المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ارهاص وبشارة بالنبوة: - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

أما امتناع أبى طالب ابتداء كما يوهم القول، فسببه الخشية عليه من وعثاء الطريق، ولخشية الضيعة، ولذا عندما نزل على إرادته قال «لا يفارقنى ولا أفارقه» .

خرج محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مع عمه للتجارة بالشام، فحلت القافلة بأرض مدينة بصرى، وبصرى كانت موطنا لصوامع الرهبان، يقيمون بها، منصرفين إلى عبادتهم، وتعرف الإنجيل والتوراة، وما يحتويان، فكان لهم مع الرهبنة والزهادة علم بالكتاب وإشارته، وتبشيراته.

‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

102-

قامت هذه الرحلة مشتملة على إرهاص كبير معلم بنبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفيها إعلان عن البشارة بهذه النبوة والإعلام بأماراتها.

لقد كان ببصرى راهب فى صومعة، اسمه بحيرى، وكان على علم بالكتاب، وكان نزلاء هذه الصومعة ذوى علم بالتوراة والإنجيل، يتوارثون ذلك العلم كابرا عن كابر.

وكان من طبيعة بحيرى كما هو طبيعة كل الرهبان ألا يخرجوا للقاء القوافل ولا تعرف أحوالها، ولا استضافة من فيها، لأن الرهبنة تتقاضاهم العزلة وهم لا يخرجون عن سنتها، ولا ينحرفون بأنفسهم عن أحكامها، ويظهر أن قوافل العرب تعودت هذا وتعودوها من هذا الراهب خاصة ألا يلقاهم، ولا يلقوه.

ولكنه فى هذه المرة خرج من صومعته، إذ رأى من البينات ما يتفق وما عنده من التبشير برسول يأتى من بعد عيسى اسمه أحمد. فخرج من الصومعة ليلتقى بتلك القافلة ويعرف من تنطبق عليه تلك الأمارات، ويتحقق فيه التبشير. ذلك أنهم نزلوا قريبا من صومعته، وأنه رأى غمامة تظلهم تسير حيث يسيرون وتقف حيث يقفون، وأنهم إذا اووا إلى فيء شجرة، رأى أغصانها تتهصر، وتميل حتى تظل واحدا منهم هو رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وجد هذه العلامات، ويظهر أنه لم يتبين ذلك الصبى، أو تبينه وأراد أن يعرف أحواله، وبقية الأمارات الدالة على أنه المذكور فى الإنجيل.

ولذلك أراد أن يزيد تعرفه بالقوم، فاتجه إلى إكرامهم، فأقام لهم وليمة عامة تشمل صغيرهم وكبيرهم، لا يتخلف منهم أحد، وأرسل إليهم يدعوهم، وقال فى رسالته لهم:«إنى صنعت لكم طعاما يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلكم، كبيركم وصغيركم، وعيدكم وحركم» .

لم يكن العجب من الدعوة إلى الطعام، إنما كان العجب من أنه ترك صومعته، وخرج إليهم، ولذا قال رجل من قريش «والله إن لك يا بحيرى لشأنا اليوم، ما كنت تصنع هذا بنا، وقد كنا نمر بك كثيرا، فما شأنك اليوم» .

ص: 127

قال بحيرى: صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف، وأحببت أن أكرمكم، وأصنع لكم طعاما تأكلون منه كلكم. فاجتمع القوم إليه، ولم يتخلف إلا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحداثة سنه، وبقى تحت الشجرة يرعى إبلهم ويحرسها، فلما راهم لم ير الصفة التى عرف بها الرسول المنتظر فى كتبهم، فذكر لهم أنه طلب ألا يتخلف أحد منهم عن طعامه، فقالوا: يا بحيرى ما تخلف أحد ينبغى له أن يأتى، إلا غلام وهو أحدثنا سنا، فتخلف فى رحالنا، قال: لا تفعلوا ادعوه، فليحضر هذا الطعام.

