الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هيبة:
138-
ومع هذا التواضع الكريم غير الذليل، كانت هيبته فى القلوب أشد ما تكون هيبة الرجل الذى اختاره الله تعالى رسولا للعالمين، وما كان تواضعه إلا لما يعلمه من فرط هيبته، فيلطفها بذلك التواضع، بل إنهما نبعا من هيئة واحدة، فهما متاخيتان، بل إنه لا يتواضع هذا التواضع من غير إن يتضع، إلا من يكون قويا فى نفسه، لا يحس بأنه ينزل إلى المهانة فيما يفعل، وفيما يدع.
ولقد وصف الواصفون مجلس النبى عليه الصلاة والسلام بين صحابته بما يدل على عظيم مهابته، وقوة وقاره، وسمته، فقد كان مجلسه عليه الصلاة والسلام يحفه الوقار، لا يتكلمون إلا إذا أذن فى القول، فإذا صمت صمتوا، لا يخرجون عن قوله، ولا يبعدون عن إرادته.
ولكن فى تواضع واطمئنان.
وقد كان أحيانا يحرص على أن ينزل ثم ينزل ليقرب منه الذين يحدثهم، ويريد هدايتهم، وأحيانا كان النساء يسترسلن فى القول فى مجلسه من غير أن يكون منه جفاف القول، وهو قادر على إسكاتهم بنظراته، ولكنه لا يرمضهن، ولا يمنعهن.
وقد كان يرشد بعض النسوة، فكن يتسابقن فى سؤاله، فتصايحن عليه، فدخل عمر رضى الله تبارك وتعالى عنه، وهن يتصايحن فى تسابق إلى السؤال، فسكتن: فابتسم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت سنه، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، ما الذى أضحكك؟
فقال الرسول الكريم الرؤف الرحيم: هؤلاء النسوة كن يتصايحن على، فلما رأينك سكتن، فقال عمر:
أى عدوات أنفسهن أتهبننى ولا تهبن رسول الله. فقالت إحداهن: ولكنك أفظ وأغلظ. فأسكتها الرسول وقال القوى المهيب، نافيا الغلظة عن صاحبه:«لا، إن الشيطان لا يسير فى فج يسير فيه عمر «1» » .
ولم يكن عمر أشد هيبة من النبى بل النبى المهيب المحبوب، ولكنه يتطامن ليصل إلى القلوب، وهو لا يترك هيبته ترهب، ولكنها هيبته ما كانت إلا لترشد، فالإرشاد غايته فى حاليه مهيبا ومتواضعا.
وان أخبار هيبته فى مبدأ البعث لها صور ووقائع، ولكن ما كان عليه الصلاة والسلام يسلط هذه الهيبة التى تفرض صاحبها إلا نادرا، لتكون استجابة الدعوة عن الاقتناع المجرد الذى لا يدخله رهبة ولا ترغيب إلا ما يكون من رضا الله تعالى يوم القيامة.
(1) الشفاء ج 1 ص 76.
ولكن إن كانت المواجهة بينه وبين زعماء الشرك وجها لوجه، ورأى فيهم استهزاء مقيتا، وانفرد بهم، بيّن بأس الله تعالى عليهم، وقوته، وما وهبه الله تعالى من هيبة ربانية، ولنذكر من ذلك واقعتين.
إحداهما- أنه يروى عمرو بن العاص أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان يطوف بالبيت، والملأ من قريش جالسون فى فنائه، فكلما مر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم غمزوا بالقول، فيبدو ذلك فى وجهه، وكرروا ذلك حتى أتم الطواف سبعا، ثم التفت إليهم، ووقف وقال لهم فى قوة المؤمن، وعزمة الصادق، وهيبة القائل: يا معشر قريش شاهت الوجوه، وأرغم الله هذه المعاطس؛ لقد جئتكم بالذبح، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فراعهم قوله وأفزعهم، فما كان منهم أحد إلا كان يرفوه بأحسن القول، ويقول: اذهب أبا القاسم موفورا. ما علمنا عليك شراقط.
ولا شك أن الهيبة الإنسانية التى منحها إياه رب العالمين كانت هى الفاصلة فى هذا، وما كان النهديد الذى ساقه عليه الصلاة والسلام له الأثر النفسى، إلا لصدوره عن مهيب قوى.
الثانية- أن أشد الناس طغيانا على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم عمرو بن هشام الذى سماه التاريخ الإسلامى بحق أبا جهل فقد كان فاجرا، لا شرف فى القول يقيده، ولا خلق كريم يمنعه، بل كان الحقد الدفين يدفعه، وكان النبى عليه الصلاة والسلام يصابره ليثير عطف الناس على الدعوة المحمدية، يترك هذا الطاغوت فى اندفاعه إلى الشر وصبره له. ولقد كان لبعض العرب دين عليه، فماطله، ثم امتنع عن السداد فرأى أن يستعين ببعض زعماء مكة ممن هم على شاكلته ليستأدوه دينه، فأحالوه تهكما- على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فذهب إليه الرجل يستعين به، فذهب النبى عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبى جهل الطاغية، وطرق الباب، فخرج إليه، وفرائصه ترتعد، من هول العزمة المحمدية، فقال له النبى عليه الصلاة والسلام: أد للرجل دينه، فذل كبرياؤه كبرياء الجاهلية، وأحضر المال وسدد الدين صاغرا، وصار هو أضحوكة الجاهليين أشباهه.
وكان عليه الصلاة والسلام يخفف من جأش من تناله هيبته عليه الصلاة والسلام. دخل عليه رجل، فأصابته من هيبته عليه الصلاة والسلام رعدة، فقال عليه الصلاة والسلام:«هون عليك، فإنى لست بملك، انا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» .
وروى أبو هريرة: دخلت السوق مع النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فاشترى سراويل، وقال للوزان: وأرجح أى (أوف الميزان) ، فيثب التاجر إلى يد النبى صلى الله تعالى عليه وسلم يقبلها، فجذب يده، وقال: هذا ما يفعله الأعاجم بملوكها، ولست بملك إنما أنا رجل منكم. ثم أخذ السراويل، فذهبت لأحملها، فقال صلى الله عليه وسلم:«صاحب الشيء إحق بشيئه أن يحمله» .