المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌موت الطهور امنة: - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: ‌موت الطهور امنة:

والظاهر أنها خرجت به بعد أن أخذته من حاضنته ومرضعته بعد أن بلغ خمس سنين وأشهرا كما ذكرنا من قبل، أى أنه كان قد ابتدأ السادسة، وسار فيها أشهرا.

وقد زار أولئك الصفوة من الأخيار قبر عبد الله أبيه، والزوج الحبيب زوج امنة فعبرت العيون وسكنت الأصوات، وتناجت الأرواح على مشهد من الغلام المحس المدرك، فعرف أباه، وقد أرمس فى التراب، ورأى رمسه بنظره، وأدرك محبته من عبرات أمه، فكان منظرا مطبوعا فى نفسه، وهمسا مس قلبه ومشاعره، ولعله أول حزن مس قلبه الغض البريء.

أقام وأمه فى أطم بنى عدى بن النجار، وهو قصر بنى فى أكمة عالية كأنه الحصن، وقد كانت الأطم معروفة فى المدينة، ويظهر أن الإقامة لم تكن قصيرة، وربما كانت طويلة نسبيا، ومهما يكن فقد رسمت فى ذهن الغلام صورا وضحها الخيال ووسعها من غير مبالغة ولا إغراق عند ذكرها.

فيروى أنه قال، وقد راها بعد أن حمل أعباء الرسالة:«كنت مع غلمان من أخوالى نطير طائرا يقع عليه» (أى على أطم بنى النجار) . وقال فى الدار التى نزل بها هو وأمه: «ها هنا نزلت بى أمى، وفى هذه الدار قبر أبى عبد الله بن عبد المطلب» .

‌موت الطهور امنة:

93-

أقامت امنة بدار بنى النجار ما طابت لها الإقامة، ولم ترد الاستمرار بعيدة عن بنى هاشم وعن الجد الطيب عبد المطلب كافله، فكان لابد من العودة، فأخذت فى السير إلى مكة، ولكنها وهى عائدة إليها أدركها الموت بمكان اسمه (الأبواء) ، وهو بين مكة والمدينة، وهو إلى المدينة أقرب، كما يقول صاحب الروض الأنف «1» . وبذلك صار محمد صلى الله عليه وسلم يتيما من أبويه إذ ادخره الله تعالى للإنسانية هاديا بالحق، داعيا إلى الرحمة، فكان نبى الرحمة، لأن الرحمة بالناس تنبع من الالام الذاتية التى تعترض فى أثناء الحياة، فإنه لا تنبعث الرحمة بالضعفاء إلا ممن ذاق مرارة الضعف، وأى ضعف أشد من اليتم، وإن القسوة فى كثير من الأحيان تكون من الذين ينشئون فى الحلية فاكهين فى نعيم الحياة.

ولقد ماتت الأم الطاهرة، وهو يدرك الحياة، وقد ذاق حلاوة حنانها، ولطف عطفها، وهى التى كان هو لها كل الوجود، واستبشرت به، واتخذت حبه عوضا عن الحب الزوجى الذى فقدته فى باكورة زواجها، وإذا كان قد فقد أباه من قبل، فقد كان ذلك هو فى غيب الله المكنون، وقد عوضه جده

(1) يقول فيه صاحب الروض الأنف: وقيل سمى الأبواء، لأن السبل كان يبوء فيه.

ص: 116

عطف الأب فلم يحس بألم الفقد، لأنه لم يعلمه، واستقبل الحياة بهذه الحال، ولم يجعله جده عبد المطلب يحس بالفقد الذى لم يعه، أما الأم فقد فقدها وهو فى وعى، وبعد أن ذاق حلاوة حنان الأم، وإنه لا شئ يعوض عطف الأم الرؤم، وهو حرمان من شئ موجود شعر به، وأصابته لوعته، علمته الصبر وعوده أخضر.

وزادت اللوعة، وزاد معها الصبر، أن الموت، وهما غريبان، وليس لهما إلا الصحراء، وطريق مدعثر، وشقة بعيدة، لابد من قطعها، فاجتمع ألم الغربة، وأ لم الفقد، وأ لم الانقطاع، وصار الركب فى رعاية الله تعالى الذى صنعه على عينه، وذلك ليحس مع الصبر واحتمال الالام كريم الرعاية الالهية، والعناية الربانية، ويكون له من هذا زاد نفسى يذكره عندما يلاقى الشدائد فى الدعوة إلى الحق، ومناوأة الشرك وتكاثف المشركين عليه، وتعرضه للأذى والتجائه إلى الله إذا أحس بالضعف.

