المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإذن للمؤمنين بالهجرة - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

.

319-

أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين لهم أن فى يثرب الإيواء والنصرة وقال صلى الله عليه وسلم:«إن الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها» .

بعد هذا الإذن الصريح الذى يكاد يكون أمرا، خرج المسلمون مهاجرين أرسالا، احادا وجماعات، ولم يجد المهاجرون السبيل ذللا سهلا، بل كانوا يجدون معوقين من قريش، لأن هؤلاء بعد أن علموا ببيعة الأنصار أدركوا أن المسلمين بمكة المكرمة يتجمعون بإخوانهم فى يثرب التى صارت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا يترصدون كل من هاجر، فإن استطاعوا منعه منعوه، فحاولوا أن يمنعوا أم سلمة وزوجها، وتركوه يهاجر دونها، وهى بإرادة مؤمنة صبرت وهاجرت واحدها، حتى وجدت من أهل المروءة من عاونها على هجرتها.

وأحيانا كانوا يتحايلون على المهاجرين بالكذب حتى يردوهم ثم يعذبوهم غير موفين بعهد أو ذمة، ولنضرب لذلك مثلا، بأحد المهاجرين وهو عياش بن أبى ربيعة.

يروى أن عياشا هذا عندما هم بالهجرة خرج إليه أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما، فتتبعاه، حتى قدم المدينة المنورة، والنبى صلى الله عليه وسلم لم يكن قد هاجر بعد، بل كان لا يزال بمكة المكرمة وقالا له: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرق لها، فقال له عمر وكان معه: «يا عياش إنه والله، إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فو الله لو اذى أمك القمل لا متشطت، ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فقال، وهو مخدوع: أبر أمي، ولى هناك مال فاخذه. قال له عمر: والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. فلما أبى ذلك قال عمر الرفيق الشفيق، أما إذ فعلت ما فعلت، فخذ ناقتى هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب، فانج عليها، فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا أخي، والله لقد استغلظت بعيرى هذا، أفلا تعقبنى على ناقتك هذه. قال: بلي، فأناخ وأناخها ليتحولا عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه، فأوثقاه رباطا، ثم دخلا به مكة المكرمة، ففتناه فافتتن، وخرج من الإسلام مكرها، وقلبه مطمئن بالإيمان.

وكان صاحب عمر فى الهجرة، ومعهما صاحب ثالث، وهو هشام بن العاص أدركه أهله قبل أن يصل إلى المدينة المنورة ففتنوه عن دينه ففتن.

قال عمر صاحب الرواية كلها، وكان قد صحبهما فى الهجرة، «كنا نقول لا يقبل الله ممن افتتن» وفى رواية عبد الله بن عمر عن أبيه قوله «ما الله بقابل ممن افتتن صرفا ولا عدلا، ولا توبة؛ قوم عرفوا الله، ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم» وكانوا يقولون هم لأنفسهم ذلك.

ص: 449

ولعل هذا الاعتقاد الذى سكن قلب عمر الفاروق، وسكن قلوب أولئك المؤمنين الأولين، إنما هو لكى يتحملوا أقصى ما يمكن من البلاء، وليكون صبرهم تحريضا لغيرهم، فقوة الإيمان تسرى من أقوياء النفوس إلى ضعفائها، وإن الماء العالى يهبط إلى السافل، لتتوازن النفوس كالسوائل.

لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة أنزل الله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ، لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ، ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.

وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ «1» .

لما نزلت هذه الاية لم ينس عمر الكريم صاحبيه اللذين كانا على نية مرافقته، ورافقه أحدهما، ثم افتتن فى دينه وافتتن الاخر قبل أن يسافرا، ولأنه لم ينسهما أرسل إليهما فى صحيفة هذه الاية الكريمة، أرسلها إلى هشام بن العاص الذى افتتن أولا- فلما قرأها فهمها بعد أن استعصى عليه فهم ما يقصد عمر من كتابتها إليه، وعرف أنها أنزلت فيه وفى أمثاله، ممن كانوا قد قنطوا من رحمة الله تعالى.

