الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهى عقوبات متتالية، أرهقتهم الذلة، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، حتى فروا من أماكنهم، فجاءتهم الغمامة فرجوا أن يستظلوا بها، أو أن يجدوا فيها الرحمة، فكانت الصيحة العنيفة وكانت الرجفة التى أصابتهم.
وقد قال فى ذلك ابن كثير: جمع الله تعالى عليهم أنواعا من العقوبات وصنوفا من المثلات، وأشكالا من البليات، وذلك لما اتصفوا به من قبيح الصفات. سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عنيفة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.
الكلمة الثانية أن أهل مدين امتازوا من بين عبدة الأوثان بأنهم جمعوا مع عبادة الشجرة فساد الأخلاق وسوء المعاملات بعضهم مع بعض، كانوا يطففون فى الكيل والميزان، وكانوا قطاع طريق، يقطعون السبيل ويخيفون المارة، يأخذون الفائدة الزائدة، ويدفعون الناقص، فإن استدانوا نقصوا من الدين، فكانوا بذلك أشد فسادا، ولذلك كان نهى نبيهم لهم عن الفساد، فقال لهم: ولا تعثوا فى الأرض مفسدين، فلا يفسد الجماعات إلا التعامل الفاسد، وهو مبيد جمعها، لقد كانوا قليلا، فكثرهم الله، ولكنهم أضعفوا نخوتهم، وأماتوا عزتهم، فانصرفوا إلى الفساد.
ولقد كان أوضح ما دعاهم إليه شعيب عليه السلام هو الوفاء والمعاملة الطيبة، والتعاون على البر والوفاء بالحقوق، بدل التعاون على الإثم.
وكان شعيب فصيح العبارة، قوى البيان والتأثير، حتى لقد روى فى بعض الاثار أنه خطيب الأنبياء، ومدين من بلاد العرب على أطراف الشام، جاء فى قصص الأنبياء لأبى الفداء فى أرض مدين ما نصه:
موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:
35-
لقد نشأ موسى بمصر حيث ولد بها، وتربى فى دار فرعون، وترعرع فى هذا، وكان فى رعاية الله، لا فى رعاية فرعون، إذ كان يتوجس منه خيفة، ولكن صنعه الله تعالى على عينه، فحماه وأعطاه سبحانه وتعالى النبوة، فكان كليم الله تعالي.
(1) قصص الأنبياء ص 275 ج 1
ولكنه لم تبلغ إليه رسالة ربه فى أرض مصر منبته، ومرباه، بل كلمه ربه من وراء الشجرة خارج مصر حيث البلاد العربية.
ذلك أن موسى عندما قتل من المصريين رجلا اعتدى على اخر من بنى إسرائيل قوم موسى، وحرض على أن يقتل اخر لولا أنه أدرك أن هذه فتنة، وقال لمن حرضه من قومه إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ «1» ، ولما أخبر أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه خرج من مصر، واتجه تلقاء مدين وهو يحس بالحاجة إلى الغوث والمعونة، وهو يقول رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ «2» ، وهو يقول أيضا راجيا الهداية من ربه: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ. «3»
وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ، وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ «4» : أى تكفكفان غنمهما أن تختلط بغنم غيرهما. وكانتا لا تسقيان غنمهما إلا من فضل الماء الذى يبقى بعد سقى الرجال، وأنهم كانوا بعد سقيهم يضعون صخرة على العين، فلا تتمكن الفتاتان إلا من سقى غنمهما من فضل الرجال، فقال موسى الفقير إلى رحمة الله، للفتاتين الضعيفتين فى بدنهما كما هو ضعيف النفس لفقره، والضعيف يحنو على الضعيف ما خَطْبُكُما قالتا:
لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ «5» فجاء موسى إلى الصخرة فرفعها بعد أن صدر الرعاء وسقى لهما.
بعد ذلك قصت الفتاتان على أبيهما قصة القوى الأمين، فاستأجره ثمانى حجج أو عشرا، حتى انقضت المدة، وهى عشر سنين لأنه قضى أطول الأجلين، أى أتمها عشرا.
فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً، قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ.
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ «6» .
ومدين كما جاء فى قصص الأنبياء لأبى الفداء، هى المدينة التى أهلك الله فيها أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام، وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام.
فمدين كما ترى من بلاد العرب، هى التى جاءت فيها الرسالة. بعد أن أقام موسى عليه السلام فيها عشر سنين، بعد فيها عن بيئة فرعون فصفت نفسه.
وقد يقال إن النص يفيد أنه كان بجانب الطور، أى فى أرض سيناء، ونحن نقول أن ذلك حق، ولكن بعد أن صفت نفسه من فرعون واثاره وطغيانه، وتربيته قومه على الذلة والخنوع، حتى كان فى مصر الرخاء والخصب والذلة مجتمعات.
(1) سورة القصص: 18.
(2)
سورة القصص: 24.
(3)
سورة القصص: 24.
(4)
سورة القصص: 23.
(5)
سورة القصص: 23.
(6)
سورة القصص: 29، 30.