الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا ولا يتنازعون عنده، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة فى منطقه ومسألته، حتى أن أصحابه يستحلمونه فى المنطق «1» . إذا رأيتم طالب حاجة فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافيء، ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يجوز، فيقطعه بانتهاء أو قيام.. ويقول: كان سكوته على أربع: الحلم، والحذر، والتقدير، والتفكر. فأما تقديره، ففى تسويته النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره، ففيما يبقى ويفنى، وجمع له الحلم والصبر، فكان لا يغضبه شىء ولا يستفزه.
[ج] اخلاقه خارقة للعادة:
136-
ولنقف وقفة فى تجزئة ذلك القول البليغ، ودلالته على ما وراءه مما ينبغى أن تكون عليه أخلاق الداعى إلى الحق، وصاحب الرسالة التى حمله الله تعالى إياها، وأثر هذه فى الإجابة.
لقد قال بعض الكتاب معددا الخوارق التى صاحبت الدعوة المحمدية، قال إن من أعظم الخوارق التى كانت لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم أخلاقه، فكانت فى ذاتها أمرا خارقا للعادة بين بنى الإنسان، فهى أعلى من أخلاق الملائكة، لأن الملائكة حسنت أخلاقهم بمقتضى كونهم:«لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» «2» وليس فيه روحانية عيسى عليه السلام المجردة بل كانت فيه الروحانية الإنسانية، بما فى الإنسان من مطالب الجسم، وتجرد الروح، فمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم بين الناس الإنسان الذى تتجلى فيه الإنسانية الكاملة، وفى طبعه روحانية إرادية، فكل ما فيه من أخلاق للتربية والإرادة دخل فى تكوينه، فهو ليس حصورا، ولكنه عفيف لم يتدل إلى خنا قط، ففضيلته كف الشر، وتجنب له، والعفة من حصور، ليست كالعفة ممن له شهوات تغالبه، وأهواء تعانده، وبمعركة بين القوتين تكون النصرة للعفة، والغلب للفضيلة، وما يكون الوصول إليه بغلاب يكون أعلى وأنفس، مما يجيء رخيصا سهلا.
(1)
وإن من أول صفات محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذى ذكره ربيبه هند، أنه يخزن لسانه، أى يكون لسانه كأنه فى خزانة قد ستر لا يظهر إلا لخير يرتجيه. فلا يشجع على نفرة، بل إنه لا ينطق إلا فيما يعنى الذين يخاطبهم، ويفيدهم، ويكون فيه تأليف لقلوبهم وتقريب لنفوسهم، وتأنيس غريبهم، ويأمر بإعطاء ذى الحق، ولا يتكلم فى مراء، ولا يذم أحدا ولا يكثر فى قول، خشية سقط اللسان، لا يعيب الحرمات، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يشبع نهمة القول، فإذا تكلم هو كان كلامه فصلا، وكان قوله حكما.
(1) الكتاب المذكور.... وابن الحرم معناها إلمامه بها، لا يغشى فلتاته لا تستر.
(2)
سورة التحريم: 6.
وجملة القول فى ذلك أنه قد استولى على لسانه، فلا يتكلم إلا اذا لزم الكلام لرفع حق، أو خفض باطل، أو تأليف، أو زرع مودة، أو إسداء معروف، فلسانه ليس خارجا على إرادته، ولكنه مكملها، ويسير تحت سلطانها وإرادته للحق.
(2)
والصفة الثانية من أخلاقه أنه يتألف مع أصحابه، ويمتزج إحساسه الفاضل بإحساسهم لينساب إلى نفوسهم ويكرم كريمهم، ويرفع خسيسة صغيرهم، حتى يحس بأنه منه، ويوزع محبته بينهم، ويعطى نفسه لكل واحد منهم حتى أنه يظن كل واحد منهم أنه موضع الرعاية منه، وإذا رأى أمرا حسنا أعلن حسنه، وإن رأى قبيحا نبه إليه فى رفق الهادى الأمين الذى يؤلف، ولا ينفر، ويقرب، ولا يبعد، لا يسكت عن باطل. وهو بينهم اليقظ الذى لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يميلوا، لا يطوى نفسه لأحد على شر، وينقذهم، وكان حريصا يحذر من يتوهم منه شرا، ويحترس منه من غير تقطيب وجه، أو غلظة فى قول، بل هو فى كل أحواله الأليف المألوف. يقتح قلبه لهم، ليقول خيارهم ما تنطوى عليه نفوسهم، ويستحيى غيرهم من أن يظهر خبيئة نفسه، بل يبقى حبيسا لا يظهر، وربما خبا فيزول، ويستقيم أمره، فإن بعد الرذيلة عن النور والماء يذبلها، بل يذهبها.
(3)
والصفة الثالثة التواضع الكريم الذى لا ضعة فيه ولا ذلة، فهو إذا دخل على جماعة جلس حيث ينتهى المجلس وحث أصحابه على ذلك، ويتطامن لهم فى المجلس؛ ويمسهم بجناح الرحمة، ويسوى بينهم، وبشره مستمر، يلين جانبه لهم، ويغض الطرف عما لا يحسن إلا أن يكون فى السكوت ترك لواجب الإرشاد. وإن أرشد ففى رفق يكتفى بالإشارة. فإن لم يكف كان التعرض، فإن لم يكف كان التنبيه فى تعميم، فإذا رأى بعض الناس يسيء لا يواجهه بالإساءة، بل يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، ولا شك أنه إذا كان التوبيخ فيه معنى العموم كان ألطف، وكان مع ذلك أفعل، وأبلغ أثرا.
