الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وروى أبو نعيم بسنده عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعتبة بن أبى معيط بمكة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وقد فرا من المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم «يا غلام عندك لبن تسقينا» فقلت: إنى مؤتمن، ولست بساقيكما فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟
قلت: نعم، فأتيتهما بها، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع، فدعا، فحفل الضرع. وجاء أبو بكر بصخرة منقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، وسقيانى، ثم قال للضرع أقلص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: علمنى من هذا القول الطيب: يعنى القران الكريم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إنك غلام معلم، فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعنى فيها أحد» .
وهذه القصة لعلماء السيرة فيها كلام، وذلك أن ابن مسعود رضى الله عنه كان من المسلمين الذين أسلموا قبل الهجرة، وأوذوا فى سبيل الله، وهاجر إلى الحبشة، والقصة توهم أنه كان إسلامه فى أثناء رحلة النبى صلى الله عليه وسلم.
وكلام علماء السيرة، لا يمنع أصل القصة، ولب الخوارق للعادة، فإن ذلك ثابت فى الصحاح، وربما كان الكلام منصبا على السياق، لا على أصل الواقعة وغيره ثابت بلا ريب.
وقد سقنا ذلك الكلام، وليس فيه تطويل، لأنه صدق، ولا تطويل فى نقل الصادق من الأخبار.
وإن هذا كله يدل على أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء على يديه من الخوارق الحسية ما يزيد على التسع التى اختص بها موسى عليه السلام، إذ أحيا الموتى باذن الله، وإذ أخرجها من قبورها بإذن الله، واختلاف النوع لا يدل على ضعف الروحانية فى خوارق محمد صلى الله عليه وسلم، فالإسراء والمعراج خارق للعادة مادى روحى، وغوص فرس سراقة، ونبع اللبن بين أصابعه وتكرره يدل على قوة روحية لا تقل عن إحياء الموتى، ومع ذلك لم يتحد النبى صلى الله عليه وسلم إلا بالقران الكريم أنزله عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً.
وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء
استمر الركب المبارك محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه سائرا فى طريق وعر فى وعثاء الصحراء، وقد استطال فرارا من الطلب، وايات الله تتبعها اية، وكثرت فى الطريق، وتوالت، ليعلم النبى صلى الله عليه وسلم بالواقع أن الله سبحانه وتعالى معه حيث حل وحيث ارتحل، كما علم من قبل بعين الإيمان، إذ قال لصاحبه وهو بالغار، لا تحزن إن الله معنا. فأراه الله تعالى الايات فى رحلته، كما أراه الايات فى نبوته.
وقد انتهت شدة الرحلة بالوصول إلى قباء، حيث المنعة والنصرة، وحيث لقاء أهل الإيمان الذين كانوا يترقبون شخصه، ويستشرفون لحلوله بينهم.
يقرر ابن إسحاق بسنده فى هذا عن عبد الرحمن بن عويمر بن ساعدة، قال: حدثنى رجال من قومى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة وتوقعنا
قدومه، كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فو الله ما يبرح حتى تعلينا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا، وذلك فى أيام حارة، حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا
…
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت، فكان أول من راه رجل يهودى، وقد رأى ما كنا نصنع، وأن ننظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا.
فصرخ بأعلى صوته يا بنى قيلة (الأنصار) هذا جدكم قد جاء، فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو فى ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضى الله عنه فى مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركبه الناس أى (ازدحموا) عليه وما يعرفونه من أبى بكر، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر، فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك.
نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما يذكر علماء السيرة الطاهرة على كلثوم بن هند، وبعض العلماء يقول أنه نزل عند سعد بن خيثمة، وقد وفق ابن إسحاق وغيره بين الخبرين، فقال إنه صلى الله عليه وسلم نزل عند كلثوم، ولكنه كان إذا خرج للناس وجلسوا إليه، كان ذلك فى بيت سعد.
ولقد جاءت عبارات تفيد أنه كان يختار الجلوس فى بيت سعد، لأنه كان عزبا لا أهل له، وكان منزله منزل الأعزاب من المهاجرين.
ونزل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر على خبيب بن أساف.
وفى قباء التقى علي بن أبى طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مكث ثلاث ليال وأيامها بمكة المكرمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لرد الودائع، ثم أخذ سمته إلى يثرب، وكأنه أقام فى مكة المكرمة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام المدة التى مكثها النبى وصاحبه فى الغار إذ أنهما مكثا فى الغار ثلاث ليال.
ونزل على كرم الله وجهه فى المنزل الذى نزل فيه النبى صلى الله عليه وسلم، وهو منزل كلثوم بن هند، ويظهر أن حضوره إلى قباء كان بعد حضور النبى صلى الله عليه وسلم بليلة على الأقل، لأنه أقام بقباء ليلة أو ليلتين، وقد ذكر ابن إسحاق أنه أقام فى قباء أربعة أيام بلياليها، فذكر أنه أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفى هذه المدة التى أقامها بقباء أنشأ مسجدها، وهو الذى أشار الله تعالى إليه فى قوله تعالى:.. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ «1» ، فهو مسجد أسس على التقوى من أول يوم أقام فيه النبى صلى الله عليه وسلم، وهو جدير بأن يسمى مسجد الهجرة، وأنه مسجد الذين يحبون أن يتطهروا فى عبادتهم غير مرائين ولا منافقين. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصل فى اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول، وكان يوم الاثنين، وقيل فى اليوم التالى، والأول هو الذى يرجحه الرواة.
(1) سورة التوبة: 108.