الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البشارات بالنبى المنتظر
173-
كان العالم يموج بفتن مادية، فالحرب كانت قائمة على قدم وساق بين الفرس والرومان، ومن قبل عصر نبوة عيسى انسابت الجيوش اليونانية بقيادة الإسكندر المقدونى وراء فارس، حتى وصلت إلى الصين، وقد كان العصر من بعد عيسى عصر الاضطهاد الديني، اضطهد النصارى ابتداء، ومكث اضطهادهم زهاء ثلاثة قرون لقوا فيها من الرومان واليهود أشد ما يلاقى ذو اعتقاد فى اعتقاده، وذو إيمان فى إيمانه، حتى أن نيرون أحد أباطرة الرومان كان يطليهم بالقار، ويشعل النار فيهم، ويسير فى موكبه تحيط به تلك المشاعل الإنسانية لهؤلاء المؤمنين الصادقين فى إيمانهم الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، وقبلوا العذاب الهون، وتوقعوه، ورفضوا أن يغيروا فى سبيل دنيا يصيبونها، أو دفع عذاب ليتقوه.
وكانت مصر من أول البلاد التى دخلت فى النصرانية الأولي، ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولذلك كانوا أشد البلاد تعرضا لأذى الرومان الذين كان سلطانهم مفروضا عليها وعلى الشام، وجاء إليهم العذاب الشديد فى عهد دقلديانوس، وذبحت فيهم مذابح سجلها التاريخ، وأرخ بها التاريخ القبطى مسجلا تلك المذابح، يذكر الرومان بما يعود عليهم بالخزى والعار، ويذكر المصريين الأولين بالافتخار، ويذكر المتأخرين من الأقباط بالاعتبار.
(1) سورة ال عمران: 74.
ولما دخل قسطنطين إمبراطور روما فى النصرانية فى الثلث الأول من القرن الرابع، كان ذلك سبيلا لسيطرة الانحراف فيها، وانتقل الاضطهاد من النصارى إلى اليهود فأذيقوا من العذاب كئوسا وشربوا منه، ثم جاء من بعد ذلك لون اخر من الاضطهاد، ذلك أن كنيسة روما خالفت كنيسة مصر فى بعض جزئيات عقائد النصرانية بعد أن انحرفت من الواحدانية إلى التثليث وانقلب الاضطهاد إلى داخل النصارى أنفسهم، فكان منهم الملكانيون الذين تتمثل فيهم عقيدة روما، واليعقوبيون الذين تتمثل فيهم عقيدة المصريين.
وكان ذلك الاضطراب فى العقيدة النصرانية التى حرفت، ثم انتهاؤه إلى أمر غير معقول فى ذاته، من قيل أن المسيح ابن الله، وأنه نزل إلى السموات العلا حيث الله أبوه، وتجسد إلى الأرض لتغفر خطيئة ادم لعصيانه ربه وأكله من الشجرة، فكان غريبا أن يكون تكفيرا للمعصية الأولى بالأكل بمعصية أشد وأوغل، هى قتلهم ولد الله فى زعمهم، والعقل لا يعلم ولا يدرك أن معصية أشد فى حق الله تكون تكفيرا لمعصية أقل، بل لخطأ جاء تضليلا من عدو أثيم.
ومن غرائب تلك العقيدة أنها تحاول الجمع بين الواحدانية والتثليت فيصعب التصوير، ولكن مع ذلك يصدقون على ريب من مفكريهم، وتسليم من عوامهم.
174-
والعرب كانوا فى حيرة أشد، وإن كانت حياتهم لا تمكنهم من التأملات فى العقائد، ولعلهم لو تأملوا، ولم يغلب الاتباع، وقولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «1» لكانوا قادرين على الوصول إلى الصواب، أو على الأقل منهم من يصل، كما فعل الحنفاء، وأنهم كانوا قبل البعثة عددا محدودا.
لقد كانت حياتهم مضطربة بين توحيد جزئي، ووثنية جانبية، لقد كانوا يتبعون إبراهيم ويعتقدون أن الله واحده هو خالق الكون ومنشئه ومدبره، فاعترفوا بذلك بواحدانية الخلق والتكوين، ولكن مع ذلك أشركوا معه فى العبادة أحجارا لا تنفع ولا تضر، يزعمون أن العبادة لها تجعل منها شفعاء يشفعون.
ثم كانت البشائر بأن نبيا سيبعث كان يتردد فى البلاد العربية، كان يجرى على ألسنة بعض العرب، كما يروى عن قس بن ساعدة الإيادى أنه ذكر فى إحدى خطبه أن نبيا قد أدركهم زمانه، وان اوانه.
وأن البلاد العربية، وخصوصا الحجاز كانت يتجاوب فيها ذكر احتمال رسول مبعوث، تذاكره كثيرون ممن كانت لهم دراسات للديانات، مثل ما جاء على لسان قس بن ساعدة الانف الذكر، ولعله يوميء إلى أن له صلة بالنصرانية وخصوصا أنه ثبت فى القران، أن التبشير بالنبى محمد الأمى عليه الصلاة والسلام مذكور فى التوراة والإنجيل، كما قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ «2» .
