الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العابد
عبادته قبل البعثة:
143-
تحير إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى تعرف ربه الذى يستحق العبادة واحده ولا يشركه فى العبادة وثن، ولا شجر، ولا شيء من المخلوقات، وحكى الله تعالى حيرته فى كتابه الكريم، إذ حكى عنه أنه ابتداء أنكر أن تكون الأصنام الهة، واستنكر على أبيه عبادتها، وقال تعالى فى قصته: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي، هذا أَكْبَرُ، فَلَمَّا أَفَلَتْ، قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» .
ونرى من هذا أن الخليل عليه السلام ابتدأ فى الخروج من الضلال الذى كان فى قومه فبين أن الوثن لا يصلح ربا لأنه لا يضر ولا ينفع، وقام لديه الدليل بإزاله ما يعلق بها من أوهام، فحطمها،. وتأكد بتحطيمها أنها لم تضره، وأنها لا قوة فيها، لا ظاهرة ولا باطنة.
ثم أخذ يختبر الالهة التى كانت شائعة بين أقوامه، فجاء إلى النجوم، وكان من سكان العراق الذين عرفهم من كان يعبد النجوم، فاتجه إلى النجوم يعرف سر كنهها عساه يجد قوة فيها تسوّغ تألهّها، فوجدها تأفل، فليس لها بقاء ذاتى مستمر. ومثلها لا تصلح للألوهية، ثم اتجه إلى القمر باعتباره كوكبا كبيرا، فوجده مثل سائر الكواكب، ثم اتجه إلى الشمس، وكان المصريون يزعمون أن فيها الهتهم، وقد زار مصر، ولكن وجدها لا تصلح للألوهية، لأنها أفلت، وهكذا نراه متحيرا، حتى هداه ربه، فكان أبا الأنبياء، فمن ذريته الأنبياء الذين جاؤا بعده، وذكرهم القران الكريم، ثم كانت الهداية بعد الحيرة، والاطمئنان واليقين، بعد الشك المحير.
ونبينا محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم خطا خطوة إبراهيم الأولي، وهى إنكار عبادة الأوثان فقد أنكرها ابتداء، ولم يعترف لها بوجود، فما سجد لصنم قط، وما قدس صنما قط، وإذا استقسمه أحد، لا يقسم بها، ولما أراد بحيرى الراهب أن يستحلفه باللات رده، وقال أنه يكره ذكرها، وما كره ذكر شيء كما كره ذكرها، فأدرك محمد عليه الصلاة والسلام حفيد إبراهيم ما أدركه إبراهيم، وعلم بالعقل السليم وفطرة الله تعالى ما علمه جده الأكبر إبراهيم.
(1) سورة الأنعام: 74- 79.
ولكن الخطوات الاخرى التى خطاها إبراهيم فى معرفة ربه لم يخطها فلم يخط خطوة تعرف الله فى النجوم ولا فى الشمس، بل وقف عند عبادة الله، وإدراك عظيم قدرة الله سبحانه، واستحقاقه واحده للعبادة.
والسبب فى أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يخط الخطوات التى خطاها خليل الله إبراهيم، أن إبراهيم رأى فعلا من عبد مع الأوثان الكواكب، وعبد الشمس، ولم يكن فى الأقوام الذين بعث فيهم من يذكرون الله كثيرا، ولو على انحراف فى الاعتقاد، أما العرب، فكانوا يعرفون الله تعالى ببقايا ديانة إبراهيم، وكانوا يذكرون الله فى الحج بقية إبراهيم فى العبادة، فهم يعرفون الله على انحراف، لم يكونوا يجهلونه، بل كانوا فى مناسك الحج يذكرون الله كثيرا، فى تلبيتهم ووقوفهم فى مناسكه، والضلال فى إشراكهم بالله، بينما الظاهر من تاريخ الكلدان والمصريين، أنهم ما كانوا يذكرون الله تعالى فى عبادة قط، فلما نشأ محمد عليه الصلاة والسلام فى قوم يعرفون الله ويشركون معه فى العبادة أوثانهم، ترك ما ابتدعوه، وأنكره وبالغ فى إنكاره، وأبقى من بقايا إبراهيم الاعتراف بالله، ثم كان إيمانه بربوبيته واحده، واستحقاقه واحده للعبادة والألوهية.
وقد يقول قائل: إن الله تعالى وصفه بأنه كان ضالا فهدى، إذ قال تعالي: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «1» فإن هذا يدل على أنه كان ضالا فى العبادة، ومن يعرف الله تعالى لا يضل فى عبادته. ونقول فى الجواب عن ذلك: إن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كان يعرف الله تعالي، ويؤمن به، ويكفر بالأوثان، وينكر أن تكون مستحقة لأى نوع من التقديس لها، كما رأى جده الأكبر إبراهيم أنها لا تضر ولا تنفع. ولكنه كان حائرا فى الطريقة التى يعبد الله تعالى بها، فهو متجه باستقامة نفسه وقلبه إلى الله تعالي، وعبادته واحده، ويريد أن يقوم بحق الله، وكانت ديانة إبراهيم قد جهلت، ولا يعرف من طريقتها إلا قليلا، فكان لابد من أن تصيبه حيرة، حتى يهديه الله تعالى إلى شيء مما بقى من دين إبراهيم، وهذا هو مؤدى قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «2» .
