الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التجلى الأعظم
[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]
191-
كان محمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله رحمة للعالمين ملتزما أمرين:
أولهما
-
أنه لم يكن صاحب لهو ولا عبث، كان كذلك غلاما، ثم شاديا، ثم بعد ذلك عاكفا زاهدا، منصرفا عن الناس إلا ما يوجبه حق المجتمع عليه، من عطاء يقدمه لمحتاج، أو معاونة لمستعين، أو إغاثة لملهوف، أو حمل لكل، أو قرى لضيف، أو صلة لرحم، وغير ذلك. فكان المتحمل للواجبات، المعتزل، الذى يؤثر العزلة عن الاندماج فى غمار الناس، حتى لا يصيبه شيء مما يخبثون به، لأنه الطاهر الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه، فكانت حياته الأولى مرشحة لحياته الثانية، واية على أنه ذلك الرجل الذى يستنكر المنكر، ولا يفاحش أو يخاصم أو يجادل، اية على أنه الرسول المنتظر، والنبى المرتقب، وهو فى أحواله فى اختلائه واجتماعه- الأليف المحبوب، الذى قدرته قريش كلها حق قدره.
الأمر الثانى
-
أنه قد اتخذ منسكا ينسك فيه، وهو غار حراء، بعد أن أكثر من العبادة، والعكوف على عبادة الله، وقد رأى قريشا يعكفون على أصنام لهم.
وإن الظاهر من حال قريش الذين استمرؤا عبادة الأوثان أنه لم يكن فيهم غير الحنفاء- من يتفكرون فى عبادة، أو يختلون ليعبدوا أوثانهم، فإن ذلك لم يثبت تاريخيا، ولم تذكر واقعة له تنبئ عن ذلك، وإن ما يحيط بهم، وما يثبت من حالهم يدل على أنهم لم يعملوا التفكير فى أمر عبادة، بل كانوا يتبعون ما وجدوا عليه اباءهم من غير تفكير ولا تدبر، ولو أن بعضهم كان يعمد إلى الاختلاء والاعتزال لكان كثيرون منهم يخرجون عن عبادة الأوثان إلى عبادة الديان، إذ أن تأملا يسيرا كان يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ضلال الوثنية إلى هداية الواحدانية، ولكنهم قوم ماديون، يقولون إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ «1» ، ويقولون: ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ، وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ «2» .
وإذا كان قد جرى على بعض الأقلام أن الاختلاء للعبادة كان نسكا عندهم يعبدون فيه الأوثان وينفردون لذلك، فإنما هو كلام من قوم لا يريدون بالإسلام إلا خبالا، ولا يريدون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم علوا، ولا يذكرون فيه قول الحق خالصا، بل يموهون فيه ويلبسون الحق بالباطل.
(1) سورة المؤمنون: 37.
(2)
سورة الجاثية: 24.
192-
كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فى العبادة، ومن وقت أن اطمأن إلى رزقه، ونظم تجارته فى مال خديجة بأن يعمل غيره تحت إشرافه، ولم يكن ثمة حاجة إلى خروجه بنفسه للتجارة، فلم يذكر أنه خرج بنفسه، بعد خروجه وهو فى الخامسة والعشرين من عمره.
وكلما تقدمت به سن الشباب ازداد نسكا واختلاء وانصرافا عن الملاذ والشهوات فى غير تحريم الحلال، أو إبعاد لطيب من طيبات، بل كان يأكل ويشرب فى غير سرف ولا مخيلة، كما بيّن فى شريعته التى أرسل بها رحمة للعالمين.
وقد اتخذ لنفسه شهرا من أشهر السنة يختلى فيه بغار حراء، وكان حراء نسكا للعرب فى جاهليتهم، كما جاء فى البداية والنهاية لابن كثير، فقد قال «وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج إلى حراء فى كل عام شهرا ينسك فيه، وكان من نسك قريش فى الجاهلية» «1» أى أنه كان من الأماكن التى تعتبرها قريش من النسك فى الجاهلية، ولعلهم كانوا يضيفونها إلى نسك الحج، وقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا خير مكان لعبادته، لأنه لا يطرق طول العام، ولم يكن كالبيت الحرام، إذ يطاف بالكعبة المشرفة فيه كل يوم، ويظهر أنه بمضى الزمان قد هجر اتخاذه نسكا، ولعله كان مما أضيف إلى مناسك من غير شريعة إبراهيم عليه السلام، وليس بحث هذا ذا جداء فى موضوعنا.