(1) سورة الزخرف: 23.
(2)
سورة الأعراف: 157.
وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ، رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ «1» .
وقال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي، قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «2» .
وقال تعالى فى بشارة عيسى عليه السلام بمحمد النبى الأمين صلى الله عليه وسلم: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ، وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «3» .
وهكذا نجد النصوص القرانية الكثيرة التى جاء فيها أن محمدا عليه الصلاة والسلام ذكر فى التوراة والإنجيل، وقد أشرنا إلى ذكره فى كل الديانات القديمة قبل تحريفها، حتى البراهمة والزرادشتية قبل التغيير والتبديل فيها.
ويهمنا أن نعرف ذكر التوراة لمحمد عليه الصلاة والسلام.
175-
وقد وجدنا النصوص فى التوراة حتى بعد تحريفها، وبعد أن نسوا حظا مما ذكروا به توميء أو تشير بإشارة واضحة تكاد تكون عبارة لا إشارة- مبشرة بنبى الله تعالى محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإليك ذلك النص الذى يكاد يكون صريحا، ولكنه نص فى دلالته، سواء أكان بالإشارة أم بالعبارة:
(1) سورة الفتح: 29.
(2)
سورة ال عمران: 81.
(3)
سورة الصف: 6.
(4)
خبر البشر، لابن ظفر ص 9.
ونرى من هذا أن الرموز كانت للأماكن، وبتبيين الرسل الذين بعثوا فيها، ومجيء الرب بالبداهة هو مجيء رسالاته، فإن الله تعالى لا ينزل بذاته انما تنزل هدايته، ويجيء أمره ونهيه على ألسنة رسله، وقد ذكرت أماكن ثلاثة هى سينا، وقد جاء من طريقها كليم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام ومجيء رسالة الله تعالى إلى فلسطين حيث ولد سيدنا عيسى عليه السلام بالناصرة، من فلسطين انبعث نور رسالته عليه السلام، ومجيء رسالة الله من فاران حيث مكة المكرمة زاد الله تعالى نبيها تشريفا وتعظيما.
كانت هى ما نزل على محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم.
ويقول صاحب كتاب خير البشر فى بيان تبشير التوراة بالنبى محمد عليه الصلاة والسلام:
قرأت فى ترجمة للتوراة لموسى عليه السلام، جاء فيها، والله ربك مقيم نبيا من إخوتك، فاستمع له كالذى سمعت ربك فى حوريب يوم الاجتماع حين قلت:«لا أعود أسمع صوت ربى لئلا أموت، فقال الله تعالى لى. نعم ما قالوا. وسألتم لهم نبيا من إخوتهم، وأجعل كلامى فى فمه، فيقول لكم كل شيء امره به وأيما رجل لم يطع من تكلم باسمى فإنى أنتقم منه» .
ونلاحظ هنا أنه ذكر أن الرسول سيكون من إخوة بنى إسرائيل، لا منهم، ولا تكون هذه الأخوة إلا من بنى إسماعيل، أخى إسحاق الأكبر، فإن هؤلاء هم الذين يقال لهم إخوة، وعيسى ومن قبله داود، وسليمان وغيرهما، لا يقال لهم إخوة بنى إسرائيل إنما يقال عنهم أبناء إسرائيل، لأنهم من يعقوب ابن إسحاق، ويقول صاحب كتاب (خير البشر)«قوله أجعل كلامى فى فمه، واضح فى أن المقصود به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن معناه أن الله تعالى يوحى إليه بكلامه (أى الله) فينطق به، أى يوحى إليه بالقران فينطق به» «1» .
176-
وإذا كانت هذه الإشارات الواضحة في التوراة، فإن في الإنجيل مثلها، بل ما هو أكثر وضوحا منها، فقد ورد التبشير، بالبارقليط في الإنجيل، وإن الترجمة الحرفية لهذه الكلمة العبرية هي أحمد، فهو مطابقة من حيث المعني التبشيرى بأحمد، وقد جاء القران الكريم بالذي بشر به عيسي عليه السلام اسمه أحمد، إذ قال سبحانه:«ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد» وقد جاء في الأناجيل علي لسان عيسي عليه السلام: «إن أجبتموني فاحافظوا وصيتي، وأنا أطلب إلى أبي فيعطيكم بارقليط اخر يكون معكم الدهر كله» .
(1) راجع السيرة العطرة- للأستاذ عبد العزيز خير الدين، وخير البشر لابن ظفر ص 11.
فهذا النص يبين أن الله تعالى سيبعث من بعده رسولا هو أحمد، يقوم بتبليغ رسالة ربه، كما يقوم عيسى عليه السلام، وأن شريعته باقية مع الدهر، أى أنها خالدة لا شريعة بعدها، وأن صاحبها هو خاتم النبيين.
