الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإذن للمؤمنين بالهجرة
.
319-
أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين لهم أن فى يثرب الإيواء والنصرة وقال صلى الله عليه وسلم:«إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» .
بعد هذا الإذن الصريح الذى يكاد يكون أمرا، خرج المسلمون مهاجرين أرسالا، احادا وجماعات، ولم يجد المهاجرون السبيل ذللا سهلا، بل كانوا يجدون معوقين من قريش، لأن هؤلاء بعد أن علموا ببيعة الأنصار أدركوا أن المسلمين بمكة المكرمة يتجمعون بإخوانهم فى يثرب التى صارت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا يترصدون كل من هاجر، فإن استطاعوا منعه منعوه، فحاولوا أن يمنعوا أم سلمة وزوجها، وتركوه يهاجر دونها، وهى بإرادة مؤمنة صبرت وهاجرت واحدها، حتى وجدت من أهل المروءة من عاونها على هجرتها.
وأحيانا كانوا يتحايلون على المهاجرين بالكذب حتى يردوهم ثم يعذبوهم غير موفين بعهد أو ذمة، ولنضرب لذلك مثلا، بأحد المهاجرين وهو عياش بن أبى ربيعة.
يروى أن عياشا هذا عندما هم بالهجرة خرج إليه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، فتتبعاه، حتى قدم المدينة المنورة، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يكن قد هاجر بعد، بل كان لا يزال بمكة المكرمة وقالا له: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقال له عمر وكان معه: «يا عياش إنه والله، إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو اذى أمك القمل لا متشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال، وهو مخدوع: أبر أمي، ولى هناك مال فاخذه. قال له عمر: والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. فلما أبى ذلك قال عمر الرفيق الشفيق، أما إذ فعلت ما فعلت، فخذ ناقتى هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب، فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيرى هذا، أفلا تعقبنى على ناقتك هذه. قال: بلي، فأناخ وأناخها ليتحولا عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه رباطا، ثم دخلا به مكة المكرمة، ففتناه فافتتن، وخرج من الإسلام مكرها، وقلبه مطمئن بالإيمان.
وكان صاحب عمر فى الهجرة، ومعهما صاحب ثالث، وهو هشام بن العاص أدركه أهله قبل أن يصل إلى المدينة المنورة ففتنوه عن دينه ففتن.
قال عمر صاحب الرواية كلها، وكان قد صحبهما فى الهجرة، «كنا نقول لا يقبل الله ممن افتتن» وفى رواية عبد الله بن عمر عن أبيه قوله «ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا، ولا توبة؛ قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم» وكانوا يقولون هم لأنفسهم ذلك.
ولعل هذا الاعتقاد الذى سكن قلب عمر الفاروق، وسكن قلوب أولئك المؤمنين الأولين، إنما هو لكى يتحملوا أقصى ما يمكن من البلاء، وليكون صبرهم تحريضا لغيرهم، فقوة الإيمان تسرى من أقوياء النفوس إلى ضعفائها، وإن الماء العالى يهبط إلى السافل، لتتوازن النفوس كالسوائل.
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أنزل الله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «1» .
لما نزلت هذه الاية لم ينس عمر الكريم صاحبيه اللذين كانا على نية مرافقته، ورافقه أحدهما، ثم افتتن فى دينه وافتتن الاخر قبل أن يسافرا، ولأنه لم ينسهما أرسل إليهما فى صحيفة هذه الاية الكريمة، أرسلها إلى هشام بن العاص الذى افتتن أولا- فلما قرأها فهمها بعد أن استعصى عليه فهم ما يقصد عمر من كتابتها إليه، وعرف أنها أنزلت فيه وفى أمثاله، ممن كانوا قد قنطوا من رحمة الله تعالى.
