الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقوله: «يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» يتصدى أبو جهل وأبو لهب وهما يتناوبان فيقول: «يا بنى فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، إلى ما جاء من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه» .
وهكذا كانت الدعوة المحمدية تأخذ طريقها، والذين يصدون عن سبيل الله يدعثرونها، ولكن نور الحق لا تطفئه الضلالة، ولا تعمى عنه الأبصار، والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم دائب على الدعوة، اتبعوه أو فارقوه، وربما وجد غفلة عن اتباعه، فانتهزها. ومهما يكن مقدار الاستجابة، فإن إعلام الناس بعقيدة التوحيد ينبه الأذهان إلى التفكير فى الأوثان، ومجرد التفكير فيها يحبطها.
ونرى من هذا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعوهم بالحكمة، فهو يأتيهم من قبل ما شهر عن العرب بحبهم للنجدة، ولا يأتيهم ابتداء بمحاربة تدينهم، كما قال الله تعالى ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1» .
وكان أكثر الجماعات لا يحبون دعوة الحق، ومنهم من يحسن الرد، ومنهم من كان يقول:
الحق بقومك. ولكن بعض الاحاد كانت تصغى أفئدتهم، وإن لم يستطع الكثيرون أن يخرجوا من ربقة ما هم عليه دفعة واحدة.
جماعات تقبل الواحدانية:
305-
ومع الصدود من الجماعات، والصد من بعض الاحاد، والميل من اخر كان النبى صلى الله تعالى عليه وسلم ماشيا فى الاتجاه إلى القبائل فى موسم الحج، وهو يتوسم الناس، ويتعرف الوجوه والأشراف ومعه أبو بكر الصديق، وهو من أعلم الناس بأحوال العرب.
وكان بجوار القبائل التى أعرضت، كانت جماعات قد أقبلت على الاستماع، وبدت منها الاستجابة، حتى كانت قبيلتا الأوس والخزرج، على ما سنبين، ولنذكر لك خبرا عن بعض الجماعات
(1) سورة النحل: 125.
التى مالت ابتداء، قبل اللقاء بأهل يثرب، وسنجد فى كلامهم مجاوبة تدل على قدرتهم على المنعة، وقوة تفكيرهم.
روى أبو نعيم أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم صحب فى إحدى مرات عرضه نفسه الكريمة على القبائل على بن أبى طالب وأبا بكر رضى الله تعالى عنهما، وكان بين أبى بكر، وبين قبيلة من شيبان بن ثعلبة صلة ومودة، ثم جرى بينهم وبين النبى صلى الله تعالى عليه وسلم حديث طويل.
قال أبو بكر مخاطبا القوم: ممن القوم؟ قالوا: من بنى شيبان بن ثعلبة.
فالتفت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال: بأبى أنت وأمى ليس بعد هؤلاء من عز فى قومهم، وهؤلاء غرر فى قومهم، وغرر الناس، وكان فى القوم مفروق بن عمرو، وهانيء بن قبيصة؛ والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب الناس إلى أبى بكر مجلسا مفروق بن عمرو وكان قد غلب عليهم بيانا ولسانا فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟
فقال له مفروق بن عمرو: إنا لنزيد على ألف، ولن نغلب من قلة.
فقال له أبو بكر: فكيف المنعة فيكم؟
فقال مفروق: علينا الجهد، ولكل قوم جد.
فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم،
فقال مفروق: إنا أشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا، لعلك أخو قريش (أى النبى صلى الله عليه وسلم .
فقال أبو بكر: إن كان قد بلغكم أنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فها هو ذا.
فقال مفروق: بلغنا أنه يقول ذلك. ثم التفت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبا له، فجلس، وقام أبو بكر يظله بثوبه. فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:
أدعوكم إلى شهادة ألاإله إلا الله واحده لا شريك له، وأنى رسول الله وأن تؤوونى وتنصرونى حتى أؤدى عن الله تعالى الذى أمرنى به، فإن قريشا تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغنى الحميد.
فقال مفروق: وإلام أيضا يا أخا قريش.
فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قول الله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى، وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «1» .
فقال مفروق، وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فو الله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان كلامهم لعرفناه.
فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قول الله تعالي: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ «2» .
فقال مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أساء قوم كذبوك، وظاهروا عليك.
وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام هانيء بن قبيصة، فقال: وهذا هانيء بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.
فقال هانيء: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك. وإنى أرى إن تركنا ديننا، واتبعناك على دينك لمجلس جلسته إلينا.. لم نتفكر فى أمرك، وننظر فى عاقبة ما تدعو إليه- زلة فى الرأى، وطيشة فى العقل، وقلة نظر فى العاقبة، وإنما تكون الذلة فى العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن نرجع وترجع، وننظر وتنظر.
وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنى: قد سمعت مقالتك، واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبنى ما تكلمات به، والجواب هو جواب هانيء بن قبيصة. وتركنا ديننا واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا، وإنا إنما نزلنا بين حيزين:
أحدهما اليمامة، والاخر السماوة.
(1) سورة الأنعام: 151- 153.
(2)
سورة النحل: 90.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وما هذان الحيزان.
فقال له المثنى: أما أحدهما فطفوف البر، وأرض العرب، وأما الاخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى: لا نحدث حدثا ولا نؤوى محدثا، ولعل الأمر الذى تدعونا إليه مما يكرهه الملوك. فأما ما كان مما يلى العرب، فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلى بلاد فارس، فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول؛ فإن أردت أن تنصرف ونمنعك مما يلى العرب فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أسأتم الرد، إذ أفصحتم بالصدق، إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه.
ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مخاطبا: «أرأيتم، إن لم تلبثوا، إلا يسيرا، حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم، ويغريكم بهم أتسبحون الله وتقدسونه؟ فقال النعمان بن شريك: «اللهم إن ذلك لك يا أخا قريش» .
فتلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قول الله تعالي: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِراجاً مُنِيراً «1» .
ثم نهض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قابضا على يدى أبى بكر.
يقول ابن كثير فى البداية والنهاية بعد أن ساق الخبر: هذا حديث غريب جدا، كتبناه لما فيه من دلائل النبوة، ومحاسن الأخلاق ومكارم الشيم، وفصاحة العرب» «2» .
وفى الخبر أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم تنبأ لهم أنهم سينصرون على فارس قريبا، وقد انتصروا فعلا، وأعلن ذلك النبى صلى الله تعالى عليه وسلم، فقد قال لأصحابه:«احمدوا الله كثيرا، فقد ظفر أبناء ربيعة بأهل فارس» وإن هذا الخبر الطويل يدل على أمور:
(أ) منها أن النبى صلى الله تعالى عليه وسلم كان دائبا على بث الدعوة بين القبائل فى موسم الحج، سواء أكانوا من القبائل المتاخمة لفارس، أم المتاخمة للروم فى الشام، وأنه كان يلقى تأييدا على حسب البعد.
(ب) ومنها- أنه كما كان يلقى صدودا، كان يلقى أيضا حسن تفهم، وإن كان ثمة تمرد، ومنشؤه أنهم لا يريدون أن يتركوا ما هم عليه ليغيروا بمجرد مجلس.
(1) سورة الأحزاب: 45، 46.
(2)
البداية والنهاية لابن كثير ج 3 ص 144، 145.