جاءت الصحاح بأنه كان عليه الصلاة والسلام يتحنث (أى يتعبد على الحنيفية السمحة) الليالى ذوات العدد، وكان يتخذ دائما شهر رمضان من كل عام يتزود لذلك، ويبتدى بالذهاب إلى البيت الحرام يطوف به، ويتصدق بالصدقات العظيمة ويطعم الطعام، ثم يذهب إلى غار فى جبل حراء، لم يكن فى سفحه، بل كان أعلى من ذلك. ولا يصل إليه قاصده إلا بمرتقى صعب، وليس بالسهل، والناظر إليه الان لا يجد الوصول إليه بغير شق النفس مما يدل على أن الله تعالى أعطى محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام بسطة فى الجسم، وقوة احتمال، ورغبة صادقة فى العبادة، لا يقوى عليها إلا أولو العزم من العباد.
حتى إذا أتم الشهر وهو رمضان عاد إلى بيته، وقبل أن يأوى إليه يمر بالبيت الحرام، فيطوف، ويتصدق بما بقى معه من زاد، ويطعم الطعام مما بقى له، ثم يأوى إلى خديجة زوجته الطاهرة.
(1) البداية والنهاية ج 3 ص 5.
وإن السياق فى كل الصحاح من أخبار السيرة يستفاد منها أنه كان يتزود بالزاد، ويذهب منفردا ليتم له الاعتكاف بعيدا عن الأهل والصحاب، ولا يكون إلا فى حضرة الحبيب الذى لا شريك له وهو الله سبحانه وتعالى.
هذا هو المستفاد من معنى الاختلاء والاعتكاف، ولأنه كان يصرح بأنه يغدو صادرا عن أهله فى الشهر، ويعود دائما إلى أهله بعد أن ينقضى الشهر.
ولكن روى عن ابن إسحاق فى سيرته عبارة تفيد أنه كان يذهب إلى الغار بأهله، وإليك عبارة ابن إسحاق «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جواره من شهره ذلك كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره للكعبة الشريفة قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله تعالى من ذلك. ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله تعالى به ما أراد من كرامته، من السنة التى بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر شهر رمضان خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله» «1» ، وإن هذا الكلام يدل على أن الإيحاء. وهو كان فى الليله التى كانت فيها البعثة النبوية- لم يكن أهله معه، وفيما قبل ذلك كان يكون أهله معه، إذ أنه يصرح بأنه كان يخرج لجواره، ومعه أهله، ولكن لا تجد هذه العبارة فى غير ما نقله ابن إسحاق بل إن معنى الاختلاء والاعتكاف ربما لا يكون متناسقا مع وجود أهله معه، إذ أن معنى الاعتكاف للعبادة يقتضى الابتعاد عن الأهل، والاتجاه إلى الله تعالى واحده.
ولهذا نحن نميل إلى رد ما قاله ابن إسحاق، وإن لم يكن ثمة ما يسوغ لنا أن نقول أنه ربما كان يذهب مع أهله ولا يبقون معه، بل يذهبون فى صحبته، ثم يتركونه من بعد فى واحدته وعبادته.
193-
والان نسوق الخبر، كما جاء فى صحيح البخارى وغيره من صحاح السنة.
يروى البخارى عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها أنها قالت: «أول ما بديء به الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء» «2» .
(1) سيرة ابن هشام نقلا عن ابن إسحاق ج 1 ص 236.
(2)
البداية والنهاية: ج 3 ص 2.
وهذه الرواية التى ساقها البخارى عن حب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للخلوة أقرب الروايات، وهى أرجحها وأصدقها، وهى تدل على أمور ثلاثة:
أولها- أن الوحى جاء إليه وهو فى غار حراء، ولم يكن معه أهله، وأنه كان يتزود، ولم تذكر أنه كان يصاحبه أهله.
وثانيها- أنه كانت تصفو نفسه وروحه.. وتخلص لله.
وثالثها- أن صفاء النفس أدى إلى صدق رؤياه.
وهنا يثار أمران:
أولهما- من أى وقت ابتدأت ملازمة الخلوة شهرا من كل عام.
ثانيهما- بأى شيء ابتدأ الوحى، ونزول الروح القدس عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، أكانت مواجهته له صلى الله تعالى عليه وسلم بالرؤيا الصادقة أم المشاهدة فى الصحو، لا فى المنام، لذلك موضع من البيان، نوجزه ولا نفصله.
أما أولهما- وهو من أى وقت ابتدأت خلوته صلى الله تعالى عليه وسلم. فإنا نقول فى ذلك أنه من المتفق عليه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نشأ وهو متجه إلى ربه لا يعبد سواه، وأنه التزم أن يكون عابدا من وقت أن بلغ سنا يدرك فيها معنى العبادة، ويعرف فيها حق الخالق على المخلوق، وقد كان يعبد الله تعالى بالتأمل فى خلقه، والتدبر فى ملكوته، واهتدى إليه، وأن يهتدى ابتداء إلى طريق عبادته، فإن ذلك فوق طاقة المعقول، ولابد فيه من المنقول، وقد أشرنا إلى أنه كان يحاول معرفة ديانة إبراهيم التى كانت بقاياها فى البلاد العربية، وخصوصا فى مكة المكرمة، حيث بيت الله الحرام الذى هو أول بيت وضع للناس، وبناه إبراهيم بمكة مباركا وهدى للعالمين فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «1» .
