الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولهما- كيف يرضى طالب الحق بالتعب فى سبيل طلبه، هذا شاب صغير يكاد يكون غلاما، يعيش فى ظل أبيه فى عيش رافغ، وهناءة من الرزق، يرى كنيسة فيها عباد لا يعبدون النار الذى كان سادنا لها، فتستهواه عبادتهم، فيتقدم لأبيه برغبته فى أن يكون نصرانيا فيكبله أبوه بالحديد، فلا ينثنى، ويجتهد فى أن يفك أغلاله، ويلحق بهم فيكون له ما يريد، ثم يحمل نفسه عناء الانتقال من إقليم إلى إقليم حتى يصل إلى الحق الذى يريده، ويصاب بالرق فيصبر، ولا ينثنى عن غايته، ويقبل أن يعيش مظلوما فى قيد الرق صابرا محتسبا، حتى يصل إلى غايته، وهو التقاؤه بمن يطلبه حتى وجده، وكان العون من الله فى فك رقبته، إنه العابد الصابر حقا، من يوم فك قيود أبيه، فقد فك معها قيود عقله، ونفسه، وصار ديانا لله سبحانه وتعالى، لا يبغى إلا رضاه، وإذا كان قد غادر أباه فقد انتهى إلى حضن رسول الحق فاحتضنه هو، وقال عليه الصلاة والسلام: سلمان منا ال البيت.
الأمر الثانى: وهو الجوهرى فى القضية أن أمر نبى منتظر كان معروفا بين العرب فى عصر النبى عليه الصلاة والسلام، وهو المقصد الأصلى من سوق القصة مع طولها، فالعرب كانت أسباب العلم برسالة النبى صلى الله عليه وسلم معلومة عندهم، علمها طلابها، والذين صفت نفوسهم وجهلها الأكثرون لعدم الاتجاه إلى تعرفها، ولم يكن عندهم الاتجاه الدينى ليعرفوا ما لم يعرفوا من شئون الدين فى قابل حياتهم، حتى جاءهم البشير النذير يقرع بالحجة القاطعة مسامعهم، ليكون من بعد ذلك العقاب أو الثواب، قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ.
يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:
184-
قد ذكرنا فيما مضى إشارة إلى أن اليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا من الوثنيين بنبى مرسل يكون لهم، ويكون على الوثنيين، ينصر اليهود، ذكرنا بالإشارة، ولكن فى هذا المقام لا تغنى الإشارة عن العبارة، فلابد من أن نذكر بعض الإيضاح ليتبين الباحثون من معرفة أن العصر كانت فيه البيانات الكافية التى تبين أن رسولا من قبل الله تعالى وشيك أن يظهره الله تعالى بينهم مصحوبا بحجته، مبينا باياته ودعوته.
ولم يكن ذكر النبى عليه الصلاة والسلام لمن عاصروه من الأوس والخزرج فقط، بل كان من قبل أن تقع الحروب بين اليهود وبينهم.
فقد ثبت فى التاريخ أن تبعا أبا كريب اليمنى جاء إلى يثرب وأحنقه أن بعض أهلها قتل رجلا من رجاله، فقاتلهم، وبينا تبع على ذلك من قتالهم إذ جاءه حبران من أحبار اليهود من بنى قريظة، وهما عالمان بأصول الديانة اليهودية ومصادرها، والمخبوء من وثائقها، وقالوا له:
«أيها الملك لا تفعل، فإنك إن أبيت إلا ما تريد، حيل بينك وبينها، ولم نأمن عليك العقوبة» فقال لهما: ولم ذلك: قالا: «هى مهاجر نبى يخرج من هذا الحرم من قريش تكون داره وقراره» «1» .
ولقد كانت أخبار اليهود بنبى يجيء تشيع فى يثرب، وتنتقل إلى أهلها طبقة بعد طبقة، وكان من أسباب مسارعة الأنصار للاستجابة للنبى عليه الصلاة والسلام، وكان لهم بذلك علم بالكتاب أتى إليهم من اليهود، وقد ذكر قتادة عن رجال قومه، والسبب فى مسارعتهم إلى إجابة النبى عليه الصلاة والسلام إلى النصرة والإيمان فقال:
ولم يكن اليهود يذكرون خبر النبى عليه الصلاة والسلام مقتصرين على الخبر، بل يذكر مع ذلك الإيمان باليوم الاخر، والجزاء بالنعيم المقيم، أو بالجحيم، ويظهر أنهم لم يكونوا من الذين ينكرون البعث، ففيهم من يصدقه، ومنهم من يكفر به.
