الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مكة المكرمة
41-
إذا كانت الجزيرة العربية موطن النبوة الأولى، وقد ثبت أن خليل الله تعالى إبراهيم عليه السلام اوى إلى بلاد العرب بعد تطوافه بين العراق وأرض كنعان، وبنى بيت الله تعالى، وقد وجد فى الدعوة إلى الواحدانية فيها مستجيبا، وأنشأ فيها بيت الله الذى قال الله تعالى فيه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ. فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «1» .
كانت مكة المدينة الممتازة بين العرب، وقد تضافرت أسباب كثيرة فى العرب جعلتها مناط عزتهم، وملتقى اجتماعهم، وجماع لغتهم، وكان من أهم هذه الأسباب وأبرزها:
(أ) أن أبا الأنبياء هو الذى ابتدأ بإنشائها، وكانت من بعده مدينة العرب العظيمة وقطبها الذى تدور حوله قواها، وهى وسكانها أولاد إبراهيم، ذوو المكانة العظمى عند العرب استجابة لدعاء إبراهيم إذ قال عليه السلام، كما حكى الله سبحانه وتعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ، فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ. رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ. «2»
فكانت الاستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام أن كان العرب يفدون إليها من كل فج عميق، من وقت أن أنشأ إبراهيم البيت الحرام، وصار مثابة للناس وأمنا، وملتقى العرب أجمعين، مع اختلاف قبائلهم، وتباين منازعهم.
(ب) وكان سكان مكة المكرمة هم قريشا الذين كانوا أعلى العرب فكرا إن كان العلو بالفكر، وأشرفهم نسبا، إن كان التفاخر بالنسب، ولسانهم كان أقوى الألسنة أداء، وأفصحها لفظا، وأشرقها أسلوبا، ولذلك كان العرب يجتهدون فى أن تكون اثارهم الأدبية بلغة قريش، فكان الشعراء حريصين أشد الحرص على أن يكون شعرهم بلغة قريش، ويعتزون بأن يكون على نهج اللسان القرشى.
ولقد ذكر رواة الأدب أن من ينال قصب السبق يعلق شعره على أستار الكعبة، كأنما يسجل بين العرب ماثره الشعرية، ومكانته بين الناس.
(1) سورة ال عمران: 96، 97.
(2)
سورة إبراهيم: 37- 40.
(ج) وجود البيت الحرام بها، وهو أعلى الأسباب، إذ أنه صار بيت العرب الدينى، ومستقر شرفهم، إليه يحجون، وبه يأمنون، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً، وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ «1» .
لقد كانوا لتقديسهم لمكانة البيت، يحرمون على أنفسهم أن يقتلوا أو أن يقتتلوا داخل الحرم، حتى أنهم مع تشديدهم فى الأخذ بالثأر مما فرق جمعهم كانوا يحرمونه على أنفسهم فى الحرم المكى، زاده الله تعالى تشريفا وتكريما، وأن الرجل كان يلقى قاتل ابنه أو أخيه فلا يمسه بسوء لمكان التقديس النفسى، بل إنهم لا يحترمون المكان فقط، بل يحترمون أيضا الزمان الذى يكون فيه الحج إلى بيت الله الحرام، فكانوا لا يتقاتلون فى أشهر الحج، ولا شهر العمرة، وهو ما يسمى بالأشهر الحرم، وهى ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذى بين جمادى وشعبان، إذ كانت فيه عمرة مضر، ولذلك سمى رجب مضر.
وقد أقر الإسلام من بعد حرمة البيت، ومنع القتال فى الأشهر الحرم إلا إذا كان فيها اعتداء، فإنه يكون من ظلم النفس ألا يدافع المعتدى عليه عن نفسه.
(د) لقد كانت الصحراء العربية موضع تنازع بين القبائل، ولم يكن فى القبائل من تقرر لها نظام، إلا مكة، وإن لم تكن فيه صفة الدولة، بيد أنه كان سلطانا ناشئا من تعاونهم، وتضافرهم، وتلاقيهم، فهو نظام حر ناشىء ومنفذ بين قوم أحرار، وإن لم تكن دولة ابتداء، فإنه يجوز إذا اتسع السلطان، ووجدت المقدرة الثابتة، يصلح أن تكون فيه دولة العرب من بعد، لأنهم يجدون فيها الرياسة المختارة من الشعب، بمقتضى الإرادة العربية التى تتلاقى فيها القبائل، وبمقتضى الانتخاب الطبيعى فى البلاد العربية.
