الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد قال ابن إسحاق فى السيرة: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له فى الهجرة، ولم يتخلف معه بمكة المكرمة أحد من المهاجرين، إلا من حبس أو فتن إلا على بن أبى طالب، وأبو بكر بن أبى قحافة الصديق رضى الله عنهما، وكان أبو بكر كثيرا ما استأذن النبى صلى الله عليه وسلم فى الهجرة، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تعجل لعل الله تعالى يجعل لك صاحبا، فيطمع أبو بكر أن يكونه.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعد للهجرة منذ البيعة الأولى عندما التقى بالأوس والخزرج، بدليل هذه المبايعة، ثم كانت البيعة الثانية بيعة الإيواء والنصرة دليلا على أنه اعتزم الهجرة وأرادها، ثم من بعدها أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أمرهم بأن يهاجروا، فهاجروا زرافات وواحدانا، مستخفين فى الأكثر، معلنين فى الأقل، فكانت الهجرة ترتيبا للدعوة، وخروجا من موطن لا قوة للإسلام فيه إلى بلد يكون للإسلام فيه قوة، ويكون له فيها السلطان لانشاء دولة إسلامية، فما كان من المعقول أن ينفذ النبى صلى الله عليه وسلم مباديء الإسلام فى مكة المكرمة، وهى فى ظل الوثنية، ويحكمها مشركون، فالزكاة لا يمكن جمعها إلا فى ظل سلطان عادل يجمعها من الأغنياء، ويردها على الفقراء، وتنفيذ مباديء المساواة والإخاء، ودعوة المسلمين إلى التراحم ليكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، وما كان يمكن أن يقيم الحدود الزاجرة، لبناء دولة فاضلة، ولا القصاص العادل، ولا لينظم المعاملات بين الناس على أساس من الرضا والعدل، وما كان ليحارب الربا الجاهلي، ما كان يمكن شيء من ذلك إلا فى ظل الله تعالي، وبدولة إسلامية تنفذ أوامر الله تعالي، وتبعد الناس عن نواهيه، وما كان يمكنه عليه الصلاة والسلام أن يقيم رأيا عاما فاضلا، يقوم المنحرف، ويرشد المسترشد، ويكافيء المحسن إلا فى ظل دعائم الإسلام، ولتثبت أركانه، وتعم فى الوجود الإنسانى دعوته، وليست الهجرة جاءت بسبب حادث وقع، أو خوف لأمر متوقع.
ما اقترن بالهجرة المحمدية:
322-
اقترنت الهجرة بواقعة وقعت من قريش، فظن كثير من كتاب السيرة أن هذه الواقعة هى سبب الهجرة، وأن الهجرة كانت أمرا مسببا لها، ولكن الهجرة كانت أمرا مقررا، وتنظيما محكما.
يقول الله تبارك وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1» فهم يدبرون من جانبهم، والله تعالى يدبر أمرا، قد وجه النبى صلى الله عليه وسلم إليه، وهو الهجرة، والأمر الذى مكروا به وتامروا عليه خلاصته ما ذكرته الاية الشريفة.
(1) سورة الأنفال: 30.
رأى المشركون أن مكة المكرمة قد خرج منها الذين اتبعوا محمدا عليه الصلاة والسلام، ليتجمعوا، وليكونوا مع أهل يثرب قوة تقاوم الشرك وتنقض على المشركين، وأنهم بلا ريب أشد أعداء محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه، فلابد أن تكون تلك القوة عليهم، وأن عليهم أن يتداركوا الأمر قبل أن يستفحل، وأن تتحقق المارب.
وإذا كان الأتباع قد هاجروا، ولم يبق إلا ضعيف أو عبد، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يزال بين ظهرانيهم، وهو الرأس وغيره أتباع، فإذا نالوا منه، فقد تحقق مأربهم.
قال ابن إسحاق فى سيرته: لما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم، وغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم- عرفوا أنهم أصابوا دارا وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم.
اجتمعوا فى دار الندوة، وهى دار قصى بن كلاب، وكانت مجتمع أمر قريش، لا يقضون أمرا ذا بال إلا فيها، اجتمع فى الندوة كبراء قريش، ودلف عليهم رجل من نجد، حضر جمعهم، قيل إنه إبليس، وإن لم يكن هو فهو مثله خبثا.
تشاوروا فى أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا.
فقال قائل منهم: احبسوه فى الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذى كانوا قبله، ومن مضى منهم من هذا الموت.
قال الشيخ النجدي: ما هذا لكم برأي، ولئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذى أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا إليكم، لينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به، حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأى فانظروا فى غيره.
فقال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا، فإذا أخرج عنا، فو الله ما نبالى أين ذهب، ولا حيث وقع، إن غاب عنا، وفرغنا منه، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
فقال الشيخ النجدى: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به، فو الله لو فعلتم ما أمنتم أن يحل على حى من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم، حتى يطأكم بهم فى بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، فروا فيه رأيا غير هذا.