ولا يمزح إلا قليلا، وإن مزح فبعبارة فيها حكمة، ولا تخلو من بيان كقوله لعمته صفية:
«لا يدخل الجنة عجوز» فبكت، فقال عليه الصلاة والسلام، تكنّ «كواعب أترابا» ألا ترى فى هذا مداعبة لطيفة تخبر عن حال من أحوال الاخرة.
(4)
الصفة الرابعة بعده عن الغلظة والجفوة، ليس بفظ ولا غليظ، ولا عياب، ولا متتبع العورات ولا صخاب ولا فحاش فى القول، وإن كان صادقا فإن النطق بهجر القول، ولو كان وصفا صادقا لمن يرمى به فإنه لا يصح النطق به إلا إذا ترتب عليه ضياع حق أو نصرة باطل، فإنه يذكر موضوعه، ومن غير تخير للفاحش.
(5)
الصفة الخامسة: الامتناع عن الذم امتناعا مطلقا، إلا أن يضطره الحق اضطرارا، فإنه يتكلم بالكناية، ولا يرضى للعبارة سترا، وإبعادا عن الفحش فلا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وما يجلب خيرا للناس.
(6)
والصفة السادسة: التى يدل عليها هذا الكلام من ذكر أخلاقه، أنه عليه الصلاة والسلام كان يلتزم السكوت كما أشرنا، ولكن ليس سكوت العيىّ الحصر، بل سكوت من يفكر فى القول قبل أن ينطق، ومن يحذر من أن يشيع عنه ما لا يليق بمثله، وهو يقدر، وقد يكون سكوته حلما وعقلا وإغضاء وعفوا عمن يكون فى قوله سوء.
(7)
والصفة السابعة: أنه لا يغضب لشيء يتصل بذاته، ولا يستفزه شيء يتعلق به، بل لا يغضب إلا لله أن تنتهك حرماته، فإذا كان ذلك لا يسكت حتى يقام حد الله.
137-
هذا ما وصفه به هند بن أبى هالة، وقد كان رجلا وصافا للرجال، لا تفوته اللمحات، ولا تخفى عليه النظرات، وتنكشف دخائل النفوس من العبارات، وقد لخصنا لك بعض ما تنبئ عنه الكلمات.
ولننقل بعضا من قول من عاشروه وخالطوه، لتعرف كيف كان عشيرا، وفيا، وذا خلق هنيء، لا جفوة، ولا جفاء.
لقد روى عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة، وهى التى عاشرته، وهو يحمل أعباء الإنسانية كلها ويخوض الحروب ويتنقل بين ميادينها- أنها قالت فى أخلاق محمد صلى الله تعالى عليه وسلم:«ما ضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده خادما قط، ولا امرأة، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يكون إثما، ولا انتقم لنفسه من شىء يؤتى إليه، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله عز وجل» .
ولقد وصف أبو هريرة صاحبه، فقال:
كان يقبل جميعا، ويدبر جميعا، بأبى وأمى، لم يكن فاحشا ولا متفحشا، ولا صخابا فى الأسواق.
وإن هذا الوصف لذلك الصحابى الجليل، ينبيء عما كان عليه الصلاة والسلام من معاملة للناس، وقد وصفه فى هذا بثلاث صفات:
أولا: أنه فى لقائه يقبل بنفسه كلها على من يلقاه، فلا يلقاه لقاء جانبيا أو يكلمه بطرف من لسانه، أو يستقبل استقبال المستهين، بل هو واضح فى إقباله، كما هو واضح فى إدباره، فإن تركه لا يتركه إلا بعد أن يتم حديثه، وعندئذ يتركه، فلا يبقى حديثا لم يستمع إليه، ولم يستمع إليه وهو يولى مدبرا.
والصفة الثانية- أنه لم يكن يجبه الناس بفحش، أو بخروج القول عن جادته، وقد أشرنا إلى هذا فى وصف ربيبه هند بن أبى هالة.
الصفة الثالثة- أنه لا يصخب، ولا يغاضب، ولا يجادل فى الأسواق، بل كان كل شيء فيه على سمت حسن وجلال.
وقد أشرنا إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان كما يستفاد من وصف ربيبه له متواضعا أبلغ ما يكون التواضع، ولقد خير عليه الصلاة والسلام بين أن يكون نبيا ملكا، أو نبيا عبدا، فاختار أن يكون نبيا عبدا.
هذا هو النبى صلى الله عليه وسلم الذى بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، وقد بعثه فى قوم شمس، فيهم عنجهية جاهلية وغطرسة نسبية، يخير نبيهم المبعوث لهم بين جبروت الملك، ورق العبد، فيختار رق العبد، لأنه يريد أن يقرب من النفوس، لا أن يعلو عليها، فالرشاد يجيء من القريب منهم، ويبتعد عمن يستعالى عليهم.
روى أبو أمامة رضى الله تعالى عنه قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم متوكئا على عصا، فقمنا له، فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا، وقال: إنما أنا عبد اكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» .
وقد جاء فى كتاب الشفاء للقاضى عياض: وفى حديث عمر رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا تطرونى كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله» . وعن أنس رضى الله عنه أن امرأة كان فى عقلها شيء، جاءته، فقالت: إن لى إليك حاجة. قال صلى الله عليه وسلم «اجلسى يا أم فلان فى أى طرق المدينة شئت أجلس إليك، حتى أقضى حاجتك» «1» .
ولقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام فى أهله موطأ الكنف، يعين أهله فى مهنة البيت، ولا يستنكف، يغسل ثوبه ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه، وبأكل مع الخادم، ويحمل بضاعته.
وكانت الأمة من إماء المدينة إذا احتاجت إلى من يعينها من الرجال، ولقيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أعانها فى حاجتها، حتى تقضيها، ثم ينصرف عنها موفورا غير منقوص.
(1) الشفاء ج 1 ص 76.