ورجحنا فى صدر كلامنا أن يكون قد وصل بالصفاء النفسى، وربما بالرؤيا الصادقة إلى صلاة إبراهيم، فلا عبادة من غير صلاة، فما دامت هناك عبادة لمحمد عليه الصلاة والسلام، صارت رتيبة له، فلابد أن يكون قد اهتدى لصلاة إبراهيم.
(1) سورة ال عمران: 97.
وإنه إذا كان قد سار فى طريق التأمل والعبادة، وفى وسط ذلك الديجور المظلم من عبادة الأوثان، لابد أن يختلى محمد صلى الله عليه وسلم عنهم لينصرف إلى ربه، ولكيلا يكون فى قلبه غيره، ولكى يعبده كأنه يراه، وقد وصل بقلبه المشرق إلى درجة الإحسان، فالاختلاء إذن كان أمرا لابد منه، ليكون لله واحده.
ولكن ذلك النظام الرتيب الذى التزمه، بأن يعبد الله منفردا بعبادته طول العام، ثم يختلى خلوة العابد شهرا من كل عام، هو شهر رمضان، فى أى وقت ابتدأ؟ الظاهر من عبارات الصحاح من الأخبار أن ذلك لم يكن فقط عام البعث المحمدى، بل ذلك العام اختتم بأن الحق نزل عليه، وجاءه روح القدس رسولا من عند ربه، فلابد أن يكون قبل ذلك النظام الرتيب، ونحسب أنه قبله بأعوام، لا نستطيع أن نحدس بها، وإن كان يتسابق إلى عقولنا، أنها مدة لا تقل عن خمس سنين، من وقت تمام بناء البيت الحرام، ووضعه الحجر الأسود بيده الكريمة، وإن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.
194-
بقى أن ننظر فى الأمر الثانى، وهو بأى شيء ابتدأ الوحى، لقد قالت أم المؤمنين عائشة رضى الله تبارك وتعالى عنها «إن الوحى ابتدأ بالرؤيا الصادقة، فكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» وإن ذلك لا يدل على أن ابتداء إنباء الله تعالى لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان بالرؤيا الصادقة.
ولكنه يدل على أن ابتداء الإشراق الإلهى، والاتصال الربانى كان بالرؤيا الصادقة، والرؤيا الصادقة، وإن كانت جزا من الإلهام الإلهى، وليست هى الوحى الذى يقام عليه التكليف بالنسبة للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام:«الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزا من الوحى» فليست بالنسبة للنبى عليه الصلاة والسلام هى الوحى، وإن كانت بالنسبة لإبراهيم عليه السلام كانت وحيا كاملا، وبالبناء عليها هم بأن يذبح ولده إسماعيل عليه السلام، حتى هداه رب العالمين، كما قال تعالى:
وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ «1» فكانت الرؤيا إنباء.
إن المقرر لدى المؤرخين للسيرة الطاهرة أن الوحى ابتدأ بخطاب روح القدس جبريل عليه السلام، ولكن جاء فى سيرة ابن إسحاق أن أول خطاب لجبريل لمحمد عليه الصلاة والسلام كان برؤيا صادقة فى المنام، ثم صحا يحفظها عليه الصلاة والسلام.
فقد جاء فى سيرة ابن هشام: «وجاء جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءنى وأنا نائم بنمط «2» من ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ. قلت: ما أقرأ. قال: فغتنى به،
(1) سورة الصافات: 107.
(2)
النمط وعاء.
حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى، فقال اقرأ فقلت ماذا أقرأ، فغتنى به. حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى، فقال اقرأ قال فقلت ماذا أقرأ ما أقول ذلك الا افتداء لى أن يعود لى بمثل ما صنع بى. فقال:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ. بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «1» قال فقرأتها، ثم انتهى فانصرف عنى وهببت من نومى، فكأنما كتبت فى قلبى كتابا، فخرجت حتى إذا كنت فى وسط الجبل، سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، قال: فوقفت أنظر إليه، وما أتقدم وما أتأخر، وجعلت أصرف عنه وجهى فى افاق السماء فلا أنظر فى ناحية فيها إلا رأيته كذلك، فمازلت واقفا ما أتقدم أمامى، وما أرجع ورائى، حتى بعثت خديجة رسلها فى طلبى، فبلغوا أعلى مكان، ورجعوا إليها وأنا فى مكانى ذلك، ثم انصرف عنى» .