وإن الذى حلمه، وحل محل أمه فى حضانته جارية حبشية، وإذا كانت لم تعطه حنان الأم، وعزة العطف، فقد كلأته وحمته.

وإن ارتباط حياته الطاهرة بأمة حبشية تزويد من الله تعالى له بزاد إنسانى. ليشعره بأن الناس سواسية، وأن كل الفضل فيمن يحسن فى عمله، لا فيمن يفاخر بنسبه، وإنها لحكمة عالية أن تكون الحاضنة التى لا يستغنى عنها محمد صلى الله عليه وسلم أمة حبشية، لأنه تربية ربانية على المساواة الإنسانية، وأنه لا شرف إلا بالنفع، والعاطفة. لذلك لم يكن غريبا من الذى حضنته جارية حبشية أذاقته حب الأمومة. وإن كان دون حبها، وأوصلته إلى جده محوطا بعناية الله وعطفها- أن يكون نصير الأرقاء، والمانع للرق الإنسانى، فليس غريبا أن يغضب أشد الغضب، عندما يسمع بعض صحابته يعير اخر بقوله «يا ابن السوداء» ويقول فى قوة:«لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، لقد طفح الكيل، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى فمحمد ابن البيضاء حضنته السوداء فكان ابنا لهما معا» .

94-

ذاق حب الأم، وذاق لوعة فراقه، ولذلك زار قبرها، بعد أن بلغ أشده، وصار رجلا مكتملا سويا ورسولا نبيا، جاء فى الروض الأنف «وفى الحديث أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زار قبر أمه بالأبواء. فبكى وأبكى» وهذا حديث صحيح، وفى الصحيح أيضا أنه قال:«استأذنت ربى فى زيارة قبر أمى، فأذن لى واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لى» وفى سند البزاز من حديث بريدة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم حين أراد أن يستغفر لأمه ضرب جبريل عليه السلام فى صدره، وقال له: لا تستغفر لمن كان مشركا، فرجع وهو حزين. وفى حديث اخر ما يصححه، وهو أن رجلا قال له: يا رسول الله أين

ص: 117

أبى؟ فقال: فى النار، فلما ولى الرجل قال عليه السلام: إن أبى وأباك فى النار» وليس لنا أن نقول نحن هذا فى أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم، لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات» وإنما قال النبى عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل ما قال، لأنه وجد فى نفسه، وقد قيل أنه قال أين أبوك أنت، فحينئذ قال، وقد رواه معمر بن راشد بغير هذا اللفظ، فلم يذكر أنه قال إنه قال إن أبى وأباك فى النار.

ولا شك أن الخبر الذى يقول أن أبا محمد عليه الصلاة والسلام فى النار خبر غريب فى معناه، كما هو غريب فى سنده، لأن الله تعالى يقول: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» وقد كان أبو محمد عليه الصلاة والسلام وأمه على فترة من الرسل، فكيف يعذبون؟!! إن هذا مخالف للحقائق الدينية، لقد مات أحدهما قبل أن يبرز الرسول إلى الوجود، وماتت الاخرى وهو غلام لم يبعث رسولا، ولذلك كان الخبر الذى يقول أنهما فى النار مردودا لغرابة سنده، أولا، ولبعد معناه عن الحقيقة ثانيا.

ولعل نهى النبى عليه الصلاة والسلام عن الاستغفار، لأن الاستغفار لا موضع له، إذ أنه لم يكن خطاب بالتكليف من نبى مبعوث، وليس كاستغفار إبراهيم لأبيه الذى نهى عنه، لأن أبا إبراهيم قد خوطب برسالة إبراهيم فعلا، فهو مكلف أن يؤمن بالله، ويكفر بالأوثان.

