلا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب» فقوله: إلا أن يقرأ، يعني: إن ولا بد واحد منكم يريد يقرأ فليقرأ بفاتحة الكتاب؛ لأن الأصل فيها أن لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
لهذا كان الراجح ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله في هذه المسألة وتبعه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية من أن المقتدي يجب عليه أن يقرأ في السرية وأن
يصمت في الجهرية ولا يقرأ ما دام أنه يسمع تلاوة القرآن من الإمام، وبذلك تتجمع الأدلة التي يبدو التعارض بينها وتسلم من التعارض حينما نضع كل دليل في مكانه المناسب مع ملاحظة ما قد يعارضه فينبغي حينذاك التوفيق بين النصوص كما هو معلوم من قواعد علم الأصول .. أصول الفقه وأصول الحديث أيضاً.
فقد ذكر الحافظ العراقي رحمه الله في شرحه على مقدمة ابن الصلاح في قسم الحديث المختلف أنه إذا جاء حديثان مختلفان متعارضان في الظاهر وجب التوفيق بينهما بوجه من وجوه التوثيق الكثيرة التي جاوزت مائة وجه وأكثر، وهذا أمر هام جداً وإلا وقع طالب العلم في حيص بيص.
فنحن مثلاً نقرأ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] فإذا وقفنا عند هذه الآية ولم نأخذ بما جاءت به الأحاديث من إباحة ميتة البحر والجراد حرمنا أكلهما؛ لأن النص القرآني يشملهما: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] إذاً: هذه قاعدة من قواعد التوفيق بين النصوص، وهي التي يعبر عنا بالعام والخاص، فإذا جاء نص خاص يعارض النص العام خصص النص العام بالنص الخاص.
ولا يشترط هاهنا ما يقوله بعض المذاهب من أنه لا يجوز تخصيص النص العام القاطع أو المتواتر بالنص الخاص الآحاد، هذا ليس شرطاً وإن كان يذكره بعضهم في كتبهم الأصولية ولكننا نراهم مع ذلك يخالفون أصولهم في بعض التفريعات وفي بعض الفروع التي منها ما نحن فيه الآن.
القاعدة التي قالوها: لا يجوز تخصيص العام المقطوع ثبوته والقرآن من ذلك بالحديث الآحاد الظني الثبوت، مع ذلك وافقوا جمهور المسلمين على إباحة ميتة السمك والجراد مع أن الحديث في ذلك أقل ما يقال فيه: أنه ليس متواتراً، وقد خصصوا المقطوع ثبوته بالمضمون ثبوته.
على هذا يجب التوفيق بين النصوص المتعارضة، فعندنا الآية الكريمة:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] نص عام يعارضه
النص العام الآخر: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» فهنا عمومان تعارضا فأين العامين يسلط على العام الآخر، العام القرآن أم العام الحديثي؟ لا فرق عندنا بين القرآن وبين الحديث من حيث وجوب العمل بكل منهما، والفلسفة التي تقال مما ذكرناه آنفاً هذه لا يعتد بها عند جماهير العلماء بل حتى عند الواضعين تلك القاعدة وحيث خالفوها في كثير من الأمور الأخرى التي تفرعت من مخالفتهم لتطبيق هذه القاعدة، فلا فرق عندنا بين الآية وبين الحديث من حيث وجوب العلم بكل منهما، ولكن هنا عمومان تعارضا فأيهما يخصص الآخر
…
دقة في الأمر؟
إذا نظرنا إلى المذاهب قلنا: الحنفية خصصوا الحديث بالقرآن .. وعكس الآخرون فقالوا: نحن نخصص القرآن بالحديث وتكون الحصيلة مختلفة تماماً: من يخصص الآية بالحديث فمعناها كالتالي: فاستمعوا له إلا في قراءة الفاتحة وراء الإمام، فمن عكس ذلك نقول:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» إلا من كان يسمع قراءة الفاتحة من الإمام فعليه الصمت والسكوت: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] وإنما لقضية إذاً الأمر الدقيق في ترجيح أحد المذهبين على الآخر.
والذي رأيناه [أن النص الذي] يطرأ عليه تخصيص ما حينئذٍ يخصص به النص العام المخصص لغيره ولا يزول التخصيص العام الذي لم يخصص مطلقاً النص العام الذي خصص لغيره.
هذا كلام دقيق جداً لكن قد يحتاج إلى توضح بمثال: هو المثال الآن بين أيدينا لكن قبل ذلك نأتي إلى الأحاديث التي تنهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة: قبيل طلوع الشمس، وعند استوائها في وسط السماء، وعند الغروب، هذه النصوص عامة ولا شك قد تعارضها صورة أخرى فيها بيان لجواز بعض الصلوات في هذه الأوقات.