وهناك رواية أخرى تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالمدينة المنورة، قال: من لى بعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن العاص، فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما، فخرج إلى مكة المكرمة مستخفيا فلقى امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين (تعنيهما) ، فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين فى بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ ردة (أى خنجرا) فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه، فحل القيدان، ثم حملهما على بعيره.
320-
من أجل هذا التتبع الشديد من المشركين، كان المؤمنون يتسللون فى هجرتهم لواذا استخفاء من ظلم قريش، الذى انبعث من خوف تجمع المؤمنين بيثرب لينقضوا عليهم، ويمنعوهم من فتنة الناس فى دينهم، وكان الأقوياء منهم يختارون التستر ليظفروا بالهجرة فى أمان من الأذي، إلا عمر بن الخطاب الذى أبى إلا أن يجهر بالإيمان فى كل موطن من مواطن مكة المكرمة، وأبى الاستخفاء، فهو فى الهجرة أيضا أبى الاستخفاء، وخرج مجاهرا بالهجرة متحديا من يقف فى سبيله.
روى على بن أبى طالب كرم الله تعالى وجهه فى الجنة أنه قال: «ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب (رضى الله تعالى عنه) فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه،
(1) سورة الزمر: 53- 55.
وتنكب قوسه، وانتضى فى يديه أسهما، واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة الشريفة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام، فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال:
شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل امرأته، فليلقنى وراء هذا الوادى «1» .
وقد يسأل سائل: إن المشهور أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه صحب فى رحلته عياش ابن أبى ربيعة. وكان فى عزمته أن يصحبهما هشام بن العاص، فكيف نوفق بين هذه الرواية المشهورة ورواية على كرم الله وجهه؟ ونقول فى الجواب عن ذلك، إن الجمع بين الروايتين ممكن، ومتى أمكن الجمع يتعين تصديق الروايتين، إذ لا ترد إحداهما إلا إذا تعذر التوفيق بينهما.
والتوفيق ممكن وظاهر، إذ أن الصحبة كانت فى السفر، وواضح أن السفر يكون بعد اعتزام النية والإصرار، وقد كان متفقا معهما على أن يلتقيا معه فى مكان يقال له التناضب، من أضاة بنى غفار.
والواقعة التى رواها على كرم الله وجهه كانت وهو لا يزال بمكة المكرمة، وقد أعلن الهجرة، فهو قد قال ما قال معلنا هجرته، متحديا قريشا، ثم أخذ طريقه إلى المكان الذى اتعدوا فيه، فوجد عياشا، وتخلف عنهما هشام، إذ افتتن فى دينه، واستجاب لهم وقلبه مطمئن بالإيمان.
كانت هجرة المهاجرين سرا، أو على استخفاء من قريش.
وكانوا ينزلون فى مهجرهم على الأنصار، فينزلون معهم فى بيوتهم، فعمر بن الخطاب حين انتقل إلى المدينة المنورة ولحق به أهله وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو بن سراقة وغيرهم، نزلوا على رفاعة بن عبد المنذور بن زهير فى بنى عمرو بن عوف فى قباء. ونزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان، على خبيب بن أصاف، وهكذا غيرهم نزل فى منازل الذين اووا ونصروا، وكانوا يرحبون بهم، وكأنهم بين أهليهم وذويهم، لأن الإيمان الصادق جمعهم، ومحبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فاضت عليهم، فجعلتهم أحبابا على مائدة الرحمن، وقد علموا فضل إخوانهم المهاجرين الذين صبروا عند الصدمة الأولي، وأوذوا فى أنفسهم وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، فجعل الله تعالى من خوفهم أمنا، ومن ذل ضعفائهم عزة، إذ اعتزوا بعزة الله تعالي، وكان بهم بتوفيق الله أن صارت كلمة الله تعالى هى العليا، وقد قال الله تعالى فى المهاجرين والأنصار:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ
(1) راجع في هذا أشهر مشاهير الإسلام للمرحوم رفيق العظم طبعة 1972 الناشر (دار الفكر العربي) .