وإنه لا شك ثمة فرق جوهرى فى الخبرين:
195-
فالخبر الذى جاءت به الصحاح يفيد بأن الالتقاء بالأمين جبريل عليه السلام كان فى صحو لا فى منام، والثانى يفيد أن الالتقاء كان فى المنام، لا فى الصحو، وإن كانت رؤيا كأنها الصحو، لأنه بعد أن استفاق من نومه تذكر كل ما قال لم ينس منه حرفا واحدا، فكان وحيا بلا ريب، والاختلاف بين الخبرين فى الرواية لا فى أصل المعنى، فهما متلاقيان غير متخالفين.
ومع هذا التلاقى فى المعنى، فإن هناك اختلافا فى الواقعة، أكانت فى نوم، أم كانت فى يقظة، وإن الكثيرين من العلماء قالوا مادام المعنى واحدا فى الروايتين وليستا متعارضتين، فإن التوفيق يكون بتكرار الواقعة، وقعت فى النوم، ووقعت فى اليقظة، فهى قد ابتدأت اللقاات بين محمد صلى الله عليه وسلم وروح القدس فى المنام، ثم كانت فى اليقظة والمنام، كان تمهيدا للمجاهرة فى اليقظة.
وقد وفق ذلك التوفيق ابن كثير فى البداية والنهاية وبناه على أن قول أم المؤمنين فى رواية للبخارى أول ما بديء به الوحى بالرؤيا الصادقة، فقد قال:
«فقول أم المؤمنين عائشة أول ما بديء به الوحى الرؤيا الصادقة، فكان لا يروى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، يقوى ما ذكره ابن إسحاق: ابن يسار عن عبيد بن عمر الليثى أن النبى صلى الله تعالى عليه
(1) سورة العلق: 1- 5.
وسلم قال: «فجاءنى جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب، فقال اقرأ، فقلت ما أقرأ، فغتنى حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلنى وذكر نحو حديث عائشة سواء، فكان هذا كالتوطئة، لما يأتى بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحا بهذا فى مغازى موسى بن عقبة عن الزهرى أنه رأى فى المنام، ثم جاءه الملك فى اليقظة. وقد جاء فى كتاب دلائل النبوة لأبى نعيم الأصبهانى أن ذلك شأن الأنبياء جميعا يأتيهم الوحى ابتداء فى المنام، حتى اذا تهيئوا للقاء الوحى عيانا، جاء إليهم. فقد نقل عن علقمة بن قيس أنه قال:
«إن أول ما يؤتى به الأنبياء فى المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحى» «1» .
وهكذا ننتهى إلى حقيقة ثابتة متفقة مع مجموع النقول، وتتلاقى مع العقول، وهى أن الالتقاء بالروح القدس ابتداء فى المنام، ثم لما ألف محمد عليه الصلاة والسلام الرؤيا المنامية الصادقة، ويظهر أنها فى وضوحها وجلائها تشبه رؤية اليقظة إذ كانت تجىء مثل فلق الصبح كما أخبرت أم المؤمنين عائشة، حتى إذا كان الأنس بروح القدس، وامتلاء النفس بالروحانية كانت المشاهدة فى اليقظة، لأن ذلك مقام خطير عظيم، لا تقوى عليه النفوس إلا بعد أن تصقل صقلا روحيا.
وقد يقول قائل: إن كلام أم المؤمنين عائشة يستفاد منه أن الميل إلى الاختلاء للعبادة كان بعد الرؤيا الصادقة، وقد يوهم ما قلنا بأن الصفاء النفسى بالعبادة قد سبق الرؤيا الصادقة.
ونقول فى الإجابة عن ذلك بأن الصفاء الروحى كان فى قلب النبى عليه الصلاة والسلام من يوم مولده، وهو فى المهد صبيا؛ فإذا كان عيسى عليه السلام تكلم فى المهد صبيا، فإن محمدا عليه الصلاة والسلام قد أدرك فى المهد صبيا، وإن الصفاء الروحى قد لازمه طول حياته، فقد كان فى صفاء ولابد أن يستمر إلى شبابه الباكر، ثم إلى ما بعده، فالرؤيا الصادقة كانت من إرهاصات الرسالة، وكانت من الوحى، ثم كانت فى المرحلة الأخيرة منها، وحيا بما يراه من خطاب الوحى بالأمين جبريل، وهى ما ذكره ابن إسحاق.
وإذا كان لنا أن نستفيد من تقديم الرؤيا الصادقة على الخلاء، فكان تحبيب الخلاء له ثمرة لرؤيا صادقة تكررت حتى كان منه الاختلاء بنفسه.
ولقد قلنا من قبل أنه كان يتعرف البقية من ديانة إبراهيم ليصلى، ونحن فى هذا الموضوع من بحثنا عثرنا على الضوء الذى نهتدى به فى تعرفه للصلاة على ديانة إبراهيم، وظننا من قبل احتمال أن يكون
(1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 238.