الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوت الزاهد:
152-
فى الصحيحين البخارى ومسلم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «اللهم اجعل رزق ال محمد قوتا» هذه دعوة محمد عليه الصلاة والسلام إلى ربه، ولا ندرى أهى دعوة الاستجابة لها توفير القوت لال محمد عليه الصلاة والسلام، أم هى دعوة للاقتصار على القوت الضروري، وتحمل ال محمد عليه الصلاة والسلام ذلك، والصبر عليه والرضا به، والقناعة الراضية الكافية التى لا يطلب معها غيرها؟ أجيب أن الاستجابة تكون بهما، أى بتوفير القوت الضرورى وأن يلقى الله تعالى فى قلوب ال محمد عليه الصلاة والسلام من الأزواج الطاهرات، ومن يلوذ به من أسرته الرضا به، والصبر عليه، وأن تكون الأسرة كلها فى زهد ربها، تحتمل ما يحتمل، وتصبر على ما يصبر، لتكون أسوة لغيرها، ولكيلا يكون من بعضهن من يطمع فى المال الذى يساق، ويكون تصرف رب هذه الأسرة الزاهد كذلك.
ولقد كان كذلك، فقد روى الإمام أحمد أن أبا هريرة يقول:«ما شبع نبى الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا» أى أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يرى أن من التنعم أن يأكل من خبز القمح ثلاثة أيام متتابعة، بل كان الشعير غالب طعامه عليه الصلاة والسلام، وقد يكون معه التمر.
ولقد قالت أم المؤمنين عائشة: «ما شبع ال محمد عليه الصلاة والسلام من خبز، حتى قبض، وما رفع من مائدته كسرة قط» . ومن هذا الخبر يستفاد أنه ما كان يقدم له على مائدته إلا ما يكفى بلا زيادة تفضل عنه.
ولقد كان لا ينفى عن الخبز نخالته، بل كان يأكله من غير نخل، فقد قالت الصديقة بنت الصديق:«والذى بعث محمدا بالحق: ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا قط منذ بعثه الله تعالى عز وجل، إلى أن قبضه» .
وما كانوا يأدمون الطعام دائما، بل كانوا يأكلون فى كثير من الأحيان الخبز قفارا غير مأدوم، وقد قالت أم المؤمنين عائشة: فيما رواه الشيخان البخارى ومسلم عن عروة بن الزبير أنها قالت: «إن كنا ال محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد نارا، إنما هما الأسودان التمر والماء، إلا أنه كان حولنا أهل دور من الأنصار يبعثون إلى رسول الله بلبن منائحهم، فيشرب، ويسقينا من ذلك اللبن» .
وهكذا نجد استجابة الله تعالى لرسوله الكريم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل رزقه واله قوتا، ولكنه من أدنى القوت ليكون قدوة للمسلمين، وليكون غذاء لفقرائهم، ولكيلا ترمض نفس بحرمان، ولكيلا يأسوا على ما يفوتهم من وفرة الرزق، وأسباب النعيم والعيش الرافغ فى هذه الحياة.
ولكن يلاحظ أنه لم يحرم على نفسه صنفا من فاكهة، أو طعاما من أطعمة أهل الترفه والنعيم، بل يقبل كل الحلال، ولكنه يكتفى بالأدنى دائما فاطما النفس عن أهوائها وملاذها، تقوية لها، ولتكون الإرادة الحاكمة بسلطان العقل هى المسيطرة، ولا تكون النفس أمة ذلولا للأهواء والشهوات بل تكون سيدة مطاعة، حاكمة عليها غير محكومة بها.
153-
ومع هذه الزهادة التى التزمها، وأخذ نفسه بها ما كان يدعو الناس إليها، لأنهم لا يطيقونها، ولأنه الذى أمر المؤمنين بألا يفعلوا إلا ما يطيقون غير مسرفين على أنفسهم، إذ يقول:«إن هذا الدين لن يشاده أحد إلا غلبه ولكن سددوا وقاربوا» .. فهو عليه الصلاة والسلام يأخذ نفسه بزهد لا يأخذ به غيره لكيلا يرمض فقير بفقر، ولا ذو قل بقله.
