الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فما سجد لصنم قط، وما أغواه شر قط بل كان الطيب الوادع الأمين.
وكان قويا فى بدنه، غير مسترخ فى عضله، فهو يصارع ركامة أقوى أهل مكة فيصرعه من غير اعتداء، ما عرف عنه قبل البعثة أنه اعتدى على إنسان، وما تناول بيده مخلوقا قط، فما عرف أنه دخل فى شحناء، لأنها لم تكن من شأنه، وما أشر، وما تكبر، وما طغى.
وإذا كان موسى القوى قد أثر أنه وكز مصريا اضطهد إسرائيليا فقتله، لاعتدائه على أحد من شيعته، ولم يكن ظالما، فما عرف عن محمد أنه تناول إنسانا عدوا أو وليا بأذى قط، ولكل فضل، وقد فضل الله تعالى بعض النبيين، فما كانت قوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على أحد، بل كانت قوته لله تعالى، وللإنسانية، ثم لقومه من غير اعتداء.
إعادة بناء الكعبة
120-
ما من أمر جامع فيه خير فى ذاته، وللناس كافة، إلا اشتراك فيه النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بفضل من المال والعمل، وإن قريشا، بل العرب أجمعون كان يربطهم رباط لا يهى ولا ينقطع، لأنه يتجدد انا بعد ان، وهو يتكون من عنصرين: أحدهما الكعبة المكرمة التى بناها أبو الأنبياء الخليل إبراهيم صلى الله تعالى عليه وسلم، وهى أول بيت وضع للناس، والحج إليها، وإقامة المناسك فيها.
ثانيهما- اعتقادهم أن الله سبحانه وتعالى خالق السموات والأرض، وقد كانوا حريصين على تلك الرابطة، لا يتركونها، ولا يقطعونها، وخصوصا قريشا، إذ وجدوا فيه عزهم الذى يعتزون، وشرفهم الذى يتنافرون به أمام العرب جميعا، ويجعل لهم سيادة وحكما، وحسبهم أن العرب يتقاتلون إلا فى أرضهم، فإذا جاؤا إليهم كانوا فى حرم امن، كما من الله سبحانه وتعالى عليهم، فقال تعالت كلماته: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ «1» .
وقد أصاب الوهن بناء الكعبة المشرفة، فأرادت قريش أن تجدد بناءها، وكان ذلك بعد عشر سنين من تزوج محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أم المؤمنين خديجة رضى الله تعالى عنها وكان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قد بلغ الخامسة والثلاثين، رجلا سويا.
ولم يكن قبل تزوجه كما توهم بعض الرواة من غير سند صحيح.
وبذلك كان بناء الكعبة المشرفة قبل مبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخمس سنين إذ أن البعث كان فى الأربعين، وتجديد البناء كان فى الخامسة والثلاثين من عمره الشريف.
(1) سورة العنكبوت: 67.
وكان التجديد ليكون على ما بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإن قريشا أخذت لهذا البناء أهبته، واتفقت على ألا يكون البناء إلا من مال طيب لا خبث فيه، وأن يكون العمل بنية طيبة خالصة.
وقد قال فى ذلك ابن كثير: «كانت الكعبة المشرفة حرزهم ومنعتهم من الناس، وشرفا لهم» لذلك أرادوا بناءها لما خشوا عليها من التهدم، وقد قال أحد كبراء بنى مخزوم، عندما هموا ببنائها:
121-
هذا السياق يدل على مدى تأثرهم بالكعبة المكرمة وتعظيمهم لها، ومكانتها عندهم، ويدل أيضا على أن الكعبة الشريفة واتصالها بالخليل إبراهيم جعلت حبلهم موصولا به، وأوجد ذلك فيهم نوعا من الوجدان الحى، كان هو النبت الذى صار زرع الإيمان والتوحيد من بعد ذلك.
