الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المكان
والزمان
[المكان]
46-
كانت مكة هى المكان المختار للرسالة، وقد أشرنا إلى ما كانت تمتاز به بين البلاد العربية، فأشرنا إلى مكانتها الثقافية، فهى ملتقى العرب، ولغتهم أفصح اللغات، وشعراؤهم يعملون على أن تسجل أشعارهم بلغة قريش، فكأنها التى تختص بوصف الفصحى واللغات الاخرى بجوارها كاللغات العامية بجوار الفصحى فى عصرنا الحاضر، وهى ملتقاهم الدينى، فإليها يحجون وينسلون من كل أرضها، ويلتقون فى أسواقها ونجوعها، بها تروج بضائعهم، ويروج أدبهم، وفيها يتفاخرون من غير ملاحاة ويتجادلون من غير مجافاة، وفيها تحقن الدماء، وتغمد السيوف فى أجفانها، ويلتقون على التدين والمحبة، ولا يلتقون على العداوة والبغضاء، الامهم يطرحونها وأحقادهم يستدبرونها، ولا يرون أمامهم إلا النسك على قدر مداركهم وتبادل المنافع، والقول الطيب، ومع أن كل قبيلة لها صنمها فى الكعبة على ظاهرها، كانوا يجتمعون فى العبادة على تقديس البيت الحرام مطرحين ما عداه.
وكانت مكة مع هذه المنزلة الثقافية والدينية والاجتماعية ملتقى القوافل التى تجىء من اليمن ومن أقصى الشرق، والقوافل التى تجىء من أقصى غرب الجزيرة، فتلتقى فيها المتاجر، وتلتقى فيها العقول الناقلة للحضارات، ولو نقلا سطحيا، ولا يصل إلى أعماق القلوب، ولكنه يمس المدارك، وأنه فى مكة ويثرب تلتقى البداوة ببعض الحضارة، فيكون مزج بين رقة الحضارة، مع خشونة البادية، فيكون مزيج غير متميع، وقوة نفس فى غير جفوة، ويلتقى صفاء البداوة والحضارة العربية فيها، فينتفى الخبث، ويبقى اللب الكريم.
وإن أكثر الرسالات الإلهية التى كانت على مقربة من الرسالة المحمدية كانت فى أرض تكون على مقربة من البوادى أو هى فى البوادى ومثلها كالواحات فى وسط الصحراء لأن أولئك تكون نفوسهم قابلة للجديد من الرسالة، وغير متخلفة فى مداركها.
(1)
إذ يكون فيها الصفاء الصالح لتلقى تكليفات الوحى الإلهى، وفيها المدارك المتقبلة التى تزن وتفكر وتربط حاضرها بماضيها، وتستخرج من ماضيها ما ينير لها حاضرها، من غير إعنات فكرى ولا إجهاد نفسى، والمقاومات للرسالة تكون أعراضها ظاهرة، يمحوها الزمان القصير، إذ ليست مستكنة فى أغوار النفوس، وخبايا القلوب، بل إنها على سطحها، والتغيير يعرو السطوح، ولا يتجه إلى عميق القلوب.
(ب) وإن المدائن ذوات الحضارات تكون فيها عادات راسخة، وتقاليد ثابتة، وأفكار سائدة، فلكى تدخل العقيدة الجديدة يجب تفريغ الأذهان مما امتلأت، حتى يكون ثمة حيز للتفكير الجديد، إذ أن
العلوم وما يتصل بها من فلسفات سواء أكانت حقا أم كانت باطلا تملؤها، وإذا جاء الدين الجديد كانت المصارعة بين ما ألفوا، وما جدلهم، وأقل أبواب المصادمات المجادلة، والمجادلة مع المتعصبين تضيع فيها الحقائق، ولا يبدو جوهرها نقيا صافيا.
وإن الأفكار العلمية ولو خطأ تركز فى النفس، والتقاليد المستحكمة المسيطرة تشتد حتى تصل إلى أغوارها فلا يسهل الوصول إلى اقتلاعها.
وقد يقال إن أهل البادية لهم عادات وتقاليد، كما أن أهل الحضارات لهم ذلك، ونقول فى الجواب عن ذلك: إن تقاليد البدو لا ترتكز على عناصر فكرية تتغلغل فى الأذهان، وتسيطر على القلوب كالأفكار والاراء فى بلاد الحضارات، وما يكون فى دائرة العمل من غير تغلغل فى النفس لا يكون راكزا ثابتا، كالذى يكون منشؤه التفكير العميق.
(ج) وإن التجارب قد أيدت ذلك، فإن الدين الجديد يسهل دخوله فى البادية الصافية نفوس أهلها.
