الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد اشتهر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بالأمانة، حتى صار اسمه «الأمين» ولما حكّموا أول من يدخل البيت فى أمر الحجر الأسود، وكان هو الداخل الأول ارتضوه حكما، وفرحوا به، وقالوا إنه الأمين، وكان فى معاملاته كلها عدلا، لا يغبن، ولا يخدع، وكان ينتصف من نفسه فى كل ما يتعلق به، كان ذلك قبل البعثة.
أهدت إليه أم المؤمنين خديجة قبل البعثة زيد بن حارثة، فكان مولى له، ولما عرفه أهله، وجاؤا إليه يريدون أن يفتدوه بثمنه، أعطاهم الرجل العدل، الحق فى أخذه، ولم يمارهم فى حقهم، بل إنه زاد فى العدل والإحسان، فقال: خذوه من غير ثمن إذا أراد الذهاب معكم، ولكن زيدا رفض أن يترك محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقبل أن يبقى فى قربه مولى، ولم يقبل الذهاب مع أسرته، وهنا يتحرك العدل مرة أخرى فى قلب محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فيتخذه له ولدا، وقد كان سائغا عند العرب، كما كان سائغا عند الرومان، ويلحق المتبنى بنسب من تبناه، فكان يقال له زيد ابن محمد صلى الله عليه وسلم، وكان بمقتضى هذا الإلحاق قرشيا، وتزوج على أنه قرشى، حتى نزل من
بعد البعثة
تحريم التبنى، وعدم إلحاق الدعىّ بنسب من تبناه. وكان قد أراد محمد بن عبد الله العادل عليه الصلاة والسلام أن يعوضه عن ترك أسرته بذلك التعويض الكريم.
ولقد كان الخصماء يتحاكمون إليه عليه الصلاة والسلام قبل بعثته، فقد روى أن الربيع بن خيثم كان يتحاكم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فى الجاهلية قبل الإسلام، وذلك لما عرف به من الصدق والأمانة والاستقامة، وكونه لا ينطق إلا بالحق، ولا يتجه إلى غيره، ولا يرضى بالباطل أبدا.
بعد البعثة:
161-
لقد كان عليه الصلاة والسلام يوزع الغنائم، فيعطى كل ذى حق حقه، لا يلتفت إلى ما وراء ذلك، فلا غاية يطلبها إلا تحقيق العدل وإرادته، يعطى الرجل من الغنيمة بمقدار جهاده، وقد يعطى من يريد تأليف قلبه، وقد أسلم على حرف، فهو يعطى لعاعة من المال لمن يريد أن يتألفه، كما كان يعطى بعض القرشيين الذين أسلموا عند الفتح تأليفا لقلوبهم وليستمروا على دينهم الذى دخلوه طوعا من غير إكراه، ولكن لكثرة معاندتهم من قبل تألفهم النبى ببعض من الصدقات.
ولقد حدث أن قال بعض الذين فى قلوبهم ضعف إيمان للرسول عليه الصلاة والسلام:
اعدل، فرد عليه النبى عليه الصلاة والسلام «ويلك فمن ذا الذى يعدل عليك بعدى» ولنذكر الخبر، كما فى كتب الحديث، فقد روى قتادة أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بالإسلام أتى النبى صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم الغنائم فقال:«يا محمد، والله لئن أمرك الله أن تعدل ما عدلت، فقال النبى عليه الصلاة والسلام: ويلك، فمن ذا الذى يعدل عليك بعدى، ثم قال: نبى الله: احذروا هذا وأشباهه، فإن فى أمتى أشباه هذا يقرأون القران لا يتجاوز حناجرهم، فإن خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم» وروى مثل هذا فى الصحيحين مسلم والبخارى.
وإن هذا الكلام يدل على عدالة النبى عليه الصلاة والسلام المطلقة فقد سمع القول من المعترض من غير أن يمنعه من الاعتراض، ولكن بين له أنه العادل، وأنه سيكون إرهاق من بعده، فمن عدل كعدله نجا، ومن لم يعدل فقد انحرف إلى الهاوية.
ويدل ثانيا على أن أمثال هذا ممن يرون العدل غير عدل ويحكمون بهواهم، أو بنظرهم بادى الرأى سيكونون شوكة فى جنب الحكم الإسلامي، وأن سلامة الحكم فى ردعهم ولو بالقتل وتكراره، وذلك عقابهم إذا خرجوا على الحاكم العدل وإلا لا يقتلوا، كما قال على «من طلب الحق فأخطأه ليس كمن طلب الباطل فأصابه» .
ثم إن النبى عليه الصلاة والسلام أردف فى هذه الواقعة ما يؤكد عدله المطلق القائم على أمانته، فقال:«والذى نفسى بيده ما أعطيكم شيئا، ولا أمنعكم إنما أنا خازن» .
وإن النبى العادل كان ينفذ الحق فى نفسه، إن ظن أنه اعتدي، كان يقسم الغنائم مرة، وبعض أعراب المسلمين يلاحيه، فرده بعود فى يده، فشكا الألم فأعطاه الرسول الأمين العادل، ليقتص منه، فعفا الرجل، واستحيا أن يفعل.
ولقد كان يخشى لفرط إحساسه بالعدالة، ألا يلقى الله خالصا من حقوق العباد، فقام، وهو مريض مرض الموت، وقد بلغ به الإعياء أشده وقال:«أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا، فهذا ظهرى فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضا، فهذا عرضى فليستقد منه، ومن أخذت منه مالا، فهذا مالي، فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء فإنها ليست من شأنى، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا، إن كان له، أو حللنى، فلقيت ربى وأنا طيب النفس» .
ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام ينهى عن الظلم بكل ضروبه، وأكل أموال الناس، وينهى عن معاونة الظالمين بكل أسباب المعاونة، وإنه يشدد فى ذلك، فهو يقول:«اتقوا دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» وقال عليه الصلاة والسلام «من مشي مع ظالم فقد سعى إلى النار، أو كما قال عليه
الصلاة والسلام، ونهى المحكومين عن أن يسكتوا عن ظلم الحاكمين، لأنه معاونة، فقال عليه الصلاة والسلام:«لا يأخذ الله تعالى العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا ولم ينكروا» وأوجب حمل الظالم على العدل، وحث على ذلك فى قوة، فقال عليه الصلاة والسلام:«والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدى الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم» .
وإن هذه الأحاديث تدل على أمرين عظيمين: أولهما- شدة تمسك النبى عليه الصلاة والسلام بالعدل والدعوة إليه والتشدد فيه، والاستمساك به، لأنه كمال فى ذاته، ويدل على استقامة النفس، حاكما كان أو محكوما، فهو الكمال المطلق إن كان- وثانيهما- أنه يدعو إلى العدل الجماعي، لأنه هو الذى يستقيم به أمر الجماعة، فلا يظلم الرجل أهله، ولا يظلم الزوج زوجه، ولا القريب قريبه، ولا الرئيس مرؤسه، ولا الحاكم محكومه، ولا المولى مولاه، وإنه عليه الصلاة والسلام يقول فى حديث قدسى عن ربه:«يا عبادى إنى كتبت العدل على نفسى فلا تظالموا» .
162-
ولقد كان عليه الصلاة والسلام يتولى الفصل فى خصومات المسلمين فى خاصها وعامها، ويأتى فى فصله بحكم الله تعالى الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فكانت أقضيته تقصد القضاء بحكم الله تعالي، وتنفيذ ما أمر الله تعالى به من أمر وما نهى عنه، وكانت أحكامه عادلة، لا يحابى قويا، ولا يهضم حق ضعيف.
ولما سرقت فاطمة المخزومية، وأهم قريشا أن يقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها ذهب إليه حبه أسامة بن زيد فتشفع له فى ألا يقيم الحد عليها بقطع يدها، فنهره عليه الصلاة والسلام قائلا له مستنكرا: أتشفع فى حد من حدود الله، ثم وقف خطيبا يقول:
فكان العدل الذى لا يمارى ولا يحابى فى حكم من أحكام الله تعالى.
وكان عليه الصلاة والسلام ينظر فى الأمر عند الاختصام إلى لب القضية، فيتعرف المعتدي، فيحكم عليه، ولا ينظر فقط إلى المظهر، ويروى فى الصحيحين (البخارى ومسلم) أن رجلا عض يد رجل اخر، فنزع المعضوض يده من فم الاخر، فوقعت ثناياه، فاختصموا إلى النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، ويظهر أن الذى رفع الأمر من عض أخاه، فقال النبى عليه الصلاة والسلام، منحيا باللائمة على العاض مهدرا دية أسنانه:«يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك» .
وهو بهذا ينظر نظر الأريب إلى موضوع القضية، ليتعرف موضوع الاعتداء، ومن الذى كان السبب، ثم فيه إشارة إلى من دفع عن نفسه الظلم، وتعين عليه ألا يدفع الظلم إلا بأذى ينزل بالاخر، فهو بريء مما يترتب على فعله، والمتسبب هو الذى يبوء بالاثم ولو كان هو الذى نزل به الأذى.
وكان عليه الصلاة والسلام يلاحظ فى قضائه ثلاثة أمور:
أولها- العدل بين الناس والمساواة بينهم فى تنفيذ أحكام الله تعالى لا فرق بين أمير وسوقة، ولا بين شريف وضعيف، بل الجميع أمام القانون سواء. وفى المأثور «الناس سواسية كأسنان المشط» .
ثانيهما- أنه يلاحظ الأثر إلاجتماعى لحكمه، فهو يغلظ العقاب على من يكثر فساده، حماية للجماعة المسلمة من شره.
ثالثها- أنه لفرط إيمانه بالعدل يخشى أن يقع منه ظلم لأحد، بسبب من يدلون بالحجة فى فصاحة منهم وعجز غيرهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام وهو العدل الأمين: إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الاخر، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقتطع له قطعة من النار» .
وفى الحق أن النبى عليه الصلاة والسلام كان عدلا فى ذات نفسه، وعدلا فى كل ما يقوم به، وعدلا فى أحكامه، ويغلب المساواة فى كل شيء حتى فى الهدايا تهدى إليه باعتباره كبير المؤمنين، ويقول فى ذلك ابن القيم فى زاد المعاد فى هدى خير العباد. وقد جاء فى صحيح البخارى أن النبى عليه الصلاة والسلام أهديت إليه أقبية من ديباج مزررة بالذهب، فقسمها فى ناس من أصحابه، وعزل منها واحدا لمخرمة ابن نوفل، فجاء ومعه المسور ابنه، فاستقبله، وقال يا أبا المسور خبأت لك هذا.
وهكذا نرى العدل يعم ولا يخص، وإنه كما ثبت من تاريخه قبل البعثة وبعدها لم يظلم، ولم يضيّع حقا لأحد، بل كان الحريص على حق غيره الحفيظ عليه.
وكان يعوض من يهدى من أصحابه إن تمكن من التعويض، ويهادى من يهاديه، لأن الهدية محبة، وهو عليه الصلاة والسلام يبادل المحبة بالمحبة فهو عادل حتى فيما تبعثه العاطفة، ويدعو إليه الود.