الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولعله يبدو بادى الرأى واضحا جليا أن أكثرهم قد رد من عشيرته، ولم يستجب إلا بعض نساء العشيرة الطاهرة كصفية، وفاطمة امرأة أبى طالب، وكان من هذه العشيرة أول من جاهر بالعداوة، وهو قريبه القريب عمه أبو لهب، وفى هذا دليل مادى على أن الدعوة ما كانت من انبعاث قبلى، بل كانت استجابة لدعاء رباني.
كان إعلان الدعوة للعشيرة الأقربين، إعلانا للعرب أجمعين، فقد كانت بأعلى الصفا، وتسامع بها الناس، وإذا كان الخطاب للعشيرة خاصة، فقد كان الإعلام لقريش، ثم إظهارا لنبى بعث رحمة للعالمين، تسامعت به الركبان، وتذاكر فى دعوته الذين يغشون مكة المكرمة من غير أهلها، وبذلك انتشرت الدعوة المحمدية بتبليغ رسالة ربه الذى كلفه بإبلاغها فى غير معاندة للمشركين، ولا مجابهة لهم، ولا تحد لملتهم.
ولقد كانت تسير فى استخفاء، كما يسرى الماء العذب فى أرض مغطاة بالأعشاب، ولكنه يثمر، وينبت، وينمو ولو كان مستخفيا، وكان الذين ارتضوا الإسلام دينا يستخفون بعبادتهم ولا يظهرونها، ويذهبون إلى شعاب مكة المكرمة يصلون فيها، وما عرف أنهم كانوا يذهبون إلى الكعبة الشريفة مجاهرين متحدين، ولكن كانوا يستخفون بهذه العبادة.
ولقد روى إسلام كثيرين فى ذلك وهم علية الصحابة الذين بنيت دعوة الإسلام عليهم، وكانوا الدعامة الأولى فى قواعد البلاغ المحمدى.
فاصدع بما تؤمر
221-
نزل فى تدرج الدعوة قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ «1» فكانت هذه الايات الكريمة دعوة إلى أن تبلغ الدعوة أقصى مراتبها، وأبعد تكليفاتها أثرا فى التكليف، وتأثيرا فى النفوس.
ومن كتاب السيرة من يرى أن التكليف الكامل بدعوة الناس أجمعين قد ابتدأ من نزول قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ومن هؤلاء ابن كثير، فقد قال فى نزول هذه الايات الكريمات ما نصه، بعنوان «أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة.) قال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
(1) سورة الحجر: 94- 99.
تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ «1» وقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ «2» أى أن الذى فرض عليك، وأوجب عليك تبليغ القران لرادك إلى دار الاخرة ليسألك عن ذلك، كما قال تعالى:
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ «3» والايات والأحاديث فى هذا كثيرة جدا «4» .
ونرى من هذا التقرير أن الإمام الحافظ ابن كثير لا يرى أن ثمة تدرجا فى الدعوة، وأنه من وقت أن أمر النبى صلى الله تعالى عليه وسلم بإنذار عشيرته الأقربين كانت الدعوة عامة، وأن الاقتصار فى الاية على ذكر العشيرة الأقربين لا يفيد قصر الدعوة فى هذه الاية عليهم، بل يفيد الابتداء بهم، أو مواجهتهم، مع مخاطبة غيرهم، ولا يفيد قصر الدعوة عليهم، لأن الرسالة المحمدية يخاطب بها الأحمر والأبيض والأسود والعبيد والأحرار.
ونحن نوافق على عموم الرسالة المحمدية، وأنها ليست بمقصورة على قرابة قريبة أو بعيدة، ولكن هذا تدرج فى الدعوة والخطاب، وأن ذلك يتضمن دعوة غيره من المكلفين، بلا فرق بين قريب وبعيد، فالجميع مكلفون بالاستجابة من غير تفريق، ونحسب أن قوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الخطاب فيها مقصور على العشيرة، ولذلك لم يدع محمد عليه الصلاة والسلام إلى الاجتماع بهم الذى كان فى الصفا غيرهم، وليس من المعقول أن يكلف العامة بخطاب طائفة من الخاصة، بل لابد من توجيه الخطاب إليه، فجاء فى قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ. وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إلى اخر الايات.
ويزكى هذا ما جاء عن ابن إسحاق، فقد جاء ما نصه: ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد ثلاث سنين من البعثة أن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين، وكان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا فى الشعاب، واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبى وقاص فى نفر يصلون فى شعاب مكة المكرمة، إذ ظهر عليهم بعض المشركين، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم أريق فى الإسلام «5» .
وقد قال ابن إسحاق فى موضع قبل هذا:
(1) سورة الزخرف: 44.
(2)
سورة القصص: 85.
(3)
سورة الحجر: 92.
(4)
البداية والنهاية، ج 3 ص 38.
(5)
سيرة ابن هشام طبع الحلبى ج 1 ص 263.
دخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة المكرمة، وتحدث به، ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يصدع بما جاء به، وأن يبادى الناس بأمره، وكانت المدة بين ما أخفى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم واستتر بها إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه- ثلاث سنين فيما بلغنى من مبعثه، ثم قال تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
ومن ذلك نستطيع أن نقول إن الدعوة المحمدية في مدة ثلاث السنين تدرجات في ثلاث مراحل، أشار إليها من قبل الإمام ابن القيم في زاد المعاد إذ ابتدأت الدعوة من النبي عليه الصلاة والسلام، ومن بيت النبوة سرت إلى من يتصل بهم من أصدقاء وخلان، فكان من النبي عليه الصلاة والسلام إلي صديقه الأول أبي بكر عتيق بن أبي قحافة، ومن عتيق سرت إلى أصدقائه كعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله، ومن بيت النبوة سرت إلى صفية والزبير، وغيرهم من عشيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأقربائه الأدنين، وهذه هي مرتبة الدعوة الأولي التي أشار إليها ابن القيم فى ترتيب مراتب الدعوة.
ثم كانت المرتبة الثالثة من بعد ذلك، وهي مرتبة الدعوة العامة في قريش ومجابهتهم بدعوة الحق، من غير أن تكون مقصورة علي بيت النبوة، أو علي أقرباء النبي عليه الصلاة والسلام.
وهي في كل مرتبة لا تقف عند الحدود التي ابتدأت فيها، بل تسرى إلي غيرها، سريان النور إلي الظلام، وفى مرتبة العشيرة الأقربين خرجت إلى قريش كلها، فما كان يدعو عشيرته من ال عبد المطلب وبنى هاشم فى كن مستور من الأرض، بل كان يدعوهم جهرة فى غير مواربة.
وقد يسأل سائل، ما الدليل الذى كان يسوقه النبى فى هذه الدعوة، فقد كان الذى نزل من القران الكريم قليلا، وتوالى نزوله بعد ذلك، ولم يذكر أن أحدا جادل حول القران الكريم، أو طلب دليلا واستدل به، فما الذى كان يهداهم إلى الاتباع من غير أن يعرفوا دليلا قدم، وبرهانا أقيم.
والجواب عن ذلك أن الاستجابة كانت للحق فى ذاته، ولما عرف من تاريخ النبى صلى الله تعالى عليه وسلم إذ كان الصادق الذى لم يعرف كذبه قط، والأمين الذى لم يقترن عمل له بريبة قط، والصفى فى نفسه، والمحبوب لمكارمه، والعاقل الذى لم يعرف فيه انحراف فكرى، بل هو المدرك المستقيم الإدراك فى كل معاملاته، وكل ما اتصل به من أعمال.