الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التاريخ لم يذكر أنها رأته، فلنفرض أنها كانت تراه من وقت بعد اخر، وإذا كان التاريخ لم يذكر الرؤية، فإن أقصى ذلك أنه لم يثبتها، ولم ينفها، فالفطرة والحنان يوجبانه، وهما أصدق خبرا، ولذلك نقرر أنها لابد كانت تراه من حين لاخر «1» .
وأنه بعد أن استغنى عن الرضاعة، وبلغ فيها حولين كاملين، يكون من الحق على المرضع أن ترده إلى أهله، وإذا كانوا يرون أن يبقى عندها فإنه يكون برجاء منها، ورضا منهم، وهذا ما فعلته، فقد قالت:
قدمنا به على أمه، ونحن أضن شيء به مما رأينا فيه من البركة، فلما رأته أمه، قلت لها: دعينا نرجع بابننا هذه السنة الاخرى، فإننا نخشى عليه وباء مكة. فو الله مازلنا بها، حتى قالت: نعم.
رأت الخير بين يديه، فأرادت أن تبقيه ليبقى الخير، ولأنه قد نال محبتها، وأصبحت لا تستطيع فراقه كأنها التى حملته، ولم ترض الأم التى حملت به أن تتركه لشوقها إليه، ولتضمه أحضانها، فلم تسلمها ولدها لأول طلب، بل مازالت بها حتى قبلت، ولعل قبولها سببه ما ذكرته من أنها تخشى عليه وباء مكة، وتريده أن يكون مستمتعا بجو الصحراء الصافى من حمل الأسقام والأوباء فهى قد رضيت إيثارا ومحبة.
اخبار شق الصدر
90-
عادت حليمة فرحة ببقاء الخير والبركة ببقاء محمد فى حضانتها، وإذا كانت من قبل مرضعا وحاضنة فهى الان حاضنة، وإن ذلك يحملها عبئا اخر، وهو صيانته وحفظه، إذ كان من قبل يلازم حجرها، أو يكاد، أما الان فإنه لا يلازم حجرها، بل يغادره ليلعب، ليروح ويغدو، هنا وهناك، وإن ذلك يحتاج إلى صيانة.
وكانت تتبعه وقد خرجت مرة لتبحث عنه مع أخته من الرضاعة، وكان الحر شديدا، فتقيل كلاهما، (أى استرخى فى القيلولة) فقالت الفتاة، إنه لا يحس بحر، لأن غمامة تسير حيث يسير، وتقف حيث لا تتركه.
ونقف وقفة قصيرة عند الأخبار الواردة فى شق صدره عليه الصلاة والسلام، فقد رويت فى ذلك أخبار بعضها فى خبر قصير، وبعضها فى خبر طويل، ولا تخلو من زيادة فى بعض، ونقص فى اخر، وإن كان المعنى الأصلى متفقا فى الجميع.
(1) الاكتفاء ص 171- ج 1 «وسيرة ابن هشام» .
ولنذكر واحدا منها، وهو ماروى وثبت فى صحيح مسلم عن طريق حماد وابن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه وصرعه، فشق عن قلبه فاستخرج القلب، واستخرج منه علقه سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده فى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعنى، ظئره، فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه، وهو ممتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى ذلك الخيط فى صدره» وإننا نلاحظ فى ذلك الخبر أمرين:
أولهما: أن الخبر فيه أنه غسله بماء من زمزم، ويلاحظ أن الواقعة إن صحت كانت فى البادية فى مكان ناء عن زمزم، وإذا كان من ماء مع جبريل، فمن أين علم أنه من زمزم.
ثانيهما: أنه ذكر أنه كان يرى أثر الخيط فى صدره عليه الصلاة والسلام، وإذا صحت الواقعة فإن المعقول أنه عمل ملك، والملك لا يكون لعمله أثر محسوس.
ونحن نرى أن الأخبار بالنسبة للشق لا تخلو من اضطراب.
وعلى فرض أنها صحيحة، لا نقول أنها غير مقبولة، بل إنا نقبلها إن صحت، ولكن الاضطراب فى خبرها، يجعلنا نقف غير رادين، ولا مصادقين.