وهناك رواية أخرى تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بالمدينة المنورة، قال: من لى بعياش بن أبى ربيعة، وهشام بن العاص، فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما، فخرج إلى مكة المكرمة مستخفيا فلقى امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين (تعنيهما) ، فتبعها حتى عرف موضعهما، وكانا محبوسين فى بيت لا سقف له، فلما أمسى تسور عليهما، ثم أخذ ردة (أى خنجرا) فوضعها تحت قيديهما، ثم ضربهما بسيفه، فحل القيدان، ثم حملهما على بعيره.

320-

من أجل هذا التتبع الشديد من المشركين، كان المؤمنون يتسللون فى هجرتهم لواذا استخفاء من ظلم قريش، الذى انبعث من خوف تجمع المؤمنين بيثرب لينقضوا عليهم، ويمنعوهم من فتنة الناس فى دينهم، وكان الأقوياء منهم يختارون التستر ليظفروا بالهجرة فى أمان من الأذي، إلا عمر بن الخطاب الذى أبى إلا أن يجهر بالإيمان فى كل موطن من مواطن مكة المكرمة، وأبى الاستخفاء، فهو فى الهجرة أيضا أبى الاستخفاء، وخرج مجاهرا بالهجرة متحديا من يقف فى سبيله.

روى على بن أبى طالب كرم الله تعالى وجهه فى الجنة أنه قال: «ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا إلا عمر بن الخطاب (رضى الله تعالى عنه) فإنه لما هم بالهجرة تقلد سيفه،

(1) سورة الزمر: 53- 55.

ص: 450

وتنكب قوسه، وانتضى فى يديه أسهما، واختصر عنزته، ومضى قبل الكعبة الشريفة، والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعا، ثم أتى المقام، فصلى ركعتين، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال:

شاهت الوجوه، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده، أو ترمل امرأته، فليلقنى وراء هذا الوادى «1» .

وقد يسأل سائل: إن المشهور أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه صحب فى رحلته عياش ابن أبى ربيعة. وكان فى عزمته أن يصحبهما هشام بن العاص، فكيف نوفق بين هذه الرواية المشهورة ورواية على كرم الله وجهه؟ ونقول فى الجواب عن ذلك، إن الجمع بين الروايتين ممكن، ومتى أمكن الجمع يتعين تصديق الروايتين، إذ لا ترد إحداهما إلا إذا تعذر التوفيق بينهما.

والتوفيق ممكن وظاهر، إذ أن الصحبة كانت فى السفر، وواضح أن السفر يكون بعد اعتزام النية والإصرار، وقد كان متفقا معهما على أن يلتقيا معه فى مكان يقال له التناضب، من أضاة بنى غفار.

والواقعة التى رواها على كرم الله وجهه كانت وهو لا يزال بمكة المكرمة، وقد أعلن الهجرة، فهو قد قال ما قال معلنا هجرته، متحديا قريشا، ثم أخذ طريقه إلى المكان الذى اتعدوا فيه، فوجد عياشا، وتخلف عنهما هشام، إذ افتتن فى دينه، واستجاب لهم وقلبه مطمئن بالإيمان.

كانت هجرة المهاجرين سرا، أو على استخفاء من قريش.

وكانوا ينزلون فى مهجرهم على الأنصار، فينزلون معهم فى بيوتهم، فعمر بن الخطاب حين انتقل إلى المدينة المنورة ولحق به أهله وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو بن سراقة وغيرهم، نزلوا على رفاعة بن عبد المنذور بن زهير فى بنى عمرو بن عوف فى قباء. ونزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان، على خبيب بن أصاف، وهكذا غيرهم نزل فى منازل الذين اووا ونصروا، وكانوا يرحبون بهم، وكأنهم بين أهليهم وذويهم، لأن الإيمان الصادق جمعهم، ومحبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فاضت عليهم، فجعلتهم أحبابا على مائدة الرحمن، وقد علموا فضل إخوانهم المهاجرين الذين صبروا عند الصدمة الأولي، وأوذوا فى أنفسهم وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، فجعل الله تعالى من خوفهم أمنا، ومن ذل ضعفائهم عزة، إذ اعتزوا بعزة الله تعالي، وكان بهم بتوفيق الله أن صارت كلمة الله تعالى هى العليا، وقد قال الله تعالى فى المهاجرين والأنصار:

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ

(1) راجع في هذا أشهر مشاهير الإسلام للمرحوم رفيق العظم طبعة 1972 الناشر (دار الفكر العربي) .

ص: 451