ولقد ذكر بعض من الأنصار، وهو سلمة بن سلام، فقال:
«كان لنا جار من يهود بنى عبد الأشهل، فخرج علينا من بيته، حتى وقف على بنى عبد الأشهل؛ فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان، والجنة والنار. فقالوا له: ويحك، أو ترى هذا كائنا: أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم!! قال نعم، والذى يحلف به
…
فقالوا له: ويحك، فما اية ذلك! قال: نبى مبعوث نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكة المكرمة واليمن، فقالوا:
ومتى نراه، قال سلمة: فنظر إلى وأنا من أحدثهم سنا فقال: «إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه» «3» .
ولقد عرف بعض اليهود وصف النبى عليه الصلاة والسلام وفيه إنه يسبق حلمه جهله، فهو لا يحمق.
(1) البداية والنهاية ج 2 ص 164.
(2)
سيرة ابن هشام ج 1 ص 211.
(3)
سيرة ابن هشام ج 1 ص 211.
ولقد روى عن عبد الله بن سلام الصحابى أنه قال: لما أراد الله تعالى هدى زيد بن سمية، قال:
لم يبق شيء من علامات النبوة إلا عرفتها فى وجهه صلى الله تعالى عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين، لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه، فأعرف حلمه وجهله» فذكر قصة إسلافه للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم مالا فى ثمرة.
قال: فلما حل الأجل أتيته، فأخذت بمجامع قميصه وردائه، وهو فى جنازة مع أصحابه، ونظرت إليه بوجه غليظ، وقلت: يا محمد، ألا تقضينى حقى، فو الله علمتكم يا بنى عبد المطلب لمطل. فنظر إلى عمر، وعيناه تدوران فى وجهه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله أتقول لرسول الله عليه الصلاة والسلام ما أسمع، وتفعل ما أرى، فو الذى بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفى رأسك، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينظر إلى عمر فى سكون وتؤدة، وتبسم ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر: أن تأمرنى بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، اذهب به يا عمر، فاقضه حقه وزد عشرين صاعا من تمر، فأسلم» .
185-
هذه نقول تاريخية ثابتة تبين أن العصر الذى بعث فيه عليه الصلاة والسلام كان عصرا يدور فيه كلام حول نبى يرسل، وقد كان لهذا الكلام مصدران:
أولهما- ما كان يحاوله الذين أرادوا إحياء ملة إبراهيم عليه السلام، فقد كان بعض من أهل مكة المكرمة يؤمنون بضرورة إحياء ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، وقد وجدوا بفطرتهم أن الله لا يدع ذربة إبراهيم بورا لا هادى يهداهم، ولا مرشد يرشدهم. وقد رأيت من خرجوا على أقوامهم، واطمأن بعضهم إلى النصرانية فدخلوها، وبعضهم أخذ يطوف فى الأرض حيث يبحث عن عقائد سليمة لا تدخلها الوثنية، ومات شهيدا فى طلب الحقيقة، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم من بعد بعثته أن الله تعالى سيبعثه أمة واحده، فرضى الله تعالى عنه.
ثانيهما- الكتب السابقة، وأقوال الأحبار والرهبان، وعلماء الأخبار من اليهود والنصارى، فبحيرى الراهب كان قد لقى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم غلاما، وطبق الأوصاف التى لديه، ونسطورا الراهب قد لقيه وهو شاب، كانت أخبار اللقاءين تذيع وتشيع عند العرب، وفوق ذلك كان نصارى نجران وغيرهم يذكرون للناس ترقبهم لنبى منتظر، كانت أوصافه لديهم وكان محمد أكثر ذكرا، لا أنهم يريدون إعلان حقيقة، أو ابتغاء هداية، بل شفاء غيظهم، وإطفاء نار حقدهم أو التمادى فيه، فقد كانوا يعلنون ذلك عندما تحز فى أجسامهم سيوف الوثنيين، فيذكرون خبره، ويقولون: سنقتلكم معه، كما قتل عاد وإرم.