145-
وإن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم نشأ عابدا منذ أدرك سن التمييز، فكان عقله فى الله تعالى يفكر كيف يعبده، ثم يجد فى التفكير فى خلق الله تعالى عبادة، وإذا كان إبراهيم عليه السلام قد أراه الله تعالى ملكوت السموات والأرض ليصل إلى إدراك ربه، فقد كان محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم منذ كان غلاما زكيا يرى فى خلق السموات والأرض والشمس والقمر، والنجوم المسخرات بين السماء والأرض عبادة، لا ينظر إلى السماء وأبراجها وزينتها، والشمس وضحاها، والليل إذا
(1) سورة الضحى: 3، 7.
(2)
سورة الشورى: 52.
يغشاها، لا ينظر إلى كل ذلك على أنها مناظر جميلة، وزينات باهرة، بل ينظر فى دلالتها على الخالق، ولا ينظر إليها متعرفا سر الإضاءة فى الشمس، وإنما يتعرف منها سر الدلالة على المنشيء، والأرض والماء والزرع، والشجر والثمار. كل ذلك كان يستغرق تفكيره لا ليعلم كيف خلق، ولكن ليعلم من الذى خلق، وكلما أمعن بفكره تعرفا للخالق، واستدلالا عليه ازداد إيمانا به، وطلبا لرضوانه، واطمئنانا لنفسه.
اتجه إلى معرفة الخالق، وما يرضيه عاكفا على ذلك عكوف العابد فى صومعته، لا يطلب إلا إرضاء ربه، ولكنه لم يعلم ما يرضيه، ولا ما يكون نسكا له إلا ما توارثه العرب من حج البيت ومناسكه التى بقيت من عصر إبراهيم عليه السلام، ونزهت نفسه وقلبه ولسانه، حتى صار ربانيا بفطرته المستقيمة وقلبه السليم.
وكانت كل أعماله لإرضاء الله تعالي، فهو يخالق الناس بخلق حسن، لا يكذب، ويتصدق ويقدم للناس الخير، لأنهم عيال الله، وقد صار كل شيء فيه لله تعالي، وقد صار قلبه المعلق بالله تعالى الخاضع الخانع، لا يرى فى الوجود إلا الله تعالي، ولا يحسب أنه إلا القانت له، الخاضع، ولكنه يجهل الشكل الذى يرتضيه لعبادته، فصار كله لعبادته، قلبا ولسانا وعملا وخلقا.
وزهده فى الاختلاط كان يريه من الناس إفكا من عبادتهم للأوثان، ومن خمر يعاقرونها وميسر يلعبونه، وخصومات يفجرون فيها، وشحناء ليست من شأنه، ومجادلات ليست من غايته، وشعر يتبعه الغاوون، والكبر الأثيم الذى لا إثم فوقه، تقديسهم للأحجار، واتجاههم إلى تقديسها بدل تقديس الديان، كل هذا زهده فى الاختلاط.
ولذلك كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام قبل أن يبعث عزوفا عن أن يغشى مجالس قريش فى سمرها، أو ما يزجون به فراغهم، إلا أن يكون جدا يوجب الخلق الكريم مشاركتهم فيه كما شاركهم فى بناء الكعبة المكرمة، وكما كان يحضر فى ندوتهم إذا جد الجد، وكما حضر حلف الفضول.
والسبب فى عزوفه عنهم أنه يبتعد عن مواضع يعزب فيها عن ذكر الله ويبتعد عن التفكير فى ذاته تعالت عن الشبيه، وتنزهت عن المثيل، وأنه يريد أن ينصرف الفكر فيه، والتفكير فى ذاته وإرضائه، خيرا من عبادة الحركات والمظاهر، فكانت حياته كلها لله تعالى.
ما كان يخرج من خلوته إلا لإسداء معروف، أو إطعام مسكين، أو إغاثة ملهوف، أو لإقراء ضيف عز عليه إقراء، وإن ذلك كله عبادة، لأنه ما يقصد إلا وجه الله تعالى، وإرضاءه لله تعالى، وأى عبادة أعلى من ذلك شأنا.
كل شيء فى الوجود يذكره بالله، فكلما رأى الخلق كان منه ما يدل على الخالق. كلما رأى النعم فى الوجود تذكر الخالق.