(هـ) وكانت قريش بمكة المكرمة ذات اتصال تجارى بين الروم والفرس، فكانت فيها المتاجر تغدو وتروح ذاهبة إلى اليمن حاملة بضائع الروم إليها، ومن اليمن تنفذ إلى ماوراءها فى أرض الفرس، وكانت بضائع الفرس التى تؤخذ من اليمن تذهب إلى الشام لتصل إلى ماوراءه من الرومان.
والسبب فى أن مكة كانت لها تلك الميزة الاقتصادية أنها كانت فى وسط البلاد العربية بين اليمن والشام، وأن المواصلات إبان ذلك كانت عن طريق البر بالصحراء العربية، وفوق ذلك النزوع التجارى فى أهل قريش، احترفوا التجارة، واتخذوها مرتزقا لهم، إذ لم يكن فى مكة زرع يغنيهم.
وكان العرب يتخذون موسم الحج سبيلا للصفق فى الأسواق التى تعقد فى أيام الحج، ومن هذه الأسواق عكاظ، وغيره، وكان هو أكبرها.
(1) سورة العنكبوت: 67.
ولرغبة العرب البيانية قد اتخذ الشعراء من هذه الأسواق سوقا لترويج شعرهم، فكانت الأسواق فيها الزاد المادى، وفيها الزاد البيانى.
وقد قال الله تعالى فى روح قريش التجارية لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ، وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ «1» .
(و) ويجب أن يذكر فى هذا المقام أن الوثنية سادت العرب، فنسوا دين إبراهيم، ودين هود وصالح وغيرهم وسرت فيهم الوثنية سريان النجاسات فى الماء الطاهر القراح، ولعل قريشا فى مكة اخر من دخل فى الوثنية، كما تحدث أخبار العرب، فالوثنية سرت إليهم من غيرهم، ولم تنبعث من أرضهم، ولكنها موجة من الموجات التى كثرت فى ذلك العصر، وما سبقه، حتى لقد حسب بعض الناس أنها موجة من التفكير الدينى سرت فى العرب، ووفدت إليهم من حولهم، وجاءت إليهم من أرض غير أرضهم.
وقد أشرنا من قبل إلى أن العرب وخاصة قريشا لم يكن إيمانهم بالأوثان إيمانا متغلغلا فى النفس، إذ أنه كان مع الاعتقاد فى الأوثان اعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى هو خالق الكون، وبقية من تعاليم إبراهيم عليه السلام، فمناسك الحج كانوا يقومون بها على اختلاف أو انحراف، وألفاظه الموروثة كانت تردد على تحريف يقرب من وثنيتهم.
وكون بقايا من ديانة إبراهيم فيهم كان يجعلها موضع الرسالة، وإذا كانت الوثنية قد قاومت التوحيد الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فما كانت كلها من أجل الاعتقاد، بل من تسلط العصبية الجاهلية، والمنافسة فى الشرف بين بطون قريش وأفخاذها، كما سنبين إن شاء الله تعالى عندما نتحدث فى مقاومة الشرك للواحدانية، وذلك بمقاومة زعماء مكة للنبى صلى الله عليه وسلم.
كانت مكة جماع العرب، فكانت بها دار الندوة التى تجمع أقيال العرب وكبراء القبائل، من شتى الجزيرة، من اليمن جنوبا إلى الغساسنة بالشمال، فإذا أهم العرب أمر واحتاجوا إلى أمر جامع لا يجدون مثابة تجمعهم إلا دار الندوة فى أرض مكة المكرمة، وكانت الرياسة فيها لقريش، وأقربهم كان من جدود النبى صلى الله عليه وسلم، وكان عليه الصلاة والسلام يحضر ندوة قريش فى صدر حياته، وكان مع هدوء طبعه، واطمئنان نفسه يلفت الأنظار، وتتطلع إليه الأبصار.
يروى أنه كما جاء فى كتاب «زهر الاداب» حضر الندوة قيل من أقيال اليمن، فرأى الرسول، كلما عرض ما يراه خيرا اطمأن إلى القول اطمئنان المؤمن، وإذا كان ما يرى فيه غير الخير أحد البصر، فى
(1) سور قريش: 1- 4.