المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مكة المكرمة 41- إذا كانت الجزيرة العربية موطن النبوة الأولى، وقد - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: ‌ ‌مكة المكرمة 41- إذا كانت الجزيرة العربية موطن النبوة الأولى، وقد

‌مكة المكرمة

41-

إذا كانت الجزيرة العربية موطن النبوة الأولى، وقد ثبت أن خليل الله تعالى إبراهيم عليه السلام اوى إلى بلاد العرب بعد تطوافه بين العراق وأرض كنعان، وبنى بيت الله تعالى، وقد وجد فى الدعوة إلى الواحدانية فيها مستجيبا، وأنشأ فيها بيت الله الذى قال الله تعالى فيه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «1» .

كانت مكة المدينة الممتازة بين العرب، وقد تضافرت أسباب كثيرة فى العرب جعلتها مناط عزتهم، وملتقى اجتماعهم، وجماع لغتهم، وكان من أهم هذه الأسباب وأبرزها:

(أ) أن أبا الأنبياء هو الذى ابتدأ بإنشائها، وكانت من بعده مدينة العرب العظيمة وقطبها الذى تدور حوله قواها، وهى وسكانها أولاد إبراهيم، ذوو المكانة العظمى عند العرب استجابة لدعاء إبراهيم إذ قال عليه السلام، كما حكى الله سبحانه وتعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. «2»

فكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام أن كان العرب يفدون إليها من كل فج عميق، من وقت أن أنشأ إبراهيم البيت الحرام، وصار مثابة للناس وأمنا، وملتقى العرب أجمعين، مع اختلاف قبائلهم، وتباين منازعهم.

(ب) وكان سكان مكة المكرمة هم قريشا الذين كانوا أعلى العرب فكرا إن كان العلو بالفكر، وأشرفهم نسبا، إن كان التفاخر بالنسب، ولسانهم كان أقوى الألسنة أداء، وأفصحها لفظا، وأشرقها أسلوبا، ولذلك كان العرب يجتهدون فى أن تكون اثارهم الأدبية بلغة قريش، فكان الشعراء حريصين أشد الحرص على أن يكون شعرهم بلغة قريش، ويعتزون بأن يكون على نهج اللسان القرشى.

ولقد ذكر رواة الأدب أن من ينال قصب السبق يعلق شعره على أستار الكعبة، كأنما يسجل بين العرب ماثره الشعرية، ومكانته بين الناس.

(1) سورة ال عمران: 96، 97.

(2)

سورة إبراهيم: 37- 40.

ص: 47

(ج) وجود البيت الحرام بها، وهو أعلى الأسباب، إذ أنه صار بيت العرب الدينى، ومستقر شرفهم، إليه يحجون، وبه يأمنون، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ «1» .

لقد كانوا لتقديسهم لمكانة البيت، يحرمون على أنفسهم أن يقتلوا أو أن يقتتلوا داخل الحرم، حتى أنهم مع تشديدهم فى الأخذ بالثأر مما فرق جمعهم كانوا يحرمونه على أنفسهم فى الحرم المكى، زاده الله تعالى تشريفا وتكريما، وأن الرجل كان يلقى قاتل ابنه أو أخيه فلا يمسه بسوء لمكان التقديس النفسى، بل إنهم لا يحترمون المكان فقط، بل يحترمون أيضا الزمان الذى يكون فيه الحج إلى بيت الله الحرام، فكانوا لا يتقاتلون فى أشهر الحج، ولا شهر العمرة، وهو ما يسمى بالأشهر الحرم، وهى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان، إذ كانت فيه عمرة مضر، ولذلك سمى رجب مضر.

وقد أقر الإسلام من بعد حرمة البيت، ومنع القتال فى الأشهر الحرم إلا إذا كان فيها اعتداء، فإنه يكون من ظلم النفس ألا يدافع المعتدى عليه عن نفسه.

(د) لقد كانت الصحراء العربية موضع تنازع بين القبائل، ولم يكن فى القبائل من تقرر لها نظام، إلا مكة، وإن لم تكن فيه صفة الدولة، بيد أنه كان سلطانا ناشئا من تعاونهم، وتضافرهم، وتلاقيهم، فهو نظام حر ناشىء ومنفذ بين قوم أحرار، وإن لم تكن دولة ابتداء، فإنه يجوز إذا اتسع السلطان، ووجدت المقدرة الثابتة، يصلح أن تكون فيه دولة العرب من بعد، لأنهم يجدون فيها الرياسة المختارة من الشعب، بمقتضى الإرادة العربية التى تتلاقى فيها القبائل، وبمقتضى الانتخاب الطبيعى فى البلاد العربية.