مثلاً الحديث الذي جاء في سنن الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم ذات يوم من صلاة الفجر قام رجل يصلي، فقال له: «أصلاتان معاً؟ لما سلم الرجل قال: يا
رسول الله، دخلت المسجد وقد أقيمت الصلاة ولم أكن قد صليت ركعتي الفجر فهما هاتان» فأقره عليه الصلاة والسلام فصار من السنة أن من دخل المسجد ولم يكن قد صلى السنة فمعلوم أنه لا يشرع له أن يستأنف صلاة السنة وقد أقيمت الصلاة لقوله عليه السلام:«إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» فهل يجوز له أن يصلي بعد الفريضة؟ هذا الحديث دل على الجواز.
إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس» طرأ عليه هذا التخصيص.
كذلك مثلاً قوله عليه السلام: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها حين يذكرها لا كفارة لها إلا ذلك» أيضاً هذا الحديث يخصص أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة.
والأحاديث في هذا الصدد كثيرة كان أحد علماء الحديث في الهند قد جمعها في كتاب فهو كتاب قيم أنصح بقراءته والتفقه به ألا وهو: إعلام أهل العصر بأحكام ركعتي سنة الفجر، هناك تتبع النصوص التي جاءت تخصص أحاديث النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة، اسمه شمس الدين العظيم آبادي، نعم.
فابن تيمية الآن يعارض بهذه القاعدة مسألة تحية المسجد، كثيراً ما يتفق أن أحدنا يدخل المسجد في وقت من هذه الأوقات المنهي الصلاة عنها، أفيصليها في ذلك [الوقت] بصورة عامة، أم لا يصليها؟ ويظهر أن ما ذهب إليه الإمام الشوكاني رحمه الله الذي قال بأنه لا يصلي ولا يجلس، كيف يصلي ولو كان في وقت الكراهة لماذا؟ لأن قوله عليه السلام:«إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» وفي الرواية الأخرى: «فليصل ركعتين ثم ليجلس» يقول: هذا نص عام، قد عارضه النص العام بآخر وهو النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة لكن هذا النص من النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة قد دخله تخصيص من جوانب كثيرة فضعف عمومه بينما الأمر بتحية المسجد لم يدخله تخصيص إطلاقاً فيصرف
على النص العام فيزداد النص العام ضعفاً فيظل النص الآخر على عمومه وشموله.
ونؤكد ذلك باستنباط آخر: لعلكم جميعاً تعلمون ما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم جمعة ثم دخل سليك الغطفاني فجلس فقال عليه الصلاة والسلام، قطع خطبته بطبيعة الحال:«يا فلان، أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل ركعتين» إلى هنا نقف قليلاً لبلال لما يأتي، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اهتم بتحية المسجد اهتماماً بالغاً حيث قطع خطبته وأمر ذلك الجالس بأن ينهض بعد جلوسه ويصلي ركعتين.
قال عليه الصلاة والسلام موجهاً خطابه للجالسين فقال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصل ركعتين وليتجوز فيهما» هذا خطاب لكل داخل يوم الجمعة ألا يجلس ولو كان الخطيب يخطب، هذا يدلنا على شيء وهو يؤكد ما ذهب إليه ابن تيمية من تخصيص النص العام المخصص بالنص العام غير المخصص.
أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد الأمر بصلاة ركعتين والخطيب يخطب بينما نهى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخطيب يخطب كما تعلمون بالحديث الصحيح: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة والإمام يخطب أنصت فقد لغوت» فقول القائل: أنصت والإمام يخطب هو أمر بالمعروف، نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذلك بينما أمر بالتحية فهذا يؤكد بأن التحية واجبة على الراجح عندنا وهي على الأقل مؤكدة سنة مؤكدة ولو في وقت كراهة الصلاة هنا الشاهد في الكلام؛ ذلك لأنه لا يجوز لأحد إذا قام الخطيب يخطب فليتنفل يعني: يتابع الخطيب حتى ولو تحية المسجد إذا كان جلس عامداً ثم قام يريد أن يصلي فحينئذٍ لا تصح هذه الصلاة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما دونه للنافل أولى بالنهي، فإن أمر بتحية المسجد في هذا الوقت الذي لا يكره التنفل فله ذلك، أما تحية المسجد تكره في الأوقات المكروهة خلافاً للنواحي الأخرى.
من هنا جاء علماء الشافعية بعبارة تجمعها القول في هذه المسألة حيث قالوا: النوافل قسمان:
ذوات أسباب، ونوافل مطلقة ليس لها أسباب، فما كان من القسم الأول [فتجوز الصلاة] ولو في الأوقات المكروهة؛ لأن تركها يفوت بفوات مناسبتها، وأما ما كان من النافلة المطلقة فالإنسان يستطيع أن يتنفل في غير هذه الأوقات المنهي عنها.