والتعبير بالأب من تحريف النصارى لمعنى الله بعد أن غيروا وبدلوا فهو مأخوذ من الإنجيل بعد أن حرفت الديانة عن موضعها، ومع ذلك فإن كثيرين كانوا يفسرون البنوة بأنها بنوة النعمة والمحبة، كما يقول اليهود نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «1» .
وقد جاء فى الأناجيل بعد تحريف الديانة النصرانية «إن هذا القول الذى سمعتموه ليس هو لى بل للاب الذى أرسلنى لكم بهذا، وأنا معكم، فأما البارقليط روح القدس الذى يرسل أبى باسمى، فهو يعلمكم كل شيء، ويذكركم جميع ما أقول لكم» .
ولعل الغرابة فى أن تسمى رسالة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام أنها باسم المسيح، وأنها محرفة بلا ريب، ومهما يكن فليس المراد بالاسمية أن تكون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم صورة كاملة لدعوة المسيح، إنما المراد الموافقة فيما يكون دعوة للمسيح بالواحدانية، وأن دعوة محمد عليه الصلاة والسلام، هى ما كان يدعو إليه، وما يتفق مع قوله، كما قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ، ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ، وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «2» وروى أن عيسى عليه السلام قال فى «البارقليط الذى أرسل إليكم من عند أبى روح الحق الذى يخرج من الأب فهو يشهد لى، وأنتم تشهدون لى أيضا لكينونتكم معى من أول أمرى» وهذا صريح فى أن محمدا عليه الصلاة والسلام يشهد الكتاب الذى أنزل عليه وهو القران بأنه مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، وقد سمى القران بحق روح الحق، وقد سمى كذلك كما قال الله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا «3» .
وجاء فى الأناجيل أيضا: «البارقليط لا يجيئكم ما لم أذهب، فإذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، ولكنه يسمع ما يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث والغيوب «4» » .
(1) سورة المائدة: 81.
(2)
سورة الشورى: 13.
(3)
راجع السيرة العطرة ونهاية الأرب ج 16 ص 110، وخير البشر. ر الاية من سورة الشوري:52.
(4)
نهاية الأرب، والسيرة العطرة.
وأن فى هذا النص وصفا للنبى عليه الصلاة والسلام بعينه من بين الرسل، وذلك الوصف هو قوله:«ويسوسهم بالحق» ولا شك أن رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، لم تقتصر على بيان الحقائق الإلهية التى بعث بها عليه الصلاة والسلام، بل ساس الناس لتطبيقها، فأنشأ دولة، وطبق النظم القرانية تطبيقا دقيقا سليما، وإن هذه صفة كاملة لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وعمله.
وإن كلمة البارقليط التى جاءت فى هذه النصوص قال علماء العبرية أن ترجمتها الحرفية كما أسلفنا أحمد، وهى فى معناها الذى يعرف السر، والحكمة، وهو قد بلغ أقصى الحمد لهذا.
177-
ولقد نقل بعض الكتاب الفضلاء «1» عبارات من كتب العهد القديم، عن الزبور الذى جاء به داود عليه السلام، وأشعياء، وشمعون، وحزقيل.
(أ) ومما جاء فى مزامير داود «اللهم اجعل جاعل السنة يحيا» .
ولا شك أن دلالة هذه النصوص على التبشير بمحمد عليه الصلاة والسلام وليست هذه الإشارة بينة، كبيانها فى النقول السابقة عن توراة موسى، وإنجيل عيسى عليهما السلام، ولكنها قد تدل بالاقتضاء، لا بالإشارة المجردة، لأن الذى أحيا السنة وهى عبادة الله تعالى واحده، إذ هى الطريقة القويمة هو محمد عليه الصلاة والسلام، بعد أن حرفت النصرانية، إلى انحراف التثليث.
وفى النص كانت الدلالة بالتضمين أيضا، إذ وصف فيه من يباركه الله تعالى بأن شريعته تقرن بهيبة يمينه، وإن شريعة محمد عليه الصلاة والسلام تأمر بدفع الباطل بما تحمله اليمين وهو السيف، ولم تكن شريعة عيسى عليه السلام كذلك، إنما كان يغلب التسامح، ولم يحمل سيفا، ولم يدع الحواريين إلى حمل السيف، بل الذى حمل السيف الذى يشير إليه نبى الله داود، ووضع الباطل تحت الأقدام، وخر الجبابرة تحت الشريعة الإسلامية في عهده، وعهد الحواريين من أصحابه هو محمد عليه الصلاة والسلام.
ولقد جاء فى الزبور عبارة لعلها أصرح من هذه العبارة فى سلطان شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا نصها «فإذا جاز من البحر إلى البحر، ومن عند الأنهار إلى منقطع البر، وخر أهل الجزائر على وجوههم كبهم ولحس أعداؤه التراب، وجاءته الملوك بالقرابين، ودانت له الأمم بالطاعة، لأنه يخلص
(1) هو ابن ظفر فى كتابه خير البشر- ص 14 و 96.