(هـ) وكانت قريش بمكة المكرمة ذات اتصال تجارى بين الروم والفرس، فكانت فيها المتاجر تغدو وتروح ذاهبة إلى اليمن حاملة بضائع الروم إليها، ومن اليمن تنفذ إلى ماوراءها فى أرض الفرس، وكانت بضائع الفرس التى تؤخذ من اليمن تذهب إلى الشام لتصل إلى ماوراءه من الرومان.

والسبب فى أن مكة كانت لها تلك الميزة الاقتصادية أنها كانت فى وسط البلاد العربية بين اليمن والشام، وأن المواصلات إبان ذلك كانت عن طريق البر بالصحراء العربية، وفوق ذلك النزوع التجارى فى أهل قريش، احترفوا التجارة، واتخذوها مرتزقا لهم، إذ لم يكن فى مكة زرع يغنيهم.

وكان العرب يتخذون موسم الحج سبيلا للصفق فى الأسواق التى تعقد فى أيام الحج، ومن هذه الأسواق عكاظ، وغيره، وكان هو أكبرها.

(1) سورة العنكبوت: 67.

ص: 48

ولرغبة العرب البيانية قد اتخذ الشعراء من هذه الأسواق سوقا لترويج شعرهم، فكانت الأسواق فيها الزاد المادى، وفيها الزاد البيانى.

وقد قال الله تعالى فى روح قريش التجارية لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» .

(و) ويجب أن يذكر فى هذا المقام أن الوثنية سادت العرب، فنسوا دين إبراهيم، ودين هود وصالح وغيرهم وسرت فيهم الوثنية سريان النجاسات فى الماء الطاهر القراح، ولعل قريشا فى مكة اخر من دخل فى الوثنية، كما تحدث أخبار العرب، فالوثنية سرت إليهم من غيرهم، ولم تنبعث من أرضهم، ولكنها موجة من الموجات التى كثرت فى ذلك العصر، وما سبقه، حتى لقد حسب بعض الناس أنها موجة من التفكير الدينى سرت فى العرب، ووفدت إليهم من حولهم، وجاءت إليهم من أرض غير أرضهم.

وقد أشرنا من قبل إلى أن العرب وخاصة قريشا لم يكن إيمانهم بالأوثان إيمانا متغلغلا فى النفس، إذ أنه كان مع الاعتقاد فى الأوثان اعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى هو خالق الكون، وبقية من تعاليم إبراهيم عليه السلام، فمناسك الحج كانوا يقومون بها على اختلاف أو انحراف، وألفاظه الموروثة كانت تردد على تحريف يقرب من وثنيتهم.

وكون بقايا من ديانة إبراهيم فيهم كان يجعلها موضع الرسالة، وإذا كانت الوثنية قد قاومت التوحيد الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فما كانت كلها من أجل الاعتقاد، بل من تسلط العصبية الجاهلية، والمنافسة فى الشرف بين بطون قريش وأفخاذها، كما سنبين إن شاء الله تعالى عندما نتحدث فى مقاومة الشرك للواحدانية، وذلك بمقاومة زعماء مكة للنبى صلى الله عليه وسلم.

كانت مكة جماع العرب، فكانت بها دار الندوة التى تجمع أقيال العرب وكبراء القبائل، من شتى الجزيرة، من اليمن جنوبا إلى الغساسنة بالشمال، فإذا أهم العرب أمر واحتاجوا إلى أمر جامع لا يجدون مثابة تجمعهم إلا دار الندوة فى أرض مكة المكرمة، وكانت الرياسة فيها لقريش، وأقربهم كان من جدود النبى صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يحضر ندوة قريش فى صدر حياته، وكان مع هدوء طبعه، واطمئنان نفسه يلفت الأنظار، وتتطلع إليه الأبصار.

يروى أنه كما جاء فى كتاب «زهر الاداب» حضر الندوة قيل من أقيال اليمن، فرأى الرسول، كلما عرض ما يراه خيرا اطمأن إلى القول اطمئنان المؤمن، وإذا كان ما يرى فيه غير الخير أحد البصر، فى

(1) سور قريش: 1- 4.

ص: 49