ولقد دعا بعد بعثته إلى التفكير فى الله تعالي، فكان يقول «تفكروا فى الاء الله أى فى نعمه» وحكى عن ربه أنه قال:«كنت كنزا مخفيا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق. فبى عرفونى»
ولقد كان محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام يعلن أن التفكير فى الله والائه وخلقه أساس العبادة، وأنه لا عبادة من غير معرفة الله سبحانه وتعالي، ولقد قال على بن أبى طالب صفى رسول الله، وحبيبه المجتبى:«سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن سنته (أى طريقته) فقال: المعرفة رأس مالى. والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة بالله كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والعجز فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلتي، وقرة عينى فى الصلاة» ورويت زيادة، وهى:«وثمرة فؤادى فى ذكره، وعملى لأجل أمتى، وشوقى إلى ربى عز وجل» «1» .
146-
قد كان من أحوال محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم الاعتزال إلا فى مكرمة تؤثر، أو صلة رحم، أو إغاثة ملهوف، أو تحمل للكل. فعندئذ يتصل بالناس لينفعهم، ويتقرب منهم، ولا ينقطع حتى وهو فى عزلته، لأنه ما جاء إلا لخيرهم، فهى عزلة يسكن فيها إلى الله تعالى خالق الناس.
وكلما كانت تتقدم به السن تزداد عزلته، ويزداد تفكيره فى إرضاء الله تعالي، وتعرف صفاته، والوصول إلى عمل ما يرضيه، ويرى فيه ما تقر به عينه، وتطمئن إليه نفسه، ولا يريد غير الله.
وقد صارت العزلة خلوة يخلو فيها للعبادة، فقد ذكر الرواة أنه كان يتحنث (أى يتعبد) فى غار حراء، الليالى ذوات العدد، واستمر يزداد فى الخلوة والعبادة، وقال الرواة كان يتعبد شهرا كل عام، حتى كانت البعثة وهو فى خلوته فى غار حراء.
وكان عليه الصلاة والسلام يتزود لذلك، ويمكث فيه الشهر للعبادة، وذكر الله تعالى وقد تكلم العلماء فى المنهاج الذى كان عليه الصلاة والسلام يتبعه فى عبادته، أكان على شريعة من الشرائع السماوية السابقة.
(1) الشفاء ج 1 ص 86.
جاء فى كتاب البداية والنهاية لابن كثير ما نصه:
اختلف العلماء فى تعبده عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، هل كان على شرع أم لا، وما ذلك الشرع، فقيل شرع نوح، وقيل شرع إبراهيم، وهو الأقوى، وقيل موسي، وقيل كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به «1» .
هذا ما قاله ابن كثير، وقبل أن نأخذه مأخذ التسليم مع تردد الأقوال بين نوح وإبراهيم وموسى ننبه إلى أمرين من الضرورى التنبيه إليهما فى هذا المقام.
أولهما- أن الثابت من سيرة النبى عليه الصلاة والسلام ومن تقرير القران أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، وأنه لم يكن على علم بكتب الديانات القديمة، فلم يعرف التوراة، ولا الإنجيل، وإن كانت فيهما بشارات برسول يأتى من بعدهما اسمه أحمد، ولم يكن بمكة المكرمة التى كانت محل إقامته مدارس للاهوت الموسوى أو المسيحيي.
ولما ذكر القران أخبار اليهود والأنبياء السابقين قالوا يعلمه بشر هو شخص رومي، فرد الله تعالى عليهم بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «2» . وبذلك يثبت أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن على علم بالشرائع السابقة، وذلك هو الحق، وهو يتفق مع إعجاز القران فى أنه أتى بالصادق من أخبار السابقين بوحى من الله تعالي، إذ لم يكن عنده علم بها.
ثانيهما- أنه كان بمكة المكرمة نفر قليل أنكروا عبادة الأوثان، ولم يعبدوها، وسموا حنفاء، وقالوا إنهم كانوا يتعبدون على بقايا من ديانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولذلك سموا حنفاء.
وروى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يتحنف فى غار حراء- بدل يتحنث- وإنا نسوق ذلك لبيان أنه كانت هناك بقايا من ديانة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد بقى منها بيقين بقية فى الحج وبقاء جزء قد ينبيء عن إمكان تعرف ما جهل.
وإنا لذلك نقرر أنه عرفت عقيدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وربما تعرفت بعض الشرائع التفصيلية عنده من أركان الصلاة ونحوها. وإنا مع تقديرنا لهذا نرجح أن عبادة النبى عليه الصلاة والسلام كانت بإلهام من الله تعالى من غير وحى، وقد كان دائم التفكير دائم الخشوع دائم التأمل فى الكون، فهو ابتدأ العبادة الفكرية، وربما عرف بعضا من صلاة إبراهيم. كما عرفت بعض مناسكه.
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 6.
(2)
سورة النحل: 103.