وفى الحق أنى ضرست فى سمعى وفهمى عندما تصورت أن عبد الله وامنة يتصور أن يدخلا النار؛ لأنه عبد الله الشاب الصبور الذى رضى بأن يذبح لنذر أبيه، وتقدم راضيا، ولما افتدته قريش استقبل الفداء راضيا، وهو الذى كان عيوفا عن اللهو والعبث، وهو الذى برزت إليه المرأة تقول هيت لك، فيقول لها أما الحرام فالممات دونه، ولماذا يعاقب بالنار، وهو لم تبلغه دعوة رسول، ونفى الله تعالى العذاب إلا بعد أن يرسل رسولا، ولما تكن الرسالة قد وجدت، ولم يكن الرسول قد بعث.

وأما الأم الرؤوم الصبور التى لاقت الحرمان من زوجها فصبرت، ورأت ولدها يتيما فقيرا، فصبرت، وحملته صابرة راضية فى الذهاب إلى أخواله، أيتصور عاقل أن تدخل هذه النار من غير أن يكون ثمة رسالة تهديها ودعوة إلى الواحدانية توجهها.

إنى ضرست لا لمحبتى للمصطفى الحبيب فقط وإن كانت كافية، ولكن لأن قصة امنة جعلتنى لا أستطيع أن أتصور هذه الصبور معذبة بالنار، وقد شبهتها بالبتول مريم العذراء لولا أن الملائكة لم تخاطبها.

95-

ويظهر أن النبى صلى الله عليه سلم كان كلما مر بقبر أمه غلبت عبراته، ولا عيب فى ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام أن البكاء من الرحمن والصراخ من الشيطان، ولقد ذكر الرواة أنه

(1) سورة الإسراء: 15.

ص: 118

بكى عندما مر بالأبواء، وبكى من معه لتذكر أمه، ولقد قال القرطبى فى تذكرته «جزم أبو بكر الخطيب فى كتاب السابق واللاحق، والناسخ والمنسوخ، وأبو حفص عمر بن شاهين بإسناديهما عن عائشة رضى الله عنها، قالت: حج بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر على قبر أمه، وهو باك حزين مغتم، فبكيت لبكائه صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم إنه نزل، فقال: يا حميراء استمسكى، فاستندت إلى بيت البعير، فمكث عنى طويلا، ثم عاد إلى وهو فرح مبتسم، فقلت: يأبى أنت وأمى يا رسول الله نزلت من عندى وأنت باك حزين مغتم، فبكيت لبكائك، ثم عدت وأنت فرح مبتسم، فيم ذا يا رسول الله، فقال «ذهبت لقبر امنة أمى، فسألت أن يحييها الله تعالى، فأحياها فامنت بى» .

روى فى إحياء أمه وأبيه خبر مثل ذلك بسند فيه مجهولون.

ونحن نرى أن توافر السند الصحيح فى هذه الأخبار غير ثابت، ولكن نقول ما قاله صاحب الروض الأنف- «الله قادر على كل شيء، ولا تعجز رحمته وقدرته عن أى شيء، ونبيه عليه الصلاة والسلام أهل أن يخصه بما شاء من فضله، وينعم عليه بما شاء من كرامته صلوات الله تعالى وسلامه عليه» .

ولقد روى الحافظ ابن كثير أحاديث كثيرة فى هذا الباب، وذكر أن فيها غرابة، وذكر الخبر الذى سقناه عن عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، سأل ربه أن يحيى أبويه فأحياهما وامنا به ثم قال فيه:«إنه حديث منكر جدا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله تعالى- لكن الذى ثبت فى الصحيح يعارضه» «1» .

وخلاصة القول، وهو ما انتهينا إليه بعد مراجعة الأخبار فى هذه المسألة أن أبوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فى فترة، وأنهما كانا قريبين إلى الهدى، وإلى الأخلاق الكريمة التى جاء به شرع ابنهما من بعد، وأنهما كانا على فترة من الرسل، ونعتقد أنه بمراجعة النصوص القرانية والأحاديث الصحيحة لا يمكن أن يكونا فى النار، فأمه المجاهدة الصبور، الحفية بولدها. لا تمسها النار. لأنه لا دليل على استحقاقها، بل الدليل قام على وجوب الثناء عليها هى وزوجها الذبيح الطاهر.

وما انتهينا إلى هذا بحكم محبتنا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كنا نرجوها ونتمناها، ولكن بحكم العقل والمنطق والقانون الخلقى المستقيم، والأدلة الشرعية القويمة، ومقاصد الشريعة وغاياتها.

(1) البداية والنهاية ج 2 ص 281.

ص: 119