(د) وإن أى دين لابد له من ناس يحملونه، ويسيرون به، وأهل البادية الذين يكون عندهم نوع من التفكير والرقى النفسى يكونون أقوى نفسا، وأشد جلادا، وأكثر احتمالا، ولقد قرر الاجتماعيون أنهم هم الذين يحملون أعباء الجهاد فى سبيل ما يعتقدون مادامت أوضاع الحضارة لم تصب قلوبهم. بل فيهم بأس وقوة احتمال.
وإن الشواهد قائمة، فإننا نجد الأديان التى جاءت برسل أوحى إليهم من السماء كان بعثهم فى الأرض التى تكون بين الحضارة والبداوة، وكان التابعون دائما من أهل البأس والقوة الذين عاشوا فى الصحراء، وقاوموا لأواءها، ولم يكونوا من أهل المدن التى أصيبت بطراوة التحضر.
واعتبر ذلك بموسى عليه السلام، فقد أرسل إلى قوم فرعون، ولكن ما نزلت عليه الرسالة إلا فى أرض مدين المتاخمة لحدود الشام، وما وجد الذين يستجيبون له من أهل مصر، وما كانوا هم الذين حملوا عبء التبليغ من بعده، وحمله غيرهم.
ولقد كان بنو إسرائيل أضعف فى نفوسهم من أن يحملوا عبئها من بعده؛ وذلك لأنهم مردوا على أخلاق المصريين وإن لم يكونوا منهم، فكان لابد من أن يتربوا على البأس فى البادية، ليستطيعوا حملها، ولذلك قال تعالى لموسى عليه السلام إذ أمرهم نبيهم موسى عليه السلام أن يدخلوا الأرض
المقدسة التى كتب لهم أن يدخلوها وإن لم يقيموا فيها: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «1» .
ولقد فهم بعض الكتاب أن المواحدين كانوا فى الساميين فقط، وجاء بعض الأوربيين، وعلل ذلك بأن العقل السامى عقل سطحى، لا يفهم من العقيدة إلا التوحيد، ولا يتصور المعنى الفلسفى فى التثليث، وهذا الكلام يأتى على عقيدته بالنقض، لأن عقيدته المسيحية جاء بها سامى، فلابد أن يكون ما أتى به، وما دعا إليه يتفق مع السامية التى لا تهضم فلسفة التثليث وأن يكون التثليث الذى نسب إليه لا تشتمل عليه دعوته، ولا تدعو إليه رسالته، وليس ما اشتملت عليه عقيدته.
على أن العقل الارى قد اعتنق الواحدانية فى أصل الديانة البرهمية التى جاءت بها القبائل الارية، فدعوى الاقتصار فى الواحدانية على العقل السامى يأتى على أصل التثليث بالنقض، وينتهى بأن التثليث من أوهام الفلاسفة، وليس من عقائد الرسل.
ولعل ما ذكرنا من أن القبائل الارية التى جاءت تحمل الديانة البرهمية من بوادى اسيا، قرينة على أن الرسائل الإلهية، إنما تنزل فى الأرض التى تكون بادية قريبة من المدائن، أو تكون فى طريق القوافل، فقد جاءت إلى الهند التى كانت مملوءة بالأنهار والأحراش، وفيها تحضر نوعا ما، ولم يكن فيها صفاء البادية، وبأسها، وقوتها وسذاجتها، وسلامة فطرتها، ولذلك سرعان ما حرفت العقيدة إلى الصورة التى جاءت بعد ذلك من نظام الطبقات الظالم.
وقد أشرنا من قبل إلى أن الرسائل الإلهية غير محصورة، وأن الله تعالى ذكر أنه لم يقص في القران أخبار كل النبيين، فقد قال تعالت كلماته: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ «2» .
وسيتبين عند الكلام في البشارات التي بشرت بالنبي صلى الله عليه وسلم أن من البشارات ما جاء في كتاب الفيدا الذي هو أعلي مصادر الديانة البرهمية، وبينا في وضوح أنها في أصلها ديانة توحيد، كما جاءت بالفيدا النصوص الدالة علي ذلك مما يدل علي أنها ديانة منزلة ابتداء، وإن انحرف عنها القوامون عليها، وشاهت إلي الحال التي الت إليها من عصور سابقة ولا تزال قائمة إلي الان.
47-
من هذا البيان الموجز يتبين أن البيئة الطبيعية بمكة وما حولها وما لها من مزايا امتازت بها كانت من المرشحات لأن تكون موطن النبوة وموطن خاتم النبيين، فإذا كانت النبوة قد ابتدأت بإبراهيم أبي الأنبياء وإسماعيل ابنه، فإن ختام النبوة فى العالمين كانت بها أيضا، برجل من ولد إسماعيل.
(1) سورة المائدة: 26.
(2)
سورة غافر: 78.