الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعراج بالروح
300-
إن الأكثرين من العلماء على أن المعراج كالإسراء كان بالجسد والروح، وأخذوا ذلك من ظواهر الأحاديث الصحيحة التى روتها السنة، ففيها التصريح بأنه لقى ادم فى سماء، وإبراهيم فى مثلها، وإدريس وعيسى ويحيى وموسى، وهذه الظواهر اثروا الأخذ بها.
ولكن أولئك الأكثرين وقفوا عند رؤية الله سبحانه وتعالى، فقال فريق منهم أنه رأى ربه وخاطبه، وكان ذلك تكريما له لمخاطبة الله سبحانه وتعالى اختص به محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيما وتقريبا له، وهو فوق المذكور فى قول الله سبحانه وتعالي وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا «1» وليس من هذه الثلاثة رؤية الله سبحانه وتعالى، وتلقى الرسول منه مباشرة من غير حجاب.
وقد رأى ذلك الرأى الامام أحمد بن حنبل وقاله أيضا أبو الحسن الأشعرى وقالت طائفة أخرى لم يقع ذلك لحديث مسلم عن أبى ذر رضى الله تبارك وتعالى عنه: «قلت يا رسول الله هل رأيت ربك، فقال عليه الصلاة والسلام إنه نور أنى أراه» وفى رواية رأيت نورا.
والذين قالوا إن الإسراء كان بالروح وفى رؤيا صادقة قالوا ذلك فى المعراج، بل هو أولى، فالرحلة كلها كانت رؤيا صادقة. وقد بينا القول فى أدلة هذا الرأى بالنسبة للإسراء من قبل.
وقد انضم إليهم غيرهم ممن يرون ان الإسراء كان بالجسد والروح، فمنهم من قال إن المعراج كان بالروح وليس فى الموضوع نص قرانى يدل بظاهره على أنه كان بالجسد والروح، حتى لا يكون مناص من اتباعه أو تأويله، بل نجد الألفاظ تقبل أن يكون المعراج بالروح، وبالظاهر المتبادل، لا بالتأويل المنتزع انتزاعا.
ولننظر فى الايات الكريمات الدالة على المعراج:
دلالة اية الإسراء على المعراج بالإشارة لا بالعبارة، وذلك فى قوله سبحانه وتعالى لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا فتلك الايات التى أراها الله عبده هى المعراج وإمامة الأنبياء السابقين.
والايات الاخرى التى دلت على المعراج، كانت ألفاظها لا تدل على المعراج إلا بالإشارات البيانية، ولننظر فيها عبارة عبارة، وكلها من السمو البيانى فى السماك الأعزل الذى لا يصل إليه بيان قط.
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى «2» فقد قالوا إنه جبريل عليه السلام، وإذا كان سبحانه وتعالى، فتعليمه لا يكون بالتلقين بل يكون بالإرشاد والإيحاء.
(1) سورة الشورى: 51.
(2)
سورة النجم: 5- 6.
وقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى يراد جبريل عليه السلام ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى أى نزل وقرب من النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
عن طريق جبريل، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى وهو جبريل أيضا وقوله سبحانه وتعالى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى توميء إلى أن الايات الكبرى التى راها كانت بفؤاده لا ببصره، وقوله سبحانه وتعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى أى ما كل وما تجاوز حده، والنفى فيه ما قد يكون لأنه لم تكن رؤية بالبصر. حتى يكل المبصر أو يتجاوز حده، وقد يكون لبيان أن البصر لم يتجاوز حده ليطغى، ويحاول أن يرى ما لا يمكن أن يراه، ويزيغ بأن يكل ويمل، ويلقى فى النفس ما لم ير.
وإننا عند هذا النظر الفاحص ننتهى إلى أن الإسراء إذا كان بالجسد والروح، فإن المعراج كان بالروح فقط، وأنه كان رؤيا صادقة، وقد اتجهنا إلى ترجيح ذلك لما يأتي:(أ) أنه ذكر فى المعراج أنه التقى بالأنبياء ادم وإبراهيم وموسى ويحيى، وغيرهم، والباقى منهم هو أرواحهم، وأجسامهم سيبعثها الله تعالى يوم البعث والنشور، وفرض أنه بعثها ثم أفناها فرض بعيد لم يذكر فى حديث من الأحاديث، ولا خبر من الأخبار، ولو ضعيفا، وكل فرض فى أمر غيبى لا دليل عليه من المنقول فهو رد على قائله إلا أن يكون أمرا يؤدى إليه البرهان العقلى، ولا يوجد شيء من المنقول ولا المعقول يقرر إعادة أجسام الأنبياء الكرام أحياء، ثم إعادتها إلى الفناء.
(ب) إن العبارات القرانية الكريمة الواردة فى المعراج توميء بل تصرح بأن الأمر فى هذه الرحلة السماوية كان روحيا وأن الإدراك لم يكن بالحس، بل كان بالقلب والفؤاد، فالله تعالى يقول:
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى فالحديث القرانى كله كان فى إثبات رؤية الفؤاد، وأنه لا تجوز المماراة فيما رأى الفؤاد الذى لا يكذب، وذلك لا يتحقق إلا بأن تكون الرؤية روحية، لأن رؤية القلب لا تكون إلا روحية، وأنه عندما ذكرت حاسة البصر ذكرت بالنفي، لا بالإيجاب، وقد بينا مؤدى النفى فى هذا.
(ج) أن أخبار المعراج تصرح بأنه رأى ربه، والرؤية القلبية ممكنة باستحضار عظمته، وبالسبحات الروحية المتجهة إلى الله سبحانه وتعالى وأن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد قرر أنه لم ير ربه فى حديث أبى ذر الغفارى، فقد قال عليه الصلاة والسلام فى إجابة سؤال الصحابى الجليل أبى ذر:«إنه نور، فأنى أراه» .
وإننا لا نتعرض فى ذلك لكون رؤية الله تعالى يوم القيامة ممكنة، أو غير ممكنة، فذلك يوم القيامة بعد البعث والنشور، وذهاب أهل الجنة إليها، وإبقاء أهل النار فيها، فإن الكلام فيها غير الكلام فى الدنيا، ونحن نحس ونرى، فإن كانت رؤية الله تعالى الان فهى بالعين الفانية، ورؤية أهل الجنة عند من يثبتونها تكون بالعين الباقية، والله أعلم كيف يرى.