وإن ذلك يستدعينا أن نرجع إلى الخليل إبراهيم لنرى كيف كان البناء الأول للبيت، ثم تنزل من بعد ذلك إلى ما كان من بعد.
إن إبراهيم أول من بنى البيت، ولا يذكر التاريخ الراجح الصدق ما يشير إلى أنها قد بنيت من قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد قال فى ذلك ابن كثير رضى الله عنه:
«لم يجيء فى خبر صحيح عن معصوم أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام، ومن تمسك بهذا بقوله تعالى «مكان البيت» ، فليس بناهض ولا ظاهر، لأن المراد مكانه المقدر له فى علم الله المقرر فى قدره المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن ادم إلى زمان إبراهيم
…
» .
ثم يقول عما قيل من أن ادم عندما نزل إلى الأرض نصب قبته فيها، وأن الملائكة قد قالوا: طفنا قبلك بهذا البيت، وأن سفينة نوح طافت به أربعين يوما:«ولكن كل هذه الأخبار عن بنى إسرائيل، وقد قررنا أنها لا تصدق، ولا تكذب» وينتهى من هذا ابن كثير إلى أن التاريخ الإسلامى لا يعرف بانيا للكعبة قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإننا نقف حيث وقف ولا نسير وراء أوهام أو أساطير لم يوجد من التاريخ الصادق ما يوثقها، ولا من الكتب الدينية الثابتة الصحيحة ما يؤيدها، فلا نهيم فى ظنون وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «2» .
(1) البداية والنهاية لابن كثير ج 2 ص 301.
(2)
سورة النجم: 28.
وقد بينّا أن البقعة فى ذاتها قبل البناء عليها كانت معروفة فى التواريخ القديمة، وقد أكد هذا المعنى ابن كثير، فقال إن بقعة البيت الحرام كانت معظمة من قبل بناء إبراهيم، فقال:«وكانت بقعته معظمة قبل ذلك معتنى بها، مشرفة فى سائر الأعصار والأوقات» .
وإن ذلك كلام حق إذ أن نص القران الكريم يوميء إلى أن البيت كان له مكان مقدر قبل أن يبنيه خليل الله تعالى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، وقد قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ «1» فكلمة بوأنا توميء إلى ان الله تعالى قدر لهذا البيت مكانا من قبل، وهدى إليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وإننا إذ انتهينا إلى ما قرره ابن كثير وغيره من أن مكان البيت كان معتنى به، وكان معظما ومشرفا، قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنا قد نحسب أن تكون بناية قد أقيمت حوله للعناية به، ولحفظه من أن يضيع فى غيره، ولكن من هم الذين بنوه، وما مدى ما فعلوا؟ إن ذلك هو المسكوت عنه، والبحث عنه من غير وسائل معرفة من كتاب معصوم، أو تاريخ وثيق، رجم بالغيب وتظنن فى غير مظنة.
ولعل فضول العلم تجعلنا نتساءل أيهما بنى أولا، البيت الحرام أم المسجد الأقصي، فنجيب أنه من المؤكد أن البيت الحرام الذى بناه هو إبراهيم، وقيل إن الذى بنى بيت المقدس هو يعقوب حفيد إبراهيم، وقيل بنى من بعد ذلك، وقد ثبت فى الصحيحين عن أبى ذر: قلت: يا رسول الله، أى مسجد وضع أول: قال المسجد الحرام، قلت: ثم أى؟ قال: المسجد الأقصى» .
ولابد أن نتصور أنه بعد أن بناه إبراهيم خليل الله تعالي، قد جرت فيه إصلاحات كثيرة، فما كان بناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ليستمر قائما غير قابل للتهدم أكثر من ألفى سنة، فلم يكن كالأهرام بناه فرعون الذى اغتصب كل القوى فى بنائه، ولكن بناه إبراهيم الخليل هو وابنه الذبيح من غير أن يجرى فيه غصب حجر أو مدر أو وبر، أو قوة أى إنسان.
(1) سورة الحج: 26.