المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ بعد البعثة - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: ‌ بعد البعثة

ولقد اشتهر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بالأمانة، حتى صار اسمه «الأمين» ولما حكّموا أول من يدخل البيت فى أمر الحجر الأسود، وكان هو الداخل الأول ارتضوه حكما، وفرحوا به، وقالوا إنه الأمين، وكان فى معاملاته كلها عدلا، لا يغبن، ولا يخدع، وكان ينتصف من نفسه فى كل ما يتعلق به، كان ذلك قبل البعثة.

أهدت إليه أم المؤمنين خديجة قبل البعثة زيد بن حارثة، فكان مولى له، ولما عرفه أهله، وجاؤا إليه يريدون أن يفتدوه بثمنه، أعطاهم الرجل العدل، الحق فى أخذه، ولم يمارهم فى حقهم، بل إنه زاد فى العدل والإحسان، فقال: خذوه من غير ثمن إذا أراد الذهاب معكم، ولكن زيدا رفض أن يترك محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقبل أن يبقى فى قربه مولى، ولم يقبل الذهاب مع أسرته، وهنا يتحرك العدل مرة أخرى فى قلب محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فيتخذه له ولدا، وقد كان سائغا عند العرب، كما كان سائغا عند الرومان، ويلحق المتبنى بنسب من تبناه، فكان يقال له زيد ابن محمد صلى الله عليه وسلم، وكان بمقتضى هذا الإلحاق قرشيا، وتزوج على أنه قرشى، حتى نزل من‌

‌ بعد البعثة

تحريم التبنى، وعدم إلحاق الدعىّ بنسب من تبناه. وكان قد أراد محمد بن عبد الله العادل عليه الصلاة والسلام أن يعوضه عن ترك أسرته بذلك التعويض الكريم.

ولقد كان الخصماء يتحاكمون إليه عليه الصلاة والسلام قبل بعثته، فقد روى أن الربيع بن خيثم كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الجاهلية قبل الإسلام، وذلك لما عرف به من الصدق والأمانة والاستقامة، وكونه لا ينطق إلا بالحق، ولا يتجه إلى غيره، ولا يرضى بالباطل أبدا.

بعد البعثة:

161-

لقد كان عليه الصلاة والسلام يوزع الغنائم، فيعطى كل ذى حق حقه، لا يلتفت إلى ما وراء ذلك، فلا غاية يطلبها إلا تحقيق العدل وإرادته، يعطى الرجل من الغنيمة بمقدار جهاده، وقد يعطى من يريد تأليف قلبه، وقد أسلم على حرف، فهو يعطى لعاعة من المال لمن يريد أن يتألفه، كما كان يعطى بعض القرشيين الذين أسلموا عند الفتح تأليفا لقلوبهم وليستمروا على دينهم الذى دخلوه طوعا من غير إكراه، ولكن لكثرة معاندتهم من قبل تألفهم النبى ببعض من الصدقات.

ص: 225

ولقد حدث أن قال بعض الذين فى قلوبهم ضعف إيمان للرسول عليه الصلاة والسلام:

اعدل، فرد عليه النبى عليه الصلاة والسلام «ويلك فمن ذا الذى يعدل عليك بعدى» ولنذكر الخبر، كما فى كتب الحديث، فقد روى قتادة أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى النبى صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم الغنائم فقال:«يا محمد، والله لئن أمرك الله أن تعدل ما عدلت، فقال النبى عليه الصلاة والسلام: ويلك، فمن ذا الذى يعدل عليك بعدى، ثم قال: نبى الله: احذروا هذا وأشباهه، فإن فى أمتى أشباه هذا يقرأون القران لا يتجاوز حناجرهم، فإن خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم» وروى مثل هذا فى الصحيحين مسلم والبخارى.

وإن هذا الكلام يدل على عدالة النبى عليه الصلاة والسلام المطلقة فقد سمع القول من المعترض من غير أن يمنعه من الاعتراض، ولكن بين له أنه العادل، وأنه سيكون إرهاق من بعده، فمن عدل كعدله نجا، ومن لم يعدل فقد انحرف إلى الهاوية.

ويدل ثانيا على أن أمثال هذا ممن يرون العدل غير عدل ويحكمون بهواهم، أو بنظرهم بادى الرأى سيكونون شوكة فى جنب الحكم الإسلامي، وأن سلامة الحكم فى ردعهم ولو بالقتل وتكراره، وذلك عقابهم إذا خرجوا على الحاكم العدل وإلا لا يقتلوا، كما قال على «من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأصابه» .

ثم إن النبى عليه الصلاة والسلام أردف فى هذه الواقعة ما يؤكد عدله المطلق القائم على أمانته، فقال:«والذى نفسى بيده ما أعطيكم شيئا، ولا أمنعكم إنما أنا خازن» .

وإن النبى العادل كان ينفذ الحق فى نفسه، إن ظن أنه اعتدي، كان يقسم الغنائم مرة، وبعض أعراب المسلمين يلاحيه، فرده بعود فى يده، فشكا الألم فأعطاه الرسول الأمين العادل، ليقتص منه، فعفا الرجل، واستحيا أن يفعل.

ولقد كان يخشى لفرط إحساسه بالعدالة، ألا يلقى الله خالصا من حقوق العباد، فقام، وهو مريض مرض الموت، وقد بلغ به الإعياء أشده وقال:«أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضى فليستقد منه، ومن أخذت منه مالا، فهذا مالي، فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء فإنها ليست من شأنى، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا، إن كان له، أو حللنى، فلقيت ربى وأنا طيب النفس» .

ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام ينهى عن الظلم بكل ضروبه، وأكل أموال الناس، وينهى عن معاونة الظالمين بكل أسباب المعاونة، وإنه يشدد فى ذلك، فهو يقول:«اتقوا دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» وقال عليه الصلاة والسلام «من مشي مع ظالم فقد سعى إلى النار، أو كما قال عليه

ص: 226

الصلاة والسلام، ونهى المحكومين عن أن يسكتوا عن ظلم الحاكمين، لأنه معاونة، فقال عليه الصلاة والسلام:«لا يأخذ الله تعالى العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا ولم ينكروا» وأوجب حمل الظالم على العدل، وحث على ذلك فى قوة، فقال عليه الصلاة والسلام:«والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدى الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم» .

وإن هذه الأحاديث تدل على أمرين عظيمين: أولهما- شدة تمسك النبى عليه الصلاة والسلام بالعدل والدعوة إليه والتشدد فيه، والاستمساك به، لأنه كمال فى ذاته، ويدل على استقامة النفس، حاكما كان أو محكوما، فهو الكمال المطلق إن كان- وثانيهما- أنه يدعو إلى العدل الجماعي، لأنه هو الذى يستقيم به أمر الجماعة، فلا يظلم الرجل أهله، ولا يظلم الزوج زوجه، ولا القريب قريبه، ولا الرئيس مرؤسه، ولا الحاكم محكومه، ولا المولى مولاه، وإنه عليه الصلاة والسلام يقول فى حديث قدسى عن ربه:«يا عبادى إنى كتبت العدل على نفسى فلا تظالموا» .

162-

ولقد كان عليه الصلاة والسلام يتولى الفصل فى خصومات المسلمين فى خاصها وعامها، ويأتى فى فصله بحكم الله تعالى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكانت أقضيته تقصد القضاء بحكم الله تعالي، وتنفيذ ما أمر الله تعالى به من أمر وما نهى عنه، وكانت أحكامه عادلة، لا يحابى قويا، ولا يهضم حق ضعيف.

ولما سرقت فاطمة المخزومية، وأهم قريشا أن يقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها ذهب إليه حبه أسامة بن زيد فتشفع له فى ألا يقيم الحد عليها بقطع يدها، فنهره عليه الصلاة والسلام قائلا له مستنكرا: أتشفع فى حد من حدود الله، ثم وقف خطيبا يقول:

«ما بال أناس يشفعون فى حد من حدود الله، إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف قطعوه، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» .

فكان العدل الذى لا يمارى ولا يحابى فى حكم من أحكام الله تعالى.

وكان عليه الصلاة والسلام ينظر فى الأمر عند الاختصام إلى لب القضية، فيتعرف المعتدي، فيحكم عليه، ولا ينظر فقط إلى المظهر، ويروى فى الصحيحين (البخارى ومسلم) أن رجلا عض يد رجل اخر، فنزع المعضوض يده من فم الاخر، فوقعت ثناياه، فاختصموا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويظهر أن الذى رفع الأمر من عض أخاه، فقال النبى عليه الصلاة والسلام، منحيا باللائمة على العاض مهدرا دية أسنانه:«يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك» .

ص: 227

وهو بهذا ينظر نظر الأريب إلى موضوع القضية، ليتعرف موضوع الاعتداء، ومن الذى كان السبب، ثم فيه إشارة إلى من دفع عن نفسه الظلم، وتعين عليه ألا يدفع الظلم إلا بأذى ينزل بالاخر، فهو بريء مما يترتب على فعله، والمتسبب هو الذى يبوء بالاثم ولو كان هو الذى نزل به الأذى.

وكان عليه الصلاة والسلام يلاحظ فى قضائه ثلاثة أمور:

أولها- العدل بين الناس والمساواة بينهم فى تنفيذ أحكام الله تعالى لا فرق بين أمير وسوقة، ولا بين شريف وضعيف، بل الجميع أمام القانون سواء. وفى المأثور «الناس سواسية كأسنان المشط» .

ثانيهما- أنه يلاحظ الأثر إلاجتماعى لحكمه، فهو يغلظ العقاب على من يكثر فساده، حماية للجماعة المسلمة من شره.

ثالثها- أنه لفرط إيمانه بالعدل يخشى أن يقع منه ظلم لأحد، بسبب من يدلون بالحجة فى فصاحة منهم وعجز غيرهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وهو العدل الأمين: إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الاخر، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقتطع له قطعة من النار» .

وفى الحق أن النبى عليه الصلاة والسلام كان عدلا فى ذات نفسه، وعدلا فى كل ما يقوم به، وعدلا فى أحكامه، ويغلب المساواة فى كل شيء حتى فى الهدايا تهدى إليه باعتباره كبير المؤمنين، ويقول فى ذلك ابن القيم فى زاد المعاد فى هدى خير العباد. وقد جاء فى صحيح البخارى أن النبى عليه الصلاة والسلام أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها فى ناس من أصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمة ابن نوفل، فجاء ومعه المسور ابنه، فاستقبله، وقال يا أبا المسور خبأت لك هذا.

وهكذا نرى العدل يعم ولا يخص، وإنه كما ثبت من تاريخه قبل البعثة وبعدها لم يظلم، ولم يضيّع حقا لأحد، بل كان الحريص على حق غيره الحفيظ عليه.

وكان يعوض من يهدى من أصحابه إن تمكن من التعويض، ويهادى من يهاديه، لأن الهدية محبة، وهو عليه الصلاة والسلام يبادل المحبة بالمحبة فهو عادل حتى فيما تبعثه العاطفة، ويدعو إليه الود.

ص: 228