المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء: - خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم - جـ ١

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌مقدمة

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌‌‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله:

- ‌يا رسول الله يا خير البشر:

- ‌ربى العظيم:

- ‌[تمهيد]

- ‌الاضطراب الفكرى:

- ‌المجوسية:

- ‌المانوية:

- ‌المزدكية:

- ‌البراهمة:

- ‌[طبقات الناس في عقيدة البراهمة في المجتمع الهندي]

- ‌الطبقة الأولي: هى أعلاها وهى طبقة البراهمة

- ‌الطبقة الثانية: طبقة الجند

- ‌الطبقة الثالثة: طبقة الزراع والتجار

- ‌الطبقة الرابعة:

- ‌هل للبرهمية أصل سماوى:

- ‌[الأدلة على سماوية الأصل البرهمي]

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌ كتبهم

- ‌الأمر الثالث:

- ‌البوذية:

- ‌[مبادىء بوذا الخلقية]

- ‌[أقسام البوذيين]

- ‌(أحدهما) البوذيون الذين أخذوا أنفسهم بالتعاليم السابقة

- ‌(ثانيهما) البوذيون المدنيون، وأولئك لم يطبقوا المنهاج الشاق

- ‌الكونفوشيوسية:

- ‌عقيدة الصين القديمة:

- ‌وثنية اليونان والرومان:

- ‌مزج الفلسفة بالدين:

- ‌التثليث فى الفلسفة:

- ‌ويلاحظ أمران:

- ‌أولهما- أنه التقت الأفلاطونية الحديثة مع الدين

- ‌الأمر الثانى- أن شيخ هذه المدرسة هو أمنيوس المتوفى سنة 242 ميلادية

- ‌وبذلك نقول مقررين أمرين:

- ‌أولهما

- ‌ثانيهما

- ‌العرب

- ‌دخول الوثنية أرض العرب:

- ‌لم ينسوا الله فى وثنيتهم:

- ‌القلوب فارغة من إيمان:

- ‌أرض النبوة الأولي

- ‌إدريس عربى:

- ‌نوح عربى:

- ‌هود نبى الله كان عربيا:

- ‌صالح عربى:

- ‌إبراهيم أبو العرب المستعربة وإسماعيل:

- ‌بناء الكعبة:

- ‌شعيب ومدين:

- ‌موسى كلف الرسالة فى أرض العرب:

- ‌أرض العرب مأوى الفارين بدينهم:

- ‌النصرانية:

- ‌رجل صالح:

- ‌أصحاب الأخدود:

- ‌اختصاص الجزيرة العربية

- ‌[أسئلة]

- ‌[الجواب]

- ‌أولها:

- ‌الأمر الثانى:

- ‌الأمر الثالث:

- ‌[عناصر تبوئ العرب الصدارة في الدعوة إلى الحق]

- ‌العنصر الأول: قوة فى النفس تقاوم، ولا تستسلم

- ‌العنصر الثانى: صفاء نفسى وقوة مدارك

- ‌العنصر الثالث: الأنفة وألا يطيعوا فى ذلة

- ‌الله أعلم حيث يجعل رسالته

- ‌مكة المكرمة

- ‌أول بناء فى مكة المكرمة وبلوغها هذه المنزلة:

- ‌مكة المكرمة موطن تقديس لأجل الكعبة المشرفة:

- ‌‌‌المكانوالزمان

- ‌المكان

- ‌الزمان:

- ‌البشارات

- ‌ويستفاد من هذا الكلام أمران:

- ‌أولهما:

- ‌ثانيهما:

- ‌محمد فى التوراة:

- ‌محمد فى الإنجيل:

- ‌على فترة من الرسل:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌محمد من أوسط قريش نسبا

- ‌النسب الطاهر

- ‌ قصى

- ‌ عبد المطلب

- ‌[صفات عبد المطلب]

- ‌الأولى- الطيبة والسماحة

- ‌الثانية- أنه كان مباركا

- ‌الثالثة- عزيمته، وإصراره على ما يقوم به من خير

- ‌عبد الله

- ‌الأم

- ‌صفات سامية فى امنة:

- ‌الجنين المبارك

- ‌أصحاب الفيل

- ‌ولد الهدى

- ‌ولادته قبل وفاة أبيه:

- ‌ظواهر تعلن مكانته

- ‌تاريخ مولده:

- ‌إرهاصات النبوة يوم مولده:

- ‌إرضاعه صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌اخبار شق الصدر

- ‌سفر أمه به إلى يثرب:

- ‌موت الطهور امنة:

- ‌فى حضن عبد المطلب

- ‌فى كنف أبى طالب

- ‌إلى العمل

- ‌حماية الله تعالى

- ‌إلى التجارة

- ‌سفره مع عمه

- ‌ارهاص وبشارة بالنبوة:

- ‌محمد التاجر:

- ‌مشاركته فى الأمور الجامعة

- ‌حرب الفجار

- ‌حلف الفضول

- ‌الزواج

- ‌خديجة:

- ‌ارهاصات الرحلة

- ‌الإملاك:

- ‌أغناه الله وواساه

- ‌إعادة بناء الكعبة

- ‌بناء قريش

- ‌الحمس:

- ‌التكامل الإنسانى فى محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌1- وفور عقله

- ‌2- بلاغته

- ‌3- الخلق الكامل

- ‌[أ] الرفق

- ‌[ب] العفو:

- ‌[ج] اخلاقه خارقة للعادة:

- ‌هيبة:

- ‌العفو والتسامح:

- ‌حياؤه:

- ‌جوده عليه الصلاة والسلام:

- ‌الشفقة والرأفة والرحمة:

- ‌صدقه وأمانته وعفته صلى الله عليه وسلم:

- ‌الوفاء ورعاية العهد:

- ‌العابد

- ‌عبادته قبل البعثة:

- ‌عبادته بعد البعثة:

- ‌الزاهد

- ‌زهده قبل البعثة:

- ‌زهده بعد البعثة:

- ‌قوت الزاهد:

- ‌الصابر المصابر

- ‌[أقسام الصبر]

- ‌أولها- الصبر على النوازل

- ‌القسم الثانى: الصبر على الحرمان من الأهواء والشهوات وقمعها

- ‌القسم الثالث: الصبر على ما ينزل من نوازل

- ‌العادل

- ‌ بعد البعثة

- ‌الشجاع

- ‌بعد البعثة

- ‌شجاعة النبى عليه الصلاة والسلام فى ميدان القتال:

- ‌الرجل

- ‌ أمور:

- ‌أولها: جمال تكوينه الجسمانى

- ‌الأمر الثانى- أن قلبه الطاهر كان يشع على وجهه بالنور

- ‌الأمر الثالث- شدة جاذبيته صلى الله تعالى عليه وسلم

- ‌ خاتم النبوة

- ‌تقدمة صفات النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌البشارات بالنبى المنتظر

- ‌ما كان يروج بين العرب من اخبار نبي يرسل

- ‌علم النبوة عند سلمان الفارسى قبل أن يلقاه:

- ‌يهود تخبر عن النبى [صلى الله عليه وسلم] المنتظر:

- ‌أخبار الكهان:

- ‌هل كان محمد عليه الصلاة والسلام يسمع اخبار الأحبار والرهبان والكهان

- ‌البعثة المحمدية

- ‌التجلى الأعظم

- ‌[التزام النبي ص بأمرين قبل أن يبعث]

- ‌أولهما

- ‌الأمر الثانى

- ‌التقى بالروح القدس:

- ‌قلق الزوجة الصالحة:

- ‌إلى ورقة بن نوفل:

- ‌فترة غياب روح القدس:

- ‌مدة الفترة:

- ‌الشهر الذى نزل فيه الوحى:

- ‌أول ما نزل من القران الكريم:

- ‌مراتب الوحى وشكله:

- ‌المرتبة الأولى:

- ‌والمرتبة الثانية

- ‌المرتبة الثالثة:

- ‌المرتبة الرابعة:

- ‌المرتبة الخامسة:

- ‌المرتبة السادسة:

- ‌ المرتبة السابعة

- ‌دعوة الحق

- ‌مراتب الدعوة:

- ‌الأولى النبوة:

- ‌المرتبة الثانية: إنذار العشيرة الأقربين

- ‌والمرتبة الثالثة: إنذار قومه

- ‌المرتبة الرابعة: عبر عنها ابن القيم بقوله

- ‌والمرتبة الخامسة: تبليغ الدعوة إلى غير العرب

- ‌أول من أسلم

- ‌الإسلام فى بيت النبوة:

- ‌إسلام على:

- ‌أول أسرة فى الإسلام:

- ‌النور يشرق من بيت النبوة

- ‌إسلام أبى بكر:

- ‌تتابع المخلصين:

- ‌فرضية الصلاة

- ‌وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين

- ‌بين أبى طالب وأبى لهب:

- ‌فاصدع بما تؤمر

- ‌[أقسام القلوب]

- ‌القسم الأول: القريب إلى الهداية

- ‌القسم الثانى: قوم امتلأت عقولهم بمعلومات سابقة

- ‌والقسم الثالث قسم غلبت عليه الضلالة

- ‌استجابة محمد صلى الله عليه وسلم لأمر ربه

- ‌السابقون السابقون

- ‌الاسلام يخرج إلى القبائل:

- ‌المناوأة

- ‌تلقى الناس للدعوة

- ‌الذين استجابوا لله والرسول

- ‌إسلام حمزة

- ‌اسلام عمر

- ‌بين عهدين

- ‌محاولة كفه عنهم بالاستمالة

- ‌لقاء أهل مكة المكرمة به لاستمالته:

- ‌جدلهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌الاستعانة باهل الكتاب

- ‌إسماعهم القران الكريم

- ‌الايذاء والفتنة

- ‌ايذاء الضعفاء:

- ‌بلال رضى الله عنه واخوانه:

- ‌ال ياسر رضى الله عنهم وغيرهم:

- ‌التهديد بالتشنيع:

- ‌مصابرة النبى صلى الله تعالى عليه وسلم:

- ‌الاذى ينزل بشخص النبى عليه الصلاة والسلام:

- ‌مهابة محمد عليه الصلاة والسلام:

- ‌لماذا لم يرهبهم صلى الله عليه وسلم بهيبته:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

- ‌خديعة:

- ‌النبي صلي الله عليه وسلم يناضل ويصابر فى مكة المكرمة

- ‌لقاؤهم بأبى طالب:

- ‌المقاطعة

- ‌الأرضة تمنع اسم الله تعالى من مواثيقهم:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم مستمر فى دعوته

- ‌سعى فى نقض الصحيفة

- ‌نقض الصحيفة فعلا

- ‌انطلاق الدعوة الاسلامية:

- ‌عام الحزن

- ‌أبو طالب، وإيمانه

- ‌خديجة رضي الله عنها

- ‌ما كان بعد موت أبى طالب

- ‌حماية الله تعالي

- ‌المهابة مع المحبة

- ‌محمد عليه الصلاة والسلام فى الطائف

- ‌عداس والنبى صلى الله عليه وسلم:

- ‌دعاء، وعفو، وإجارة:

- ‌سماع الجن له:

- ‌فى جوار المطعم بن عدى

- ‌انشقاق القمر

- ‌الإسراء والمعراج

- ‌الإسراء بالجسم:

- ‌المعراج بالروح

- ‌الاسراء والمعراج فى صحاح السنة

- ‌انتشار الاسلام في البلاد العربية

- ‌وفد نصارى نجران:

- ‌عرض الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل

- ‌جماعات تقبل الواحدانية:

- ‌ما بين الروم والفرس:

- ‌التقاؤه صلى الله عليه وسلم بالأوس والخزرج

- ‌ابتداء الاتصال بأهل يثرب:

- ‌يوم بعاث:

- ‌بدء إسلام الأنصار

- ‌العقبة الأولى أو البيعة الأولى

- ‌مصعب بن عمير:

- ‌أول جمعة أقيمت بالمدينة المنورة:

- ‌العقبة الثانية

- ‌البيعة:

- ‌علم قريش بالبيعة:

- ‌ابتداء الهجرة

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم يحرض المؤمنين على الهجرة:

- ‌الإذن للمؤمنين بالهجرة

- ‌هجرة النبى صلى الله عليه وسلم

- ‌ما اقترن بالهجرة المحمدية:

- ‌تنفيذ المؤامرة:

- ‌اجتمع المشركون فى العتمة:

- ‌النبى صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلي الهجرة وطريقهما:

- ‌فى غار ثور:

- ‌سراقة والسير إلى المدينة المنورة:

- ‌الركب يسير فى طريق وعر:

- ‌أم معبد:

- ‌خوارق أخرى:

- ‌وصول النبى صلى الله عليه وسلم إلى قباء

- ‌دخول المدينة

- ‌خطب لرسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌الخطبة التى رواها ابن جرير:

- ‌بناء مسجده عليه الصلاة والسلام

الفصل: ‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

مكة قام معه ابن الدغنة، فقال: يا معشر قريش إنى قد أجرت ابن أبى قحافة، فلا يعرض له أحد إلا بخير، فكفوا عنه.

أقام أبو بكر فى منزله، وكان له مسجد عند باب داره فكان يصلى فيه، وكان رقيقا، إذا قرأ القران استبكى، فيقف عليه الصبيان، والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيبته، فيمشى رجال قريش إلى ابن الدغنة، فقالوا: يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وله هيبة، ونحن نتخوف منه على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم فأته فمره بأن يدخل بيته فليصنع ما شاء، فمشى ابن الدغنة إليه، فقال يا أبا بكر إنى لم أجرك لتؤذى قومك، وقد كرهوا مكانك الذى أنت به وتأذوا بذلك منك فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت. قال أبو بكر: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله. قال: فاردد على جوارى. قال: قد رددته عليك. فقام ابن الدغنة. فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبى قحافة قد رد على جوارى، فشأنكم بصاحبكم» «1» .

رضى أبو بكر بالبقاء فى العذاب أو الإيذاء، وهو يصلى مجاهرا بصلاته أمام داره، أو فى فنائها غير معتمد إلا على الله تعالى، ورضى بأن يكون قريبا من النبى متعرضا لما يتعرض له عليه الصلاة والسلام، مطمئنا إلى الأذى راضيا بذلك الجوار الكريم.

‌متابعة الأولياء ومتابعة الأعداء:

261-

سافر أولئك المهاجرون إلى أرض الحبشة فرارا بدينهم من أن يفتنوا فيه، وفرارا بأنفسهم من المهانة والاستهزاء والسخرية، فوجدوا حاكما طيبا، أكرم مثواهم، وتركهم فى أرضه أحرارا مطمئنين، ولقد رق أبو طالب لفراق ابنه جعفر، وما نزل بالمسلمين من أبناء مكة حتى فروا فأرسل إلى النجاشى يوصيه بهم.

والنبى صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل إليه كتابا يشير فيه إلى البر بهم ويأمر بالإسلام معا، وهذا نص كتابه عليه الصلاة والسلام كما جاء فى رواية البيهقى.

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشى الأصحم ملك الحبشة:

«سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى روح «2» الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخته، كما خلق ادم بيده ونفخه.

(1) روى هذا الخبر النحاس في صحيحة.

(2)

كان خلقه بنفخة من روح القدس جبريل، وولد بكلمته.

ص: 362

وإنى أدعوك إلى الله واحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعنى فتؤمن بى وبالذى جاءنى، فإنى رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمى جعفرا، ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤك فأقرهم، ودع التجبر، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحته والسلام على من اتبع الهدى» .

هذا كتاب فيه متابعة لأمرين:

أولهما- أنه يدعو إلى الإسلام، فهو يتابع دعوته حيث تجد المناسبة والرجل المناسب، وقد وجد فيه قلبا مفتوحا يدخل فيه الحق مزدلفا، لأن العادل يستمع إلى الحق، وهو يكون ممن يستمعون إلى الحق فيتبعون أحسنه، وقد استجاب لدعائه، وامن بمحمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وقد أجاب دعوة النبى عليه الصلاة والسلام إلى الإسلام وكتب إليه عليه الصلاة والسلام يقول:

بسم الله الرحمن الرحيم إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من النجاشى الأصحم بن أبجر سلام عليك يا نبى الله من الله، ورحمة الله وبركاته، لا إله إلا هو الذى هدانى إلى الإسلام فقد بلغنى كتابك يا رسول الله، فيما ذكرت من أمر عيسى، فو رب السماء والأرض إن عيسى عليه السلام ما يزيد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقربنا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صدقا ومصدقا، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وأرسلت إليك بأريحا بن الأصحم ابن أبجر، فإنى لا أملك إلا نفسى، وإن شئت أن اتيك فعلت يا رسول الله، فإنى أشهد أن ما تقول حق» .

ونرى من هذا أنه أرسل ابنه فى وفد من الحبشة للالتقاء بالنبى عليه الصلاة والسلام، وبيان الخضوع لطاعة الله ورسوله.

الأمر الثانى- هو متابعته العطف على الذين هاجروا، فقد دعاه عليه الصلاة والسلام إلى الإحسان إليهم فى إقامتهم وألا يرهقهم بتجبر ذوى السلطان.

وإنه لفرط محبته عليه الصلاة والسلام للذين هاجروا، ولإحساسه بوجوب الوفاء، وشكر من يستحق الثناء، والمقابلة الحسنة بمثلها على الأقل فإن النبى عليه الصلاة والسلام عندما جاء الوفد الذى بعثه، كان عليه الصلاة والسلام يقوم بخدمته بنفسه، فقد روى البيهقى بسنده عن أبى أمامة قال:«قدم وفد النجاشى على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقام يخدمهم عليه الصلاة والسلام، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله، فقال إنهم كانوا لأصحابى مكرمين، وإنى أحب أن أكافئهم» .

ص: 363

262-

هذه متابعة لأصحابه الذين هاجروا إلى النجاشى، وهى متابعة الرحيم الحانى الذى يريد الاطمئنان على أصحابه الذين هاجروا إلى تلك الأرض النائية، ومازال بملكهما حتى صار فى صفهم، وطابت إقامتهم، وكرمهم تكريم الإخوة، لا تكريم العادل فقط.

هذه متابعة الأولياء، أما متابعة الأعداء، فقد كانت على النقيض من ذلك، لم يكتفوا بأن أخرجوهم من ديارهم وأموالهم، بل أرادوا النكاية بهم، وأن يجعلوا المهجر يلفظهم، كما لفظوهم لأنهم رأوهم ينشرون الإسلام ويمدون ظلاله الوارفة، فدفعتهم العصبية الجاهلية لأن يفسدوا عليهم طيب الإقامة، والقرار، واستقامة أمورهم، فأرسلوا من يحاول إفساد النجاشى عليهم.

قال ابن إسحاق: لما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد استقروا واطمأنوا بأرض الحبشة، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشى فيردهم عليهم، ليفتنوهم فى دينهم، ويخرجوهم من الأرض التى اطمأنوا بها، وآمنوا فيها، فأرسلوا عبد الله بن أبى ربيعة وعمرو بن العاص «1» ، وأرسلوا معهم هدايا يدفعونها للنجاشى ليغروه بها.

ولقد أزعج المهاجرين الأبرار. روى عن أم سلمة أنها قالت: لما نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار النجاشى أمينا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشى فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا النجاشى هدايا مما يستطرف من متاع مكة

فجمعوا أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن ربيعة وعمرو بن العاص، أمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته، قبل أن تكلما النجاشى فيهم، ثم قدما إلى النجاشى هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم

فخرجا حتى قدما على النجاشى ونحن عنده بخير دار، عند خير جار «1» .

لقد نفذ الرسولان ما أوصاهما به قومهما، وقدموا لكل بطريق هديته وذكروا عند إعطاء كل واحد هديته، أنه جاء إليهم غلمان من سفهائهم فى زعمهم، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينكم، وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم، فإذا تكلم الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فوعدهم البطارقة بما طلبوا.

مهدوا للقاء الملك ذلك التمهيد القائم على رشوة البطارقة، ثم التقوا بالنجاشى، وقدموا هداياهم قبل أن يتكلموا، ثم تكلموا فى غيبة المهاجرين، فقالوا:

(1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 334.

ص: 364

«أيها الملك انه قد ضوى «1» إلى بلدك منا سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا فى دينك، وجاؤا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من ابائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى «2» بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه.

عندئذ تكلم البطارقة، وحركت الهدايا لهواتهم، فقالوا: صدقا، أيها الملك، قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما، ليرداهم إلى بلادهم.

أحس النجاشى بالحملة الباطلة، فرد الكيد ردا حاسما وقال: لا أسلمهم إليهم ولا يكاد قوم جاورونى، ونزلوا بلادى واختارونى على من سواى، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذا فى أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاورونى.

ذلك هو القول الحق من حاكم عادل، ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ليواجههم الرجلان، جاؤا، ودعا الأساقفة.

قال لهم: ما هذا الدين الذى فارقتم به فيه قومكم، ولم تدخلوا به فى دينى (وكان لا يزال نصرانيا) ولا فى دين أحد من هذه الملل؟.

فرد عليه جعفر بن أبى طالب قائلا: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأتى الفواحش ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوى منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنواحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن واباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور

فعدد عليه أمور الإسلام. ثم قال: فصدقناه وامنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله واحده، فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا، ليردونا إلى عبادة الأوثان

وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا فى جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك.

قال النجاشى- متعرفا دارسا-: هل معك مما جاء به عن الله شيء «3» .

(1) ضوي معناها لجأ.

(2)

أي أبصر بهم

(3)

الخبر بطوله روته أم المؤمنين أم سلمة، وقد تصرفنا في بعض الكلمات تصرفا لا يخرج الخبر عن ألفاظه.

ص: 365

قال له جعفر: نعم. فقال له النجاشى: هات ما عندك. فقرأ عليه صدرا من كهيعص.

تأثر النجاشى من وضوح الحقائق بين يديه، وكان فيما قرأه خبر زكريا وما وهبه الله تعالى من يحيى، ثم جاء فى حمل مريم إذ جاء الملك، وقال لها إنى رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا

ثم ولادة عيسى عليه السلام.. إن النجاشى كان مؤمنا يدرك الحق إذا ألقى عليه، وكان عادلا، وكان صادق النظر لإيمانه وعدله.

فبكى من فرط تأثره، وإدراكه الحق حتي اخضلت لحيته، وقالوا إن أساقفته وافقته ابتداء حين سمعوا ما تلي عليهم.

قال النجاشي: إنه والذي جاء به عيسي ليخرج من مشكاة واحدة.

ثم قال للاثنين اللذين بعثهما القرشيون: انطلقا، فو الله لا أسلمهم إليكما ولا يكادون.

263-

هذه هي الجولة الأولي في الكيد الذي يكيد الباطل لأهل الحق، وقد كانت النتيجة إحقاق الحق، ولكن عمرو بن العاص لا يقف عند الهزيمة الأولي في الكيد، فهو واسع الباع فيه، فكانت المجاوبة بينه وبين صاحبه الذي هو أنقي نفسا.

قال عمرو لصاحبه: والله لاتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم.

فقال له صاحبه: لا تفعل، فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا.

قال عمرو الماكر: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد.

جاء الغد، والتقى عمرو بالنجاشى، ومعه صاحبه عبد الله بن ربيعة.

قال عمرو: أيها الملك، إنهم يقولون فى عيسى بن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم، فسلهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم وقد وقعوا فى حيرة وخوف، فقال بعضهم: ما تقولون فى عيسى بن مريم، ولكن الذين تحملوا أذى قومهم على استعداد لأن يتحملوا غيره، ولذا قالوا مصممين: نقول والله ما قال نبينا كائنا فى ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا على النجاشى قال لهم: ماذا تقولون فى عيسى بن مريم؟.

قال جعفر: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم يقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

ص: 366

عندما سمع النجاشى هذا ضرب بيده على الأرض، فأخذ منها عودا، ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود.

والبطارقة حاضرون فتنافروا حوله حين قال ما قال: فقال: وإن نخرتم.

ثم التفت إلى المسلمين من أصحاب محمد بن عبد الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ما معناه: اذهبوا فأنتم الامنون، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لى جبلا من ذهب وأنى اذيت رجلا منكم.

انتصر النجاشى الهمام للحق وأهله- ودخل فى الإسلام- كما تدل على ذلك مكاتبته للنبى صلى الله تعالى عليه وسلم التى نقلناها من قبل، وقد رد على قريش هديتها، كما رد مكيدتها فى قومها وعشيرتها.

ولكن الهدية فعلت فعلها فى البطارقة، ويظهر أنهم بعد إسلامه تامروا مع بعض رجال الحبشة، فخرج عليه رجل منهم فكان المسلمون فى فزع، وتقول السيدة أم المؤمنين أم سلمة:«فو الله ما علمنا حزنا أحزننا قط كان أشد علينا من حزن حزناه عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشى، فيأتى رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشى يعرفه» .

وقد أخرجت أم سلمة والزبير بن العوام الذى كان من المهاجرين، وقد عاد الزبير يحمل البشرى بانتصار النجاشى على خصمه، ففرح المهاجرون فرحة ما فرحوا مثلها.

264-

استقام الأمر للمهاجرين فى الحبشة، ولم يذكر التاريخ أكانوا يتولون عملا فيها أم كانوا فى ضيافة النجاشى، لم يذكر التاريخ شيئا من ذلك، لأن مؤرخى السيرة النبوية الطاهرة ما كانوا يعنون إلا بحال المسلمين. وحال الإسلام، وتحمل المسلمين للأذى فى سبيل عقيدتهم، يفصلون فى ذلك ما يشاء طالب الحقيقة أن يعرفه، ولكنهم ما كانوا يعنون بالأعمال المادية من صناعة ومكاسب! ولكن أردنا أن نعرف ما طواه التاريخ ولم يذكره، نتعرفه من صور الرجال الذين هاجروا، فلابد أن نتصور من صورهم أحوالهم.

لقد كان من بينهم ذو النورين عثمان التقى الطاهر، وهو مع ذلك التاجر الماهر، وقد خرج ومعه بعض ماله غالبا، وما كان ليترك عمله فى التجارة حتى تأكل النفقة ماله، ولم يثبت فى التاريخ أنهم كانوا فى ضيافة النجاشى، لأنهم كانوا يتزايدون فى الهجرة ولا ينقصون، وإذا كان لابد من فرض فى هذا، فهو أننا نتصور أنه كان يعينهم ليتمكنوا من أعمالهم الكاسبة التى تدر عليهم ما يكفيهم بالمعروف من غير إسراف، ولا تقتير.

ص: 367