ولقد روى أبو داود فى سننه أن سائلا سأل بلالا مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قائلا: حدثنى كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: ما كان له شيء من ذلك إلا أنا الذى كنت ألى ذلك منه منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي، فكان إذا أتاه المسلم فراه عائلا يأمرنى فأنطلق، فأشترى له البردة، والشيء فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضنى رجل من المشركين، فقال لى:«إن عندى سعة، فلا تقترض إلا منى ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك فى عصابة من التجار، فلما رانى قال لى «يا حبشى» قلت: يا لبيه، فتجهمني، وقال قولا عظيما غليظا، وقال: أتدرى كم بينك وبين الشهر! قلت: قريب. قال إن بينك وبينه أربع ليال، فاخذك بالذى لى عليك، فإنى لم أعطك الذى أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، وإنما أعطيتك لتصير لى عبدا، فأذرك ترعى فى الغنم كما كنت قبل ذلك. قال بلال: فأخذنى فى نفسى ما يأخذ أنفس الناس، فانطلقت، فناديت بالصلاة حتى إذا صليت العتمة، ورجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لى فقلت يا رسول الله بأبى أنت وأمى، إن المشرك الذى ذكرت لك أنى كنت أتدين منه قال كذا وكذا، وليس ما يقضى عنى ولا عندى وهو فاضحي، فأذن لى أن اتى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما يقضى به عني، فخرجت حتى أتيت منزلى، فجعلت سيفى وحرابى ورمحى ونعلى عند رأسى، فاستقبلت وجهى الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت رجلا نمت حتى اتسق عمود الصبح الأول. فأردت أن أنطلق، فإذا إنسان يدعوني، يا بلال أجب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فانطلقت حتى اتيه، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن، فأتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام فاستأذنت، فقال لى رسول الله: أبشر فقد جاءك الله بقضاء دينك فحمدت الله وقال: ألم تمر على الركائب المناخات الأربع قلت: بلي، قال:
فإن لك رقابهن وما عليهن. فإذا عليها كسوة وطعام أهداهن إليه صاحب فدك، قال: فاقبضهن إليك، ثم اقض دينك، ففعلت فحططت أحمالهن، ثم علقتهن ثم عمدت إلى تأدية صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرجت إلى البقيع، فجعلت أصبعى فى أذنى فقلت: من
كان يطلب من رسول الله عليه الصلاة والسلام دينا، فليحضر، فمازلت أبيع وأقضي، وأعرض حتى لم يبق على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دين فى الأرض حتى فضل عندى أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد، وقد ذهب عامة النهار، فإذا رسول الله عليه الصلاة والسلام قاعد فى المسجد واحده، فسلمت عليه، فقال لى: ما فعل الله قبلك؟ قلت: لقد قضى الله كل شيء كان على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلم يبق شيء. قال: فضل شئ قلت نعم ديناران، قال: انظر أن تريحنى منهما، فلست بداخل على أحد من أهلى حتى تريحنى منهما فلم يأتنا أحد، وظل فى المسجد حتى اليوم التالي، حتى إذا كان اخر النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما فكسوتهما، وأطعمتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني، فقال: ما فعل الله تعالى قبلك؟. قلت: قد أراحك الله تعالى منهما- فكبر وحمد الله تعالى شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته» «1» .
154-
سقنا هذا الخبر مع طوله، لأنه يدل أولا: على زهادة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم المطلقة التى لا يدخر فيها فى بيته. ويدل ثانيا: على أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يحمل أعباء العائلين من صحابته، يعينهم حتى يبعد عنهم ذل الحاجة، ويحميهم من رق الدين، ويدل ثالثا على أنه إذا لم يستطع أن يعطى أمرهم بأن يستدينوا عليه.
ويروى فى ذلك الترمذى بسنده أن رجلا جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه. فقال: ما عندي ما أعطيك، ولكن اذهب فابتع علي شيئا، فإذا جاءني شيء قضيته، فقال عمر بن الخطاب، يا رسول الله ما كلفك الله تعالي ما لا تقدر عليه، فكره النبي عليه الصلاة والسلام قول عمر. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم رسول الله صلي الله عليه وسلم وعرف التبسم في وجهه لقول الأنصارى.
ولقد كان ما يجرى علي النبي عليه الصلاة والسلام يجرى على نسائه، فيتحملن راضيات فى أكثر الأحيان.
ويروي أن امرأة من الأنصار دخلت علي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فرأت علي فراش رسول الله صلي الله تعالي عليه وسلم عباءة فانطلقت لتبعث إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا يا عائشة؟ قلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك، فذهبت، وبعثت بهذا، فقال: رديه، فلم أرده، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتي قال ذلك ثلاث مرات قالت فقال: رديه يا عائشة فو الله لو شئت لأجري الله معى جبال الذهب والفضة.
(1) تاريخ الحافظ ابن كثير نقلا عن الشمائل لأبى داود ص 56 ج 6.
ولم يكن عليه الصلاة والسلام يدخر لغده شيئا يسارع إليه الفساد، وقد روى الإمام أحمد أنه أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية فأطعم خادمه طائرا، والظاهر أنه أكل هو طائرا، وبقى طائر، فلما جاء الغد أتى به، فقال لأنس خادمه:«ألم أنهك أن تبقى شيئا لغد» .
ولما أفاء الله على رسوله نخيل بنى النضير، كان يدخر منها فكان يعزل لأهله من تمرها، ما يكفى سنة، ثم يكون الباقى مما ينفق فى الخيل والجمال مما يعد للحرب، وفى السلاح الباقي، صلى الله تعالى عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام لا يدخر ذهبا ولا فضة حتى أنه كان وهو مريض مرض الموت عنده سبعة دنانير أو ستة، فما زال بأهله حتى تخلص منها. وروى أنه كان له فى مرض موته قطعة ذهب صغيرة عبروا عنها بأنها ذهبية، فتصدق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يخرج من الدنيا، وليس له شيء، ولا عليه شيء، ولذا قال عليه الصلاة والسلام:«نحن معشر الأنبياء لا نورث» .
155-
كان ال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه يحملهن ما يحتمل، لأنهن اله، والسعة عليهن قد تعود بالسعة عليه، فسدا للذريعة كن يتحملن ما يتحمل.
ولكن يظهر أنهن طالبنه مرة بما ليس عنده، وضاق بهن ذرعا، فالى عليهن بأن حلف ألا يدخل عليهن شهرا، واعتزل عنهن، وسكن علية من داره، فدخل عليه عمر، وإذا هو مضطجع على حصير، قد أثر فى جسمه عليه الصلاة والسلام، فهملت عينا عمر، فقال عليه الصلاة والسلام: مالك، فقال:
أنت صفوة الله تعالى من خلقه وكسرى وقيصر فيما هما عليه، فجلس عليه الصلاة والسلام محمرا وجهه فقال:«أو فى شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الاخرة»
وقد عتب الله تعالى على نبيه أن حرم عليه أزواجه شهرا، فقال تعالي: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما، وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ، وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ.
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «1» .
(1) سورة التحريم: 1- 5.