ومهما يكن الأمر فى قصة شق البطن، فإن الغلام الطاهر كانت تحوطه أمور خارقه للعادة لم تكن لتحدث للغلمان فى سنه عادة.
ولقد جاء فى الروض الأنف أن محمدا صلى الله عليه وسلم عندما عادت به حليمة بعد أن حملت أمه على الرضا ببقائه عندها سنة أخرى أعادته بعد شهر أو ثلاثة خوفا عليه مما يجرى، ولقد ذكر الرواة حديث شق البطن، وأنها لما بلغها خافت على الغلام فردته إلى أمه.
قال ابن إسحاق أنها رأت أن بعض النصارى رأوه، ورأوا ما به من علامات النبوة، فطلبوا إلى حليمة أن يأخذوه عندهم فارتابت فى ذلك حليمة فردته إلى أمه خائفة عليه، ولتخلى نفسها من التبعة، وسنزيد من بعد الخبر بيانا.
91-
هذا الكلام يدل على أنه ال إلى أمه بعد شهرين أو ثلاثة أشهر من السنة الثالثة، وهو معقول لأنه لا رضاعة من بعد ذلك، والأحوال كانت توجب هذا، لما كان يصيب أمه الرضاعية من خوف عليه، بسبب الإرهاصات التى كانت تحوم حوله مما أفزعها. ولكن جاء فى الروض الأنف ما نصه:
وإن هذين بلا شك خبران متناقضان: أحدهما يفيد أن أمه تسلمته عند بلوغه سنتين وشهرين أو ثلاثا، والثانى يقرر أنها تسلمته بعد خمس سنين وأشهر.
ولكن التوفيق بينهما ممكن بأن أخذها الأول لتضمه إليها، ويكون فى كنفها، ولا يمنع ذلك من أن تجئ حليمة إليه تأخذه عندها الفينة بعد الفينة، يستروح بنسيم الصحراء. وتتيمن به ظئره المخلصة العطوف، أما حد التسليم بخمس سنين، فهو عندما أخذته نهائيا أمه، ولم يذهب بعد إلى بنى سعد.
ولذلك قرروا أنها لم تره بعد ذلك إلا بعد أن اكتملت رجولته بتزوجه، وبعد أن أبلغ رسالته، وتذاكرت الركبان بنصرته فى يوم حنين، فقد دامت من بعد إقامته عند أمه، ورحلت به إلى يثرب لتريه قبر أبيه، ولتزوره هى وفاء لرجلها الطاهر الأمين.
لقد سلمته حليمة إلى أهله، وكان يتردد عليها برغبتها، وأجازه أهلها، وقد ذكر ابن إسحاق خبرين قد نوهنا إلى أحدهما، ولم نذكر الاخر، وقد كان السبب فى ألا يقيم عندها إقامة ممتدة، ولكن تأخذه الوقت بعد الاخر.
أولهما أن ابن إسحاق قدر أنه زعم الناس فيما يتحدثون أن حليمة ظئره لما قدمت مكة به ضلت وهى مقبلة به نحو أهله، فالتمسته فلم تجده، فأمّت جده، فقالت له إنى قدمت بمحمد هذه الليلة، فلما كنت بأعلى مكة أضلنى الناس فو الله ما أدرى أين هو؟ فقام عبد المطلب يدعو الله أن يرده، فوجده ورقة ابن نوفل بن أسد، ورجل اخر من قريش فأتيا به عبد المطلب، فقالا له: هذا ابنك وجدناه بأعلى مكة، فأخذه عبد المطلب، فجعله على عنقه، وهو يطوف بالكعبة يعوذه ويدعو له، ثم أرسل به إلى أمه امنة.
وقد ذكر هذا الخبر بن إسحاق، وصدره بكلمة زعموا مما يدل على شكه، ولكن لا موضع للشك فيه، فالخبر فى ذاته مقبول، وهو يدل على عظيم حدب جده عليه، وحرص حليمة، ومحبة قريش له.
ولكن هل هذا كان فى تسليمها الأول، أو فى تسليمه فى المرات التى كان يتردد عندها، تيمنا لجواره وقربه منها، وقبول أمه لذلك ليستروح هواء البادية، وتتقى أسقامه بها.