فقال رجل من قريش مع القافلة: واللات والعزى إن كان للؤم منا أن يتخلف محمد بن عبد الله ابن عبد المطلب عن طعام من بيننا. حضر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الوليمة، واختصه الرجل بفضل من العناية فاحتضنه وأجلسه.

أخذ بحيرى يلحظه لحظا شديدا، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده من صفته.

حتى إذا فرغ القوم من طعامهم، وتفرقوا قال له: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا أخبرتنى عما أسألك. وإنما قال بحيرى ذلك، لأنه سمع قومه يحلفون بهما.

فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو غلام لم يبعث: لا تسألنى باللات والعزى شيئا، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. عدل بحيرى عن استقسامه بهما، وقال: والله إلا أخبرتنى عما أسألك عنه، فقال عليه الصلاة والسلام: سلنى عما بدا لك.

جعل بحيرى يسأله عن رحلته وهيئته وأموره، ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخبره، ويقول ابن إسحاق: فوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.

ثم نظر إلى ظهره، فرأى خاتم النبوة بين كتفيه، فى موضعه من صفته التى عنده.

فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب، فقال: ما هذا الغلام منك، قال: ابنى!! قال بحيرى: ما هو بابنك، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال أبو طالب: فإنه ابن أخى. قال: فما فعل أبوه؟ قال:

مات وأمه حبلى به، قال: صدقت، ارجع بابن أخيك إلى بلده، واحذر من اليهود، فو الله لئن رأوه، وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا، فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده.

فخرج به عمه أبو طالب سريعا، حتى أقدمه مكة، وأنجز تجارته «1» .

(1) البداية والنهاية لابن كثير، السيرة لابن هشام، الاكتفاء.

ص: 128

103-

إن هذه رواية من الروايات التى رويت فى هذه الرحلة، والتقاء بحيرى الراهب. وليس فيما ذكره بحيرى، ولا فى أصل القصة غرابة؛ لأن التبشير بالنبى صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت عند أهل الكتاب، وقد أشرنا إلى ذلك فى مقدمة كتابنا، وليس فى القصة أمر يستحيل تصديقه، أو يتعذر تصديقه، بل إنه خبر يتفق مع ابتداء نشأة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، وإظلال الغمامة له عليه الصلاة والسلام، ليس فيه غرابة أو ما يظن أنه غريب فى زعم الذين يجحدون، ومن طبيعتهم جحود ما ليس ماديا ولا محسوسا، ولكن يرد عليهم جحودهم بأن شواهد الصدق فى الخبر قائمة، فخاتم النبوة كان أمرا ظاهرا في جسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، راه الراؤن ووصفه الواصفون فإذا كانوا لا يؤمنون إلا بالمادى، فهذا أمر مادى ظاهر، وقد وجد فيه، ولم يوجد فى أحد من غيره، فكيف يمترون؟ وهناك شاهد اخر بالصدق، وهو وجود هذه الأوصاف المعروفة فى التوراة والإنجيل حتى بعد أن أصابها التحريف، وإذا كانوا قد نسوا حظا مما ذكروا به، وأفسدوا الباقى، فالبشارات تلوح معلنة وجودها، رغم أنف الجاحدين المستكبرين، فلا مجال لا رتياب مرتاب.

بقى فى كلام بحيرى أنه يخوف أبا طالب الكافل الكريم من اليهود، وفى بعض الروايات أنه يخوفه من الرومان لأنه يعرضه للأذى، والتخويف منهما معا جائز، وذلك لأن الرومان كانت الملكانية فى الطوائف المسيحية حريصة على معاداة العرب، وكل مذهب دينى غير الملكانية، ولذلك كانت العداوة شديدة اللدد بينهم وبين اليعقوبيين بمصر، وكان بينهما ما بين النصارى واليهود، بل كانوا أشد إيذاء، وحينما قربت العقيدة بين طائفتين كانت العداوة أحد، إذ كل حريص على أن يدمج الاخر فيه.