نعود إلى بحثنا السابق وهو: من الصعب أن نعرف هذا الجواب .. {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] نص عام .. «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» نص عام، وجدنا النص الأول لم يدخله تخصيص .. وجدنا النص الآخر قد دخله التخصيص شيء من هذا التخصيص يكاد يكون إجماعاً إلينا من جاء بعد الصحابة وهو أقوى إجماعاً في عهد الصحابة، أعني بذلك أن من جاء والإمام راكع فاقتدى به أدرك الإمام راكعاً مع أنه لم يقرأ فاتحة الكتاب، إذاً ماذا فعلنا بالحديث لا صلاة؟ أيضاً أدخلنا عليه التخصيص فقلنا:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» حتى في الصلاة السرية التي يجوز قراءة الفاتحة فيها فضلاً عن الصلاة الجهرية وفيها ما نحن بصدده، إذا أدرك الإمام راكعاً فقد أدرك الركعة كلها فلا يجب عليه إعادتها فيكون الحديث مخصصاً بمثل هذه الحالة:«لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» إلا في حالة عدم تمكنه من قراءة الفاتحة بمثل إدراك الإمام راكعاً فيركع فتحسب له الركعة.
هذا فيه بعض الأحاديث التي رويت منها في سنن أبي داود بسند فيه ضعف وروي بإسناد آخر فيه قوة قد ذكرت ذلك في بعض الكتب، ثم تأكد ذلك بمجيء ما تضمنه الحديث من أن مدرك الركوع وراء الإمام مدرك للركعة أنه ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة دون أن يعرف لهم مخالف على رأسهم أبو بكر الصديق ثم عبد الله بن مسعود، ثم زيد بن ثابت، ثم عبد الله بن عمر، وقد يكون موافقون آخرون لا أستحضر غيرهم الآن، وهؤلاء أكثرهم من أسانيد بذلك إليهم صحيحة كما كنت ذكرت ذلك في بعض المؤلفات ومنها فيما أذكر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل.
فإذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» مخصَّص
حتى عند الذين يقولون بأن هذا الحديث يخصص الآية فكان تخصيصهم للحديث بها خلاف هذه [الصورة] التي أشرت إليها آنفاً فيكون القول الراجح كما قلت في أول هذا الكلام ما ذهب إمام السنة وابن تيمية ومن وافقهما على ذلك هو الأصل والأولى بالحفظ والتفقه فيه.
وبذلك ننجو من مشاكل كثيرة وكثيرة جداً إذا تأملها المسلم لا يجد له مخرجاً إلا بتبني هذا الرأي وهو السكوت وراء الإمام إذا كان يقرأ جهراً وإذا لم يدرك قراءة الفاتحة وإنما أدرك الإمام راكعاً يكون مدركاً للركوع.
ولما كان كثير من أولئك العلماء الذي تبنوا إيجاب قراءة الفاتحة في الجهرية كانوا يجدون في أنفسهم ولا شك تردداً في هذا الحكم؛ لأنهم [يواجهون] الآية: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204] فضلاً عن مثل قوله عليه السلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا» ثم كانوا يجدون في أنفسهم شيئاً من التردد لهذا الحكم أوجدوا لهم مخرجاً بأن أوجدوا شيئاً لا نجد له أثراً في السنة وهو أنهم طلبوا من كل إمام أن يسكت سكتة طويلة بعد فراغه من قراءته الفاتحة لكي يتمكن المقتدي من القيام بفرضه ألا وهو قراءة الفاتحة؛ وذلك لأنه كما نشعر جميعاً الحقيقة [أنهم وقعوا في هذا بسبب الرأي الذي تبنوه] كما أعتقد وإلا ما كان ينبغي لهم أن يوجدوا لأنفسهم هذا المخرج وليس وارداً في السنة، متى يقرأ المقتدي الفاتحة؟ إن قيل: بأنه يقرأ الفاتحة مع قراءة الإمام للفاتحة فلم الجهر بها، وما [الفائدة] من ذلك؟ هذا لا وجود له في الإسلام أن يقول الشارع الحكيم للإمام: ارفع صوتك بقراءة الفاتحة في بعض الصلوات واسكت أو اقرأ سراً بعدها، ما الفرق حينئذٍ بين رفعه لصوته وبين إسراره بصوته، والمقتدي على كل حال يجب أن يقرأ الفاتحة حين قراءة الإمام للفاتحة.
وإن قيل: إنما يقرأ الفاتحة بعد أن يفرغ الإمام من قراءتها ويبدأ بقراءة آيات أو سورة، حينئذٍ يقابل القائلون بهذه الآيات جهراً، بالنسبة لهؤلاء المقتدين به لكن هم مشغولون عنه، لا يستطيعون أن يجمعوا بين أن يقرؤوا الفاتحة لأنفسهم وبين أن يتدبروا القرآن الذي يتلى عليهم من قبل إمامهم، لما وجدوا هذه المشاكل لم يجدوا جواباً تطمئن النفس المؤمنة عليه فأوجدوا لهم ذلك المخرج .. اسكت أيها الإمام