الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإذا عاد إليها بعد امنة وهى إحدى زوجتيه، فإنه ليس لها أن تمتنع عليه لأنها زوجه، فكيف يقال من بعد أنه رضيت به لغرة نور فى جبينه، ولو كان ذلك هو السبب، ما منعها عند إجابته وعلى ثيابه طين، لأن الأساس فى نظرها أن تصل إلى أن يكون النور فى رحمها لا يمنعها غبار طين أو نحوه.
فالخبر مضطرب فى مبناه متناقض مع العقل فى معناه، فيردّ جملة وتفصيلا.
صفات سامية فى امنة:
71-
اتسمت امنة كما يبدو من أخبارها، أنها كانت صبورا، وكانت تشبه البتول فى سموها، وفى اصطفاء الله تعالى لها فى أن تكون أما لسيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم كما اصطفى مريم البتول لتكون أما للمسيح عليه السلام، ولكن امنة، ولدت محمدا وحملت به كسائر البشر.
وكانت شبيهة بالبتول فى الصبر، وفى خلاصها من فتن الزواج، وكونها حملت صاحب أكبر رسالة فى هذا الوجود.
إنها منحت زوجا مرموقا محبوبا تتمناه كل فتيات عصره، ولكنه سرعان ما غادرها بعد الزواج بمدة قصيرة، قدرها بعض الإخباريين بأنها ثلاثة أيام أو ثلاثة أشهر، سافر ليمتار لأهله من قريش تمرا، فذهب لأخوال أبيه بنى النجار، ومات هناك.
فهذه الأم الصبور على فراق زوجها الشاب، ولم تشتر عسل الزواج ورضيت الحرمان فى سبيل نفع قومها، إذ ذهب ليجلب لهم رزقا، والمرأة الفاضلة ترضى باغتراب من تحب إذا كان الاغتراب لنفع قومه، وإصلاح حالهم، وارتضت صابرة، أن يولد ولدها الحبيب فى غيبة زوجها الحبيب الذى لم تلبث أن نالته حتى بعد عنها، فكان الرضا بالانتساب إليه يغنى عن المتعة بقربه، واكتفت من متعة هذا الزواج الطاهر بمتعة قرة عينها ولدها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وعاشت مطمئنة إلى أمل اللقاء، وأن يجمع الله تعالى الشمل المتفرق كما أراد رب العالمين، ولكن الله جلت قدرته أراد اختبارها فأفقدها زوجها فى غربته، فكانت الصابرة الكريمة القائمة على تربية ولدها، الراضية بأمر ربها من غير أن يعرف عنها تململ بحياتها وعيشها.
ولما استغنى ولدها عن المراضع شدت رحالها مع وليدها، وقطعت الفيا فى والقفار فى مشقة لا يقدر عليها إلا الصابرون، وذهبت إلى يثرب لترى قبر زوجها الذى اختيرت له وهو مرمى الأنظار
والحبيب فى مكة وأبى القدر الحكيم إلا أن ترى بعد ذلك رمسه المدفون فيه، وهى فى كل هذا الصبور المطمئنة إلى قدر الله تعالى العادل: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ «1» .
ومكثت هناك بجواره مدة لا تقل عن ثلاث سنين كان فيها متاع حسن بالنسبة لها، إذ كانت قريبة من زوجها الحبيب، وقد ارتضت ذلك واطمأنت نفسها، فهى الصابرة الامنة كاسمها، الشريفة كقومها، الكريمة كمحتدها.
ويظهر أنها لم ترد أن يبعد ابنها عن قومه، وهم أشراف مكة، ولم تكن التى تضن به على جده فهى تؤثره على نفسها دائما وقد احتملت المشقة وأخذت تقطع الفيافى والقفار، وليس معها إلا جارية تعينها على مشقة الطريق، وتكون لها رفيقة مع بعد الشقة، وتعاونها فى حضانة الغلام النورانى.
ولكن هذه المجاهدة فى سبيل الوفاء، والإخلاص للولد ولجده أجهدتها الرحلة فماتت، وهى عائدة إلى مكة ودفنت بالأبواء بين مكة والمدينة، وهى إذ أسلمت روحها، ودعت الدنيا تاركة عزيزها، كما ودعت أباه من قبله، ولكن وداعها الأول كان لعزيز إلى طريق الأبدية، أما وداعها من بعد، فكان لولدها العزيز، وتركه إلى طريق الحياة والجهاد فيها، ولكنها تركته إلى رعاية الله تعالى مع الجارية التى صحبتها، فرعاه الله تعالى وصنعه تعالى على عينه، حتى وصل إلى جده العظيم فى قومه فاحتضنه.
وهنا نقف وقفة قصيرة، لننظر إلى تلك المجاهدة الهادئة الصبور، فإذا قلنا إنها عاشت كالعذراء إذ لم يكن إلا أنها حملت سر هذا الوجود، وكأنها أودعت أمانة النبوة لتحتفظ بها، وكأنها كالبتول العذراء، بيد أن هذه لم تصطفها الملائكة، عزاء من رب العالمين، إذ اختارها وتعهدها نبى وأقامها فى المحراب وكانت فى رعاية ظاهرة، وأما امنة بنت وهب فقد خوطبت بلسان الفطرة المستقيمة، وعلمت بحكم الباعث فى نفس طاهرة أنها حملت أمانة، واستمرت الأمانة معها فى رعاية الله تعالي، وهى حاملة ما حملت غير وانية ولا مقصرة، ولا هادى يهديها إلا ما انبعث فى نفسها من نور الفطرة، والإحساس بعبء الأمانة.
(1) سورة الأنبياء: 23.