وأما اليهود فمع أنهم كانوا فى البلاد العربية يستفتحون فى يثرب على الذين كفروا بالنبى الذى ان أوانه، كانوا يكرهون أن يكون من بنى إسماعيل، لأن حسدهم يجعلهم يستكثرون أن يكون نبى من غير ذرية إسحاق عليه الصلاة والسلام.

وخاتم النبوة الذى كان فى ظهر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم هو لحم ناتيء بين كتفى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فى نسق ليس فيه تشويه للمنظر، قيل إنه كتفاحة، وقيل إنه كرقبة العنزة، وإن كثرة التشبيهات ممن رأوه فى جسم النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ليست اختلافا فى أصله، ولكنه اختلاف فى عبارة الذين رأوا، والتشبيه من حيث حجمه، ونظر الذى وصفه. والرواية التى ذكرناها، هى أقصر الروايات عبارات.

وقد روى الترمذى رواية أخرى أطول، وقد جاء فيها أن بحيرى قال عندما أخذ بيد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

ص: 129

«هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال أشياخ قريش: من أين علمك، قال إنكم حين أشرفتم لم يبق لشجر، ولا حجر إلا خر ساجدا، ولا تسجد إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه، ثم رجع فصنع لهم طعاما» «1» .

104-

عاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من تلك الرحلة التى يبدو من ثناياها أن محمدا عليه الصلاة والسلام أراد فيها أن يعرف الشام وأحواله، والتجارة، والصفق فى الأسواق، وبدت فيه تلك البشائر النبوية، وعلم الأشياخ من قريش مكانة ذلك الصبى، وهو المحبوب بينهم كثيرا كأبيه، حتى أنه لما نبههم بخيرى إلى أنه لم يكن بينهم ويجب أن يكون بينهم، تنبهوا، وقال قائلهم، إنه للؤم إذ لم يكن بيننا، وناداه واحتضنه، شعورا بالمحبة الشديدة المخلصة، وإشعارا بالندم على ما كان عندما رأوا هذه الحال.

وأخذ عمه أبو طالب بنصيحة الراهب، وقفل به راجعا مسرعا، خشية عليه مما خشى الراهب، من أن يغتاله اليهود، أو الرومان، فعاد به إلى قومه.

وإنه فى هذه الرحلة التجارية التى رغب فيها محمد صلى الله عليه وسلم واستجاب له أبو طالب شفقة ورقة وملاطفة، وهو يحسب أنها من رغبات الصبيان، وأجابه محبة وتدليلا، يحسب أنه لا جد فيها، ولا غاية، ولكن الصبى يظهر أنه كان يريد منها الجد، فيريد منها الاستعداد لعمل يعتمد فيه على نفسه، ولا يكون كلا على عمه المحدود فى الرزق، فهو يريد الكسب من عمل يده.

وإذا كان اليتم لم يقهر محمدا صلى الله عليه وسلم فى نفسه، إذ أعزه الله تعالى، وأكرمه، ولم يمكن أحدا من قهره فكان اليتيم العزيز المحبوب، فإن محمدا صلى الله عليه وسلم استفاد من اليتم الجد فى طلب الرزق غير معتمد على أحد غير ربه، فنال من اليتم محاسنه، ولم ينل اليتم منه بمساوئه.

ذلك أن الثابت أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ابتدأ الاعتماد على نفسه من بعد، وقد رأينا أنه ابتدأ يرعى الغنم صبيا، فلما تجاوز الصبا إلى المراهقة اتجه إلى صناعة أشراف مكة، وهى التجارة، ولم يذكر التاريخ فى أى سن ابتدأ التجارة، ولكن الأمارات تصور لنا أنه ابتدأ فى سن مبكرة.

أولا- لأنه رغب رغبة شديدة فى أن يسافر إلى قافلة التجارة، ولا نفرض أنه طلب ذلك لمجرد متعة السفر، فإنه كان صبيا جادا، ولم يكن ممن يميلون إلى المتاع.

وثانيا: لأنه كان لا يمكنه أن يعتمد على ثراء أحد. إذ كان كافله الذى كفله، وهو أبو طالب فقيرا.

(1) الروض الأنف ج 1 ص 219.

ص: 130