الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستعانة باهل الكتاب
244-
سبق المشركون إلى الإنكار، فكذبوا بالحق لما جاءهم وسدوا مداخل الإيمان إلى قلوبهم، والناس رجلان: رجل يدرك الحق بعقله وقلبه فيدركه بمجرد سماعه، وهذا يطلب الدليل ليطمئن قلبه، وليزداد إيمانا، فالدليل لا ينشيء الإيمان فى قلبه ولكنه يزيده تثبيتا. هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً «1» .
واخر يسارع إلى الكفر، ويسابق بالإنكار، فيكون قلبه أغلف قد سدت مداخل الإيمان إليه، وهم الذين قال الله تعالى فيهم: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «2» ، وأولئك لا يطلبون الدليل ليسيروا فى نوره، بل يطلبونه ليعجزوا من يخاصمهم، وينحرف بهم القول، وانظر ما قاله تعالى فى شأن عتاة المشركين الذين كانوا يقاومون النبى عليه الصلاة والسلام،، فهو يقول تعالت كلماته: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ «3» .
أحس المشركون بعد المطالب التى قدموها أن أحدا لم يفقد الثقة بمحمد صلى الله عليه وسلم، بل كانت دليلا على حمقهم، وانهوائهم فى هاوية من التفكير ليس معها رشاد، إذ كيف الدليل الذى لو نفذ لماتوا قبل أن يستجيبوا، كإنزال مطر من حجارة أو عذاب أليم.
عجزوا عن الاستدلال الذى كشف جهالتهم، فعمدوا إلى الاستدلال الإضافى بالاستعانة بأهل الكتاب عساهم أن يعينوهم، على وقف التيار العذب الذى يدخل به الناس فى الإيمان.
245-
روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا: سلوهم عن محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن تصفوا لهم صفته، وأخبراهم بقوله: إنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
خرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.
فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبى مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فروا فيه رأيكم:
(1) سورة التوبة: 154.
(2)
سورة البقرة: 7.
(3)
سورة الأنفال: 32، 33.
(أ) سلوه عن فتية ذهبوا فى الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب.
(ب) وسلوه عن رجل طواف: طاف مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه.
(ج) وسلوه عن الروح ماهى.
فإن أخبركم بذلك فاتبعوه، وإن لم يخبركم، فإنه رجل متقول، فاصنعوا فى أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا:
يا معشر قريش قد جئناكم بما يفصل ما بينكم وبين محمد: قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبراهم بها، فجاؤا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألوه عما أمر أحبار يهود.
ويظهر أنهم ظنوا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سيردهم بتكرار دعوة الحق لهم كما فعل أول الأمر. ولكن خاب ظنهم. فقد أمهلهم، ولم يردهم لأن ذلك مما يمكن أن تشمل معجزته الكبرى، وهى القران الكريم،. ولذا وعدهم بالإجابة إن أجلوه، لأنه يتكلم من عند الله، فلا علم له إلا من عند الله العلى القدير. فقال لهم: أخبركم غدا بما سألتم عنه، ولم يستثن أى لم يعلق الإجابة على مشيئته الله.
انصرفوا عنه ومكث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خمس عشرة ليلة، لا يحدث له فى ذلك وحى، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة المكرمة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمسة عشر قد أصبحنا فيها لا يخبرنا فيها بشيء مما سألناه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكث الوحى عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة المكرمة ثم جاء جبريل.
لماذا تأخر الوحى هذه المدة، ونجيب عن ذلك بجوابين:
أولهما: أنه لم يستثن عندما قرر أنه سيجيب غدا، فلم يقل إن شاء الله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «1» .
وثانيهما: أن مجيء الإجابة بعد طول انتظارها، وإرجافهم نحوها، وإشاعتهم عجز محمد عليه الصلاة والسلام عن الإجابة، تكون للاجابة فائدة أنها تكون أوقع، إذ تكون فى وقت الحاجة إليها، فيكون فضل تمكين فى النفس، ويكون التحدى أشد تثبيتا فى النفس وأقوى لتكذيبهم ورد كيدهم فى نحرهم، إذ يكونون قد تقاولوا فى ذلك، فيكون ردهم قد علمه كل من أشاعوا بين يديه عجز محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فتكون دعوة التصديق للنبى عليه الصلاة والسلام.
(1) سورة الكهف: 22، 23.
وفوق ما تقدم فى الأمرين أن التأخير يدل على أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يأتى بهذا الكتاب من عنده، وإنما يأتيه عن الله تعالى علام الغيوب الذى يعلم ما خلق وهو السميع البصير.
246-
أجيبوا عن الأسئلة الثلاثة- أجيبوا عن السؤال الأول بأن أولئك الفتية هم أهل الكهف الذين ذكروا فى السورة التى سميت بأسمائهم- ولننقل جزا من هذه السورة، فقد قال تعالت كلماته:
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً. وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً. وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ، ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً
…
«1» إلى اخر القصة التى تختم بقوله تعالى:
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً.
هذه إجابة السؤال الأول، وهو شطر من سورة الكهف، وتلاوته تسمعهم القران الكريم، وإسماعهم القران الكريم فى ذاته دعوة إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، وبتلاوته يدركون معنى الإعجاز.
وأما الإجابة عن السؤال الثانى، وهو الرجل الطواف، فقد جاءت فى اخر سورة الكهف، إذ يقول تعالت كلماته وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً. فَأَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً. قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً.
(1